خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٨١
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ بَلَى }: نفى للنفى الذى فى قولهم { لن تمسنا } أى لن تمسكم النار إلا أياماً معدودة، بل تمسكم أبداً ونفيه بهذه الكلمة كلمة (بلى) فقط أبلغ لكونه كالبرهان على بطلان قولهم، لأنه نفىٌ أعم من كونه دائماً أو غير دائم، وتختص بلى بالنفى غالباً وتدركونها بعد الإثبات، واستشهد له ابن هشام بما فى صحيح البخارى فى كتاب الإيمان "أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: بلى" ، وبما فى صحيح مسلم فى كتاب الهبة: "أيسرك أن يكونوا لك فى البر سواء؟ قال: بلى، قال: أبداً. أو بما فيه أيضاً أنه قال: أأنت الذى لقيتنى بمكة؟ فقال له المجيب: بلى" .
{ مَنْ كَسَبَ }: الكسب جلب النفع، والاكتساب استجلابه، ولكن علق الكسب هنا بالشر وهو السيئة، على طريق التهكم، بمن فعل السيئة، وأحاطت به خطيئاته، ووجه ذلك أنه شبه عمل السيئة بعمل الحسنة جامع الرغبة فى كل، وعلاج العمل فاستعار لعمل السيئة ما وضع لعمل الحسنة، والخير هو الكسب واشتق منه كسب وسيئة قرينة ووجه آخر أنه أطلق الكسب المخصوص بالخير على مطلق العمل استعمالا للخاص فى العام، فاشتق منه كسب فهو مجاز مرسل تبعى.
{ سَيِّئَةً }: خصلة قبيحة وهى الذنب الكبير، سواء كان نفاقاً أو شركاً، ومن الذنوب الكبيرة الإصرار فإنه نفسه كبيرة سواء كان على الصغيرة أو الكبيرة، والدليل على أن السيئة الكبيرة قوله: { فأولئك أصحاب النار } ويحتمل وجه آخر وهى أن السيئة الذنب صغيراً أو كبيراً، ثم يختص الكلام بالكبير بقوله: { وأحاطت به خطيئَاته }. وإن قلت روى قومنا عن ابن عباس رضى الله عنهما أن السيئة هنا الشرك وكذا قال الشيخ هودرحمه الله إنها الشرك، قلت: ما ذكرته أولى مما ذكراه، فإن لفظ السيئة عام وحمله على العموم أولى إذ ذلك تفسير منهما لا حديث ولا سيما أنهما وقومنا يعترفون بأن الكبيرة تدخل فاعلها النار، ولم يحصروا دخولها على الشرك، ومعترفون بأن لفظ الخلود يطلق على المكث الكبير سواء كان أبديا أو غير أبدى، وادعاء أن الخلود فى الموحدين بمعنى المكث الطويل، وفى المشرك بمعنى المكث الدائم استعمال للكلمة فى حقيقتها ومجازها وهو ضعيف، وأيضاً ذكر إحاطة الخطيئات ولو ناسب الشرك كغيره لكنه أنسب بغيره لأن الشرك أقوى.
{ وَأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَاتُهُ }: ربطته ذنوبه وأوجبت له دخول النار فصار لا خلاص له منها كمن أحاط به العدو أو الحريق، أو حائط السجن وذلك بأن مات غير تائب، وقيل معنى الإحاطة أن ذنبه أغلب من طاعته، ومن مشدقة أصحابنا من يقول بذلك، شبه الخطيئات بنحو الحائط الدائر فى مضرة على شئ، وأحاطت رمزاً وشبه إيباق خطيئاته له إلى النار وقصرها إياه على النار بدوران الشئ الضار على شئ، وقرأ غير نافع: خطيئته بالإفراد والهمز وقرأ بعض من هو خارج العشرة خطاياه وقرئ خطيئته بالإفراد، وقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فى الياء وخطياته بالجمع والإدغام كذلك، وتوحيد الموحد وإقراره عن الإحاطة لاتفاق الأمة على جواز دخول الفاسق النار، وقد غلط القاضى، والخطيئة فى قراءة الإفراد يحتمل أن تكون هى السيئة المذكورة أولا، ويحتمل أن يراد به الجنس كما صرحت به قراءة الجمع، وفى قراءة الجمع واحتمال إرادة الجنس فى قراءة الإفراد تلويح بأن المعصية تجر لأخرى مثلها ودونها وأكبر، وهكذا إذا لم يشعر بالتوبة عنها ويستحسنها بالطبع ويبغض من يعارضه عنها وما يعارضه عنها، ويعادى على ذلك ويكذب ناصحه وهذا غير بعيد فى الموحد، وذلك أشد عقابا أن يعاقب على معصية بجذلانه إلى أخرى، ومن ذلك فى المشرك قوله تعالى:
{ ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأَى أن كذبوا بآيات الله } والفرق بين السيئة والخطيئة أن السيئة عامة فيما يقصد بالذات وفيما يقصد بالعرض، والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض، لأن اشتقاقها من الخطأ، فالزنى مثلا سيئة، والنوم على بطنها مثلا بعده خطيئة ترتبت عليهِ، ومثل أن يقصد امرأة بالزنى فلما رأى وجهها استحسنها فقبله، فهذا التقبيل خطيئة. وسئل الحسن عن الخطيئة فقال: سبحان الله أن أراك ذا لحية ولا تدرى ما الخطيئة؟ انظر فى المصحف فكل آية نهى الله فيها عن خصلة وأخبرك أنه من عمل بها أدخله النار فهى خطيئة، وهذا الذى قال إنما هو فى القرآن وليس متعيناً فى جميعهِ أيضاً، وأما فى غيره فالخطيئة تحتمل الصغيرة وكذا السيئة والذنب والمعصية والله أعلم.
فصل
مذهب حمزة فى الهمزة المتوسطة الساكنة أن تبدل حرفاً خالصاً كالمؤمنين ويؤفكون، وكدأب والذئب والبئر وبئس والهدى أننا والذى أؤتمن ولقاؤنا وفرعون أؤتونى، واختلف الأندلسيون فى إدغام الحرف المبدل من الهمزة، وفى إظهاره فى قوله: ورئياً، وتؤوى، وتؤويه، ومنهم من يدغم اتباعاً للخط، ومنهم من يظهر لعروض البدل، والوجهان جائزان جيدان، واختلف أهل الأداء فى تغير حركة الهاء مع إبدال الهمزة ياء قبلها فى قوله عز وجل: { أنبئهم } و { نبئهم } فكان بعض يكسرها للياء وبعض يضمها لعروض الياء وهما صحيحان، وإذا تحركت الهمزة وهى متوسطة فما قبلها يكون متحركاً وساكناً، فإن كان ساكناً وكان أصلياً وسهلتها ألقيت حركتها على ذلك الساكن وحركته بها ما لم يكن ألفاً كقوله: شيئاً وخطئاً، والمشئمة وكهيئة ويجأرون ويسألون والقرآن ومنسوماً ومسئولا وموئلا والموءودة واسأل، وإن كان زائداً أبدلت وأدغمت إن كان ياء أو واوا نحو قوله عز وجل:
{ هنيئاً مريئاً } وبريئون وبريئاً وخطيئة وخطيئاتكم ولم تأت الواو فى القرآن ساكنة، فإن كان الساكن ألفاً مبدلة أو زائدة جعلت الهمزة بعدها بين بين، وإن شئت مكنت الألف قبلها، وإن شئت قصرتها، والتمكين أقيس وذلك كقوله: نساؤكم وأبناؤكم، وماء وغثاء، وسواء وهواء، ومن آبائهم وملائكته، وإذا كان قبل الهمزة متحركاً فإن انفتحت هى وانكسر ما قبلها أو انضم أبدلت فى حال التسهيل مع الكسرة ومع الضمة واواً وذلك نحو قوله: وينشئكم، وإن شانئك، والخاطئة، ولئلا ولؤلؤاً، ويؤده ويؤلف، ثم بعد هذا يجعلها بين بين فى جميع أحوالها وحركتها وحركات ما قبلها، فإن انضمت جعلتها بين الهمزة والواو نحو قوله عز وجل: ويؤسا ورءوف وبرءوسكم ولا يؤده ومستهزءون وليواطئوا ويأمنوكم، ما لم تكن صورتها ياء نحو: أنبئكم وسنقرئك وكان سيئة فإنك تبدلها ياء مضمومة على مذهب حمزة فى اتباع الخط عند الوقف على الهمزة، وهو قول الأخفش أعنى التسهيل فى ذلك بالبدل، وإن انفتحت جعلتها بين الهمزة والياء نحو قوله: جبريل وييئس الذين وسئل موسى ويومئذ وحينئذ وجميع ما يسهله حمزة من الهمزات فإنما يراعى فيها خط المصحف دون القياس، وقد اختلف الأندلسيون فى تسهيل ما يتوسط من الهمزات بدخول الزوائد عليهن نحو قوله عز وجل: { أفأنت }، و{ فبأى آلاء } و{ بأيكم } و{ كائن }، و{ كأنه } و{ فلا أقطعن }، والأرض، والآخرة، وكذا ما وصل من الكلمتين فى الرسم فجعل كلمة نحو قوله: تعالى هؤلاء، وهاأنتم، ويا أيها، ويا أخت ويا آدم، ويا أولى الألباب. فبعض يسهل اعتداد بتوسطهن وبعض يحقق اعتداداً بكونهن مبتدءَات، وكلاهما جيد وبهما ورد نص الرواة. والله أعلم.
فصل
اعلم أن الهمزة إذا كانت مع حرف المد واللين فى كلمة واحدة توسطت أو تطرفت، فلا خلاف فى تمكين حرف المد زيادة نحو قوله عز وجل: أولئك، وشاء الله، والملائكة، وجئ، وجيئ وخطيئات وخطيئة، وإذا كانت أول كلمة وحرف المد آخر كلمة أخرى فإنهم يختلفون، فابن كثير وقالون بخلاف عنه، وأبو شعيب وغيره عن اليزيدى يقصرون حرف المد ولا يزيدونهُ تمكيناً على مافيه من المد الذى لا يوصل إلا به، كقوله عز وجل:
{ بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } { وفى آياتنا } وهؤلاء المذكورون أقصروا مدا فيهِ من الضرب الأول المتفق عليهِ، والباقون يطولون حرف المد فى ذلك زيادة، وأطولهم مدا فى الضربين جميعاً ورش وحمزة ودونهما عاصم ودونهُ ابن عامر والكسائى ودونهما أبو عمرو من طريق أهل العراق، وقالون من طريق أبى نشيط بخلاف عنه، وإذا كانت الهمزة قبل حرف المد سواءُ حققت أو ألقى حركتها على ساكن قبلها، أو أبدلت كآدم وآمن ولقد آتينا، ومن أوتى ولئلا وقريش وللإيمان فأهل الأداء من مشيخة المصريين الآخذين برواية أبى يعقوب عن ورش يزيدون فى تمكين حرف المد فى ذلك زيادة متوسطة على مقدار التحقيق، واستثنوا من ذلك قوله: بنى إسرائيل فلم يزيدوا فى تمكين الياء فيه، وأجمعوا على ترك الزيادة إذا سكن ما قبل الهمزة، وكان الساكن غير حرف مد ولين نحو قوله: مسئولا ومذءوماً والقرآن والظمآن وكذلك إذا كانت الهمزة مجتلبة للابتداء نحو: اتمن، وإيت بقرآن، وائذن لى والباقون لا يزيدون فى إشباع حرف المد فيما تقدم. وبالله التوفيق.
{ فأُولَئِكَ }: البعداء عن مقامات الخير، وإنما عبر بإشارة البعيد تلويحاً لهذا المعنى، واعتبر معنى من فى اسم الإشارة وما بعده بعد أن اعتبر لفظها فى كسب وهاء به وهاء خطيئاته.
{ أَصْحَابُ النَّارِ }: أى مستحقوها بكسبهم أو ملازموها فى الآخرة كما لزموا موجباتها فى الدنيا وهى الذنوب.
{ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }: دائمون فيها لأنهم ماتوا، وقد أحاطت بهم خطاياهم مصرين فلم يكن للبثهم فيها آخر كما أن المصر لا آخر للمعصية وملازمتها عنده والناس إما مصر وإما غير مصرّ مرحوم يدخل الجنة.