خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
٨٥
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ثُمَّ أنتُم هَؤلاءِ }: أنتم مبتدأ وألاء خبراً والجملة معطوفة على أقررتم عطف اسيمة على فعلية، وإنما كان العطف بثم الموضوعة على تراخى وقوع الفعل أو تراخى عدم وقوعه، ليفيد استبعاد ما فعلوه من نقض الميثاق مع الإقرار به والشهادة عليه، عن الصواب والدين ومقتضى العقل، فقد استعملت ثم للتراخى فى غير النسبة مع أنها وضعت للتراخى فى النسبة فقط استعمالا للمقيد فى المطلق، ولك أن تجعلها بمعنى الواو أو الترتيب فى الإخبار بلا تراخ، وهكذا فى مثل ذلك مما لم تستعمل فيه للتراخى فى النسبة، وأشار بلفظ هؤلاء إلى الناقضين للميثاق، وإن قلت كيف صح عطف هذه الجملة بثم الدالة على التراخى على الوجه الأول، مع أن هؤلاء الناقضين أبداً هم أنفسهم أعينهم لا تمضى مدة متراخية ولا غير متراخية، وهم فيها غير أنفسهم فإنهُ لا يقال لزيد ثم أنت زيد، لأنه هو زيد قبل وبعد وفى الحال، قلت: نزل تغير الصفة منزلة تغير الذات فإن تغير الصفة التى هى الوفاء الواقع تحقيقاً أو إمكاناً إلى الصفة التى هى النقض كتغير الذات، ولذلك صح الإخبار عن لفظ أنتم بما هو نفس مدلوله، إذ المعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقضون، كقولك ثم أنت ذلك الرجل الذى خان وغدر بعد ما أكرمته وائتمنته، ولذلك أيضاً صح العطف على أقررتم، كأنه قيل: أقررتم ثم نقضتم، ومن تنزيل تغير الصفة منزلة تغير الذات قول المشركين فى شأن الذى أرسلوه إلى سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشركاً ورجع مؤمناً: والله لقد رجع بغير الوجه الذى ذهب به. وقال أبو الحسن بن أحمد الباد: أنتم خبر وهؤلاء مبتدأ، واعترضه أبو حيان بأنه لا داعى إلى جعل مبتدأ أنتم وهؤلاء خبر مع سلامته من تقديم وتأخير. قلت: لعل داعيه أنه قلما يجتمع الضمير والإشارة يخبر بأحدهما عن الآخر إلا قرن الضمير بها للتنبيه، وجئ بعده باسم الإشارة مجرداً منها ومقروناً، فحينئذ يتبادر كون الضمير مبتدأ لقرنه بهاء التنبيه، ومثل الآية قوله تعالى: { هم أولاء } والجملة على كل حال وعيد لهم لاعتبار ما أسند إليهم من الأفعال القبيحة حصوراً للفظ أنتم.. إلخ، وباعتبار ما حكى عنهم غيباً لقوله يردون.
{ تَقْتلون }: حال ناصبها معنى الإشارة، وبهذه الحال تم المعنى كما قال ابن الباذش، ويجوز كون هذه الجملة بدلا من قوله: { أنتم هؤلاء } أو عطف بيان عند من أجازه فى الجملة، أو مستأنفة لبيان الجملة قبلها، وقيل: هؤلاء منادى بحرف محذوف، وتقتلون خبر أنتم، أى ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون وحذفه مع الإشارة قليل منع سيبويه القياس عليه، قال ابن هشام: شذ حذفه معها فى قوله:

إذا هملت عينى لها قال صاحبى بمثلك هذا لوعة وغرام

أى يا هذا، ولحسن بعضهم المتنبى فى قوله:

*هذى بررت لنا فهجت رسيسا*

أى يا هذه وأجيب بأن هذى مفعول مطلق، أى برزت هذه البرزة، ورده ابن مالك بأنه لا يشار إلى المصدر إلا منعوناً بالمصدر المشار إليه كضربته ذلك الضرب، ويرده بيت أنشده هو وهو قوله:

يا عمرو إنك قد مللت صحابتى وصحابتك إخال ذاك قليل

انتهى ولم يشترط غير ابن مالك نعته بالمصدر، وفى تلحين المتنبى نظراً لأنه كوفى والكوفى يجيز حذف حرف النداء مع الإشارة ومن ذلك قولهُ:

إن الأولى وصفوا قومى لهم فيهم هذا اغتصم تلق من ذاك مخذولا

أى يا هذا، وقوله:

ذا ارعواء فليس بعد اشتعا ل الرأس شيباً إلى الصبا من سبيل

أى ارعوا رعواء بذا، وذلك مقيس مطرد عند الكوفيين، ومنع البصريون القياس عليه لأنهُ إنما ورد نصا فى الضرورة فلا تحمل عليهِ الآية، مع أن لها أوجهاً منها ما تقدم من كون هؤلاء مبتدأ أو خبراً، ومنها ما قيل إنهُ توكيد لأنتم والخبر تقتلون، ومنها ما قيل إنهُ موصول خبر لأنتم أو مبتدأ له وتقتلون صلته، وقرئ بتشديد التاء للتكثير.
{ أَنفُسَكم }: أى يقتل بعضكم بعضا.
{ وَتُخْرِجون فريقاً مِّنكم }: من للتبعيض.
{ مِنْ ديارهم }: من للابتداء والدار ما يبنى للإقامة مشتملا على بيوت. وقال الخليل: الديار محلة القوم بناء أو غيره.
{ تَظَاهَرُونَ عليهم بالإثم والعُدْوان }: الجملة حال من واو تخرجون، أو من فريق لأنه منعوت بمنكم، أو حال منهما لاشتمال الجملة على ضميرهما، والتظاهر التعاون مأخوذ من الظهر، يستعمل فى المعاونة، لأن قوة الجوارح فى الجيد والدفع بقوة الظهر، ولأنهُ كلما طال الظهر وكثرت فقراته وعظامه ازدادت القوة، ولو صغر الحيوان كالحية فقد تغلب الإنسان بالجيد، وقد يكون على شكلها لكنه أطول وأغلظ بقليل منها، فيقبض الإنسان بذنبه وعجزه فيحمله، والأصل تظاهرون بتائين أبدلت الثانية ظاء وأدغمت فى الظاء، وقرأ عاصم وحمزة والكسائى بتاء واحدة، وتخفيف الظاء حذف تاء الماضى وهى الثانية، أو تاء المضارع وقرئ تتظاهرون بإثباتهما وتخفيف الظاء، وقرئ تظهر بتاء وظاء مشددة وإسقاط الألف بعدها، وتشديد الهاء بوزن تتفعلون بتائين، وتشديد العين، والأصل تتظهرون بهذا الوزن، أبدلت التاء الثانية ظاء أو أدغمت وكذا القراءات فى التحريم والإثم والمعصية صغيرة كانت أو كبيرة، والعدوان الكبيرة التى عدت حد الكبائر أى جاوزته فى العظم.
{ وَإنْ يَأتوكُم }: أى وإن يأتكم الفريق الذين أخرجتم من ديارهم، أو أن يأتكم جماعة من الذين تخرجون منهم من قدرتم عليه، وتقتلون من قدرتم عليه، وهذا أعم والكلام السابق يدل عليه.
{ أُسَارَى }: بضم الهمزة جمع أسرى بفتحها وإسكان السين، وأسرى جمع أسير بمعنى مأسور فعيل بمعنى مفعول، كقتيل وقتلى لما كان أسرى بوزن سكرى جمع على أسارى كسكارى، فأسارى جمع الجمع، ويجوز أن يكون جمع أسير للتشبيه بكسلان، لأن الأسير محبوس عن كثير من تصرفه، كما لا يتوصل الكسلان إلى كثير مما يحتاج إليه، فجمع على أسارى كما يجمع كسلان على كسالى، والأصل أسير المشدود بالأسر، أى الحبل أطلق على كل من جلبه العدو، لأن من شأنه أن يشد بالحبل لئلا يهرب سواء شد به أو بغيره كالحديد أو لم يشد، ولأن من جلبه العدو ممنوع عن أهله، وما يريد كمن شد بالحبل عما يحب، وقرأ حمزة: وإن يأتكم أسارى.
{ تُفَادُوهم }: تنقذوهم من الأسر بالمال، أو بأمثالهم من الرجال أو غير ذلك وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر: تفدوهم بفتح التاء وإسكان الفاء، والمعنى واحد، ولكن المفاداة تدل بالمطابقة على أن كلا من الغالبين والمغلوبين أخذ وأعطى، وفدى يدل على ذلك بالالتزام، أو أما بالمطابقة فإنما دل على إعطاء المغلوبين وأخذهم فقط فافهم، وقال الثعالبى يقال: فدى إذا أعطى مالا وأخذ رجلا، وفادا إذا أعطى رجلا وأخذ رجلا، ومن استعمال فادى فى إعطاء مال وأخذ رجل قول العباس رضى الله عنه: فإنى فديت نفسى وعقيلا. روى أن قريظة كانوا حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، فكان قريظة وهم يهود يعاونون الأوس وهم عرب ويقاتلون معهم عدوهم الخزرج، وكان النضير وهم يهود يعانون الخزرج وهم عرب ويقاتلون معهم عدوهم الأوس، يدخل كل فريق مع حلفائه فى القتال وتخريب الديار والإخراج منها، وإذا أسر الخزرج رجلا من قريظة جمعت لهُ النضير حتى يفكوه من الخزرج ويفدوه، وكذا إذا أسره النضير لأنهم، فى القتال مع الخزرج، إلا أن سامحه الخزرج وتركوه وسبيله بلا فداء، وإذا أسر الأوس رجلا من النضير جمعت لهُ قريظة حتى يفدوه من الأوس على حد ما مر كله، وقيل إن النضير وقريظة حالفوا الأوس، وبنى قينقاع حالفوا الخزرج، فإذا وقع الحرب بين الأوس والخزرج ذهبت كل طائفة من اليهود مع أحلافها، وذكر أن العرب عيرتهم كيف تقتلونهم ثم تفدونهم؟ فقالوا: إنا أمرنا أن نفديهم، فقال العرب: كيف تقاتلونهم؟ فقالوا: نستحى أن تذل حلفاؤنا وذلك أن الله ـ جل وعلا ـ أخذ عليهم الميثاق فى التوراة ألا يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعض بعضاً من داره، وأيما عبد وأمة من بنى إسرائيل وجدتموه فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه، وخالفوا أحكام التوراة وعيرهم الله ـ جل وعلا ـ بقوله: { وإذ أخذنا ميثاقكم } إلى قوله:
{ وَهُوَ مُحرَّمٌ عليْكم إخْراجُهم }: الجملة متصلة بقوله: { وتخرجون } وهى حال من واو تخرجون، وجملة { وإن يأتوكم أسارى تفادوهم }، معترضة أو معطوفة على تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان، ولفظ هو ضمير الشان، ومحرم خبر مقدم، وإخراج مبتدأ مؤخر، والجملة خبر ضمير الشان ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره لفظ إخراجهم على أن يكون عطف بيان على هو، أو بدلا منه، ومحرم خبراً وأخراج مبتدأ سبق تفسيراً له، ويجوز كون هو عائد إلى الإخراج الذى دل عليه تخرجون، وإخراجهم بدل أو بيان له، ومحرم على هذا خبر، ويجوز على هذا كون إخراج نائب محرم وضعاً للظاهر موضع المضمر.
{ أفتُؤْمِنون بِبَعْضِ الْكِتَاب }: المراد بالكتاب التوراة، وبعضه الذى آمنوا به هو لزوم الفداء المفروض عليهم فيه.
{ وتَكْفُرُونَ ببعضِ }: هو تحريم القتال والإخراج من الديار والمعاونة فى ذلك بلا وجه شرعى.
{ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلكَ منْكُم إِلاّ خِزْىٌ فى الحَيَاة الدّنيا }: قال الكلبى: المراد بالخزى الإخراج من الديار والقتل أخرجت النضير وقتلت قريظة، يا بن آدم كما تدين تدان، وقال الحسن: الخزى الجزية، ولعل ذلك منهما تمثيل، والمراد ما يعم ذلك وغيره، فقد قتلت قريظة وأسرت وسبت، وأخرجت النضير وضربت الجزية على غيرهم، ولما أخرجت النضير سكنت أريحاء وأذرعات من أرض الشام، وتلك الجزية هى أصل الجزية إلى آخر الدهر، ولفظ الخزى: الفضيحة والعقوبة، فهو عام يحتمل على عمومه، وأصله ذل يستحى منه، ولذلك فسره بعضهم هنا بغلبة العدو، والحياة مصدر نائب عن اسم الزمان، أى فى وقت الحياة التى هى دانية، أى قريبة الزوال أو قريبة الأطراف، فهى غير طويلة، والدنيا مؤنثة لاسم تفضيل، وهو الأدنى باق على الوصفية وباؤه عن واو أبدلت فرقاً بين الأسماء والصفات.
{ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلى أشَدِّ العَذابِ }: هو عذاب النار الدائم أو عذابها والحشر بحال قبيحة يستحيون منها، والتشديد عليهم والتضييق فى المحشر والنداء على رءوس الأشهاد بقبائحهم ردوا إلى أشد العذاب، لأن عصيانهم من أشد العصيان. وقرأ عاصم فى رواية المفاضل شذوذاً تردون بالمثناة الفوقية.
{ وَمَا اللهُ بغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ }: بالياء المثناة التحتية عند نافع وابن كثير وأبى بكر، وقرأ الباقون بالفوقية قاله أبو عمرو الدانى: وقال القاضى قرأ بالتحتية نافع ويعقوب، والباقون بالفوقية، فالتحتية فى يردون ويعملون بالنظر إلى من فى قوله: من يفعل، والفوقية على طريق الخطاب السابق فى الناقضين، وإنما صدق واحداً وعلى طريق الالتفات إلى الخطاب عن الغيبة التى فى قوله: من يفعل، والجملة تأكيد للوعيد، كأنه قيل إن الله سبحانه وتعالى لبالمرصاد لا يغفل عما تعملون، فهو مجازيكم بكل ما فعلتم من صغير أو كبير، والكلام فى ذلك كله لليهود فقط، وإنما يدخل غيرهم بالمعنى فقط، إذ كل مكلف كذلك، ويحتمل أن يكون قوله: { وما الله بغافل عما تعملون } بالفوقية خطاباً لقريش ونحوهم، أى لا يغفل عنكم كما لم يغفل عن اليهود، وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنهُ قال: إن بنى إسرائيل قد مضوا وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمة محمد، يريد أن أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكلفون بذلك الذى كلف به بنو إسرائيل، ومعاقبون إن توفوا كما عوقبت بنو إسرائيل حين لم يوفوا، وليس مراده أن الآية خطاب لهذه الأمة، وأول ما ظهر هذا العقاب الظهور الفاحش الشنيع بخراسان من المشرق، وبالأندلس من المغرب، شاع الجور والمعصية فعوقبوا بأيدى الروم. وفى الأثر عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الحديث القدسى:
"إذا عصانى من يعرفنى سلطت عليه من لا يعرفنى" وهذه المعرفة مراتب فانظر كيف سلط الله على الموحدين لما عصوه الروم، وسلط المخالفين على الإباضية الوهبية وسلط عوام الإباضية الوهبية على خواصهم لما عصت الخواص.