خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ
٧١
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ قَالَ }: موسى.
{ إِنّهُ }: أى الله أو الشأن.
{ يَقُولُ }: أى الله.
{ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ }: لا وما بعدها نعت بقرة، على حد ما مر فى { لا فارض } أى بقرة غير ذلول أو بقرة لا هى ذلول أو لا عاطفة على نعت محذوف، أى بقرة مستصعبة لا ذلول، وذلول فعول بمعنى فاعل، ولذلك لم يقل ذلولة بالتاء. ولو كان بمعنى مفعول لقيل ذلولة لكون الغالب ذلك وهو صفة مبالغة، أى غير كثيرة الذل لأنها لم تذلل لشق الأرض وسقيها للزرع، وإنما فيها الذل المخلوق فى مطلق الأنعام كما قال الله تعالى { وذللناها لهم } وقرأ أبو عبدالرحمن السلمى: لا ذلول بفتح اللام على أن لا هى العاملة عمل أن وخبرها محذوف، والجملة نعت بقرة، أى لا ذلول فى الموضع الذى هى فيه، وذلك كناية عن أنها غير ذلول، إذ لو كانت ذلولا لكان فى الموضع الذى هى فيه حيوان ذلول هو هى، كما يقال مررت برجل لا بخيل ولا جبان أى فى الموضع الذى هو فيه.
{ تُثِيرُ الأَرْضَ }: تقلب الأرض للزراعة، والجملة نعت ذلول أو بقرة داخلة فى النفى، أى انتفى ذلها، وانتفى إثارتها الأرض هذا هو الصحيح، ومذهب الجمهور. وقال بعضهم: إنها مستأنفة مثبتة، أى من صفتها أنها تثير الأرض ولا تسقى الحرث، وعلى الإثبات بجو كونها نعت ذلول كأنهُ قيل: ليست بالذلول التى تثير الأرض، وإن قلت يلزم على هذا أن يفهم من الكلام أنها الذلول التى لا تثير الأرض؟ قلت: لا يلزم. لأن الكلام حينئذ يكون من القضايا التى تصدق بنفى الموضوع من أصله، أى لا ذلول هنا أصلا مثيرة ولا غير مثيرة.
{ وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ }: معطوف على تثير الأرض، فهى فى حكمه من استئناف أو نعت، وإنما أعيدت لا على جعل تثير داخلا فى النفى للتأكيد، وليكون الكلام نصا فى عموم السلب بعد تسليم دخول تثير فى النفى، ولو أسقطت لا لكان محتملا لسلب العموم، وقرئ تسقى بضم التاء من أسقى بالهمزة، والساقية والمسقية التى ترفع الماء من البئر للزراعة مثلا كما هنا.
{ مُسَلَّمَةٌ }: سلمها الله عز وجل من العيوب، قاله ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: سلمها الله من الألوان وجعل لونها واحداً، وعلى هذا الوجه يكون قوله: { لا شية فيها } تأكيداً له فى المعنى، وكالنتيجة له فيكون قوله: { لا شية } بمعنى سلمت من الألوان، كأنه قيل سلمها الله فسلمت، والمعنى لم يخالط صفرتها لون آخر ولو قليلا، ويقال سلم له كذا إذا خلص له، وقيل سلمها أهلها. قلت أو الله من العمل، لأن كل ما فعله مخلوق فالله خالقه وليس قوله مسلمة بناء مبالغة من السلامة، كما قيل لأن التشديد فى هذه الكلمة للتعدية ولا تحصل التعدية بدونه وبدون الهمزة فى مادة السلامة من هذا المعنى، ولولا التشديد لقيل سالمة أو سليمة، إلا أن يراد أن التعبير بالتسليم أو كد منه بالسلامة ترجيحاً للنسبة الإيقاعية على الوقوعية، ولأن التشديد يكون فى الجملة للتأكيد.
{ لاَ شِيَةَ فِيهَا }: الشية النكتة وهى لون يخالف سائر لون الجسم، وأصله مصدر بمعنى إثبات النكتة، ثم سميت به النكتة نفسها، يقال وشاه يشيه وشاءَ وشيئة، كوعد يعد ووعد عدة إذا خلط لونه بلون آخر كالرقم والخطوط فى الثوب، ففاء الكلمة محذوف، والمعنى أنه ليس فى تلك البقرة لون سوى الصفرة، حتى قال صاحب الكشاف وهو المعبر عنه بجار الله: أن قرنها وظلفها أصفران، وعلى مقتضى كلامه نحكم بأن أهداب عينها صفر أيضاً وهذا لم يخطر ببالى حتى اطلعت عليهِ فى كلامه، وإنما أخذه من عموم النفى والذى عندى أن الله سبحانه إنما نفى الشيه والشئ إنما ينفى عادة عما قد يتوهم ثبوته فيه والعادة لم تجر بتسمية لون القرن والظلف نكتة ولا شية. وإنما تسمى ما خالف فى الجلد باقيه، وقول ابن زيد: صفراء كلها لا يعين ما قاله الكشاف، بل يحتمل ما ذكرته. وقال مجاهد: لا شية فيها لا سواد ولا بياض، وهو تمثيل بنفى الألوان لا تخصيص بنفى اللونين، وقال قتادة: لا بياض فيها، وعن عطاء: لا عيب فيها، والتحقيق ما ذكرته أولا وهو قول الجمهور ومحمد بن كعب.
{ قَالُوا الآنَ }: ظرف زمان مبنى على الفتح لأنهُ اسم إشارة، فلو دخل عليها جار كن وإلى لبقى مفتوحاً.
{ جئْتَ بِالْحَقِّ }: أى الحق الواضح أو بالحق التام، لأن موسى لا يجئ إلا بالحق، فالآية من باب حذف النعت، لأنهم أرادوا أنهُ جاء بالحق الآن فقط، وجاء قبل ذلك بباطل لكفروا. قال ابن هشام فى حذف الصفة: { قالوا الآن جئت بالحق } أى الواضح وإلا كان مفهومه كفراً.. انتهى. ويجوز كون أل للكمال وتقديم الآن للحصر، أى ما جئت بالحق الذى يوضح لنا البقرة وصفتها، ويحققها إلا الآن وما جئت به قبل ذلك من وصفها حق خفى لم يكف، ويحتمل أن ينفوا الحق إلا الآن على جهة غلظ الطبع والجفاء، لا على جهة قصد العناد ولا يعذرون فى هذا. وقرئ الآن بالاستفهام فهو على هذه القراءة بهمزة ممدودة بألف أل، سواءَ لم تنقل حركة همزة أن إلا لام أل ولم تحذف همزة أن أم نقلت حركتها، وحذفت كما قرأ نافع فى رواية ورش، فإنه كان يلقى حركة الهمزة على الساكن قبلها فيتحرك بحركتها، وتسقط هى من اللفظ وذلك إذا كان الساكن غير مد، وكان آخر كلمة والهمزة أول كلمة أخرى، سواء كان الساكن تنويناً كقوله تعالى:
{ { ولم يكن له كفواً أحد } أو لام أل نحو: الأرض فان أل كلمة أخرى غير التى بعدها أو سائر حروف المعجم، نحو: (من آمن)، و (ألم أحسب) وبناء ابنى آدم، واستثناء أصحاب أبى يعقوب عن ورش (كِتَابِيَه إِنى ظننت) فسكنوا الهاء لأنه جئ بها للوقف والنقل، إنما هو فى الوصل، قال أبو عمرو الدانى: وبذلك قرأت على مشيخة المصريين، وبه أخُذ. وقرأ الباقون بتحقيق الهمزة فى جميع ما تقدم مع تخلص الساكن قبلها، واختلفوا فى { { الآن وقد كنتم } } { { الآن وقد عصيت } فى يونس، وفى قوله: { { عاداً الأولى } فى النجم كما يأتى إن شاء الله.
{ فَذَبَحُوهَا }: عطف على محذوف أى ثم وجدوها فذبحوها أو وجدوها فذبحوها، والمحذوف معطوف على قالوا، يعنى أنهم وجدوا بقرة على الصفات كلها التى وصفها موسى عليه السلام، ومرادى بوجودها حصولها بالشراءِ فى أيديهم، ولذا كان العطف بالفاء الاتصالية، ويحتمل تقدير وجود الملاقاة معها فيقدر محذوف آخر، أى ثم وجدوها عند يتيم بار بأمه واشتروها منه، وقد بلغ أو لم يبلغ، لأنهُ وقع برضى أمه، وبأمر الوحى، ولأن ذلك مصلحة له فذبحوها.
{ وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ }: هذه الجملة الكبرى حال من واو ذبحوها، يعنى أنهُ حصل ذبحهم بعد ما بعدوا عن الذبح بالاستقصاء فى السؤال، والحال محكية كأنه قيل إنهم وقت الذبح قد اتصفوا بعدم المقاربة للفعل قبله، وذلك أنهم بعدوا عن الفعل وهو الذبح، ثم ذبحوا، فإثبات (كاد) إثبات ونفى نفى، وليس كما يقال إن نفيها إثبات وإثباتها نفى، ثم رأيت القاضى وان هشام ذكرا أن نفيها نفى، قال ابن هشام: يقول المعربون إن كاد إثباتها نفى ونفيها إثبات، فإذا قيل كاد يفعل فمعناه أنَّهُ لم يفعل، وإذا قيل لم يكد يفعل فمعناهُ أنه فعل، والصواب خلاف قولهم، وقد استدلوا على الأول بقوله تعالى:
{ { وإن كادوا ليفتنونك } ، وقول الشاعر:

كادت النفس أن تفيض عليه

وعلى الثانى بقوله: { وما كادوا يفعلون }، وقد اشتهر ذلك بينهم حتى جعله المعرى لغزاً فقال:

أنحوىَّ هذا العصر ما هى لفظة جرت فى لسانَىْ جرهم وثمود
إذا استعملت فى صورة الجحد أثبتت وإن أثبتت قامت مقام جحود

والصواب أن حكمها حكم سائر الأفعال فى أن نفيها نفى وإثباتها إثبات وبيانه أن معناها المقاربة، ولا شك أن معنى كاد يفعل قارب الفعل، وأن معنى ما كاد يفعل ما قارب الفعل، فخبرها منفى دائماً، أما إذا كانت منفية فواضح لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفى مطلقاً حصول ذلك الفعل، ودليله: { إذا أخرج يده لم يكد يراها } ولهذا كان أبلغ من أن يقول لم يرها، لأن من لم يرقد يقارب الرؤية، وأما إذا كانت المقاربة مثبتة، فإن الأخبار بقرب الشئ، يقتضى عرفاً عدم حصوله، وإلا لكان الإخبار حينئذ بحصوله لا بمقاربة حصوله، إذ لا يحسن فى العرف أن يقال لمن صلى قارب الصلاة، وإن كان ما صلى حتى قارب الصلاة، ولا فرق فيما ذكرناه بين كاد ويكاد، فإن أورد على ذلك (وما كادوا يفعلون) مع أنهم قد فعلوا، إذ المراد بالفعل الذبح، وقد قال تعالى: { فذبحوها } فالجواب أنه إخبار عن حالهم فى أول الأمر، فإنهم كانوا أولا بعد أمن ذبحها بدليل ما تلا علينا من تعنتهم، وتكرر سؤالهم، ولما كثر استعمال مثل هذا فيمن انتفت عنه مقاربة الفعل أولا، ثم فعله بعد ذلك توهم من توهم أن هذا الفعل بعينه هو الدال على حصول الفعل وليس كذلك، وإنما فهم حصول الفعل من دليل آخر، كما فهم فى الآية من قوله: { فذبحوها.. } انتهى.
قال القاضى: فإذا دخل عليه النفى قيل معناه الإثبات مطلقاً، وقيل ماضياً، والصحيح أنه كسائر الأفعال، ولا ينافى قوله: { وما كادوا يفعلون } قوله: { فذبحوها } لاختلاف وقتيهما إذ المعنى أنهم ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم وانقطعت تعللاتهم، ففعلوا كالمضطر الملجأ إلى الفعل. وقيل: { ما كادوا يفعلون } لخوف الفضيحة فى ظهور القاتل، وقيل لغلاء ثمنها، وقيل لعزة وجودها فى هذه الأوصاف جميعاً. قال محمد بن كعب القرضى: كان ذلك لغلاء ثمنها.