خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ
٤٧
-الأنبياء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } القسط: مصدر نعت به مبالغة ولذا أفرد كأنها لشدة قسطها نفس القسط، أى العدل، أو يقدر مضاف، أى ذوات القسط، أو يؤول بقاسطة، بمعنى عادلة.
والحق عندنا - معشر الأباضية - أن وضع الموازين كناية من إثبات الحساب فى المكلفين، وجزائهم على أعمالهم، أى يبالغ فى الحساب مبالغة شديدة كما قال:
{ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا } أى ظلمًا، أو مفعول ثان لتظلم، بمعنى تُنقَّص، أو تمييز محول عن النائب على هذا المعنى، أى لا يُنقص شئٌ نَفْس، أى عملها، أى لا يُنقص من حسناتها، ولا من سيئاتها، واللام ظرفية، أى فى يوم القيامة قاله أبو حيان وابن هشام. وعن بعض بأنها بمعنى عند.
وقيل: للتعليل، على حذف مضاف، أى لأجل يوم القيامة.
وقال الشنوانى: أو الجزاء يوم القيامة.
{ وَإِنْ كَانَ } تامة بمعنى حصل { مِثَالَ } زنة { حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ } ما يرى فى الشمس من الهباء، أو بذر اللفت ونحوه.
وقرأ غير نافع بنصب مثقل على نقصان كان، واسمها ضمير الفعل، قبل: أو فى غير الظلم، وهو ضعيف، إن لم يكن باطلا.
{ أَتَيْنَا بِهَا } الباء للتعدية، أى أحضرناها، وضمير المؤنث للمثقال، وإنما أنث لتأويله بالزنة، أو لإصابته للمؤنث، مع صحة الاستغناء عنه، فإنه لو قيل: وإن كانت حبة من خردل، لظهر المراد.
وقرأ ابن عباس ومجاهد آتينا بالمد، أى أعطينا صاحبها ثوابها أو عقابها وعُدِّىَ بالياء، لتضمنه معنى المجازاة، أو هو بمعنى المؤاتاة، فإنهم أتوا بالعمل، وأتاهم بالجزاء.
وقرأ حميد أَثَبْنَا بِهَا، من الثواب. وقرأ أُبىّ فجئنا بها.
{ وَكَفَى بِنَا } الباء صلة، ونا فاعل به.
{ حَاسِبِينَ } حال لا تمييز، لضعف كون التمييز وصفًا. والمعنى: إن حسابنا كان فوق كل حساب؛ لكمال علمنا وحفظنا. وفى ذلك توغيب فى الحسنات وبعُد عن السيئات قال صلى الله عليه وسلم: لا تغتروا بالله، فإنه لو كان مُغْفِلاً شيئًا لأغفل الذرة والبعوضة والخردلة.
فصل
مذهبنا - معشر الأباضية - كما مر - أن الميزان عبارة عن إثبات الحساب والجزاء، وإظهار أن فعلك أيها المكلف كذا وكذا، قد أوجب لك من الخير أو الشر كذا وكذا أصح. وإن شرَّك مغفور، وخيرك مقبول.
وإن خيرك غير مقبول، وشرَّك مؤاخذ به، وذلك مذهب أكثر المعتزلة.
وقالت الأشعرية وغيرهم: إن الميزان عمود وكفتين ولسان، وإن طول الدنيا وسعة كفتيه سعة السماوات والأرض.
وروى أن داود - عليه السلام - سأل ربه أن يريه الميزان، فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب. فلما رآه غُشى عليه، ثم أفاق وقال: إلهى من الذى يقدر أن يملأ كفته حسنات؟
قال: يا داود إنى إذا رضيت عن عبدى ملأتها بتمرة.
وذكر أحمد بن حنبل وابن حبان والحاكم ومسلم والترمذى وابن ماجة واللفظ للترمذى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله عز وجل سيستخلص رجلا من أمتى على رءوس الخلائق يوم القيامة، فيُنْشَر عليه تسعة وتسعون سجلا، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلَمك شيئًا كتبتى الحافظون؟
فيقول: لا يا رب.
فيقول: ألك عذر؟
فيقول: لا يا رب.
فيقول الله تبارك وتعالى: بل لك عندنا حسنة؛ فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، واشهد أن محمدا عبده ورسوله.
فيقول: احضر وزنك.
فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟!
فيقول: فإنك لا تظلم فتوضع السجلات فى كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شئ"
.
والسجل: الكتاب الكبير. والبطاقة: الصغير. والطيش: الخفة. وأجر الشهادة كما ذكروا وأكثر، ولكن المراد أن ذلك لمن مات تائبًا، فيظهر الله له أن ذنوبه مثل تلك السجلات، وأنه لما تاب قبلت توبته، فغلبت عليها شهادته.
ونسبوا كونه ميزانا فى كفتين وعمود ولسان إلى الحسن، وذكروا أن الكفة اليمنى كفة نور توضع فيها الحسنات، واليسرى توضع فيها السيئات، وهى كفة ظلمة. فبعض يقول: ليس علينا البحث عن كيفية الوزن، بل نؤمن به وتفوِّض كيفيته إلى الله تعالى.
وقيل: توزن صحائف الأعمال.
قلنا: إذًا تكون الزيادة فى الموزونات من الأعمال.
وبعض يقول: تجعل الحسنات أجساما نورانية بيضاء حسنة، والسيئات أجساماً ظلمانية قبيحة، جوابًا عما يقال: إن الأعمال أعراض لا توزن، وأنها قد عدمت، فلا توجد. سلّمنا أن الله قادر على قلب الأعراض أجساماً، بل وعلى إيجاد الأعراض الممدومة وعلى وزنها، لكن لا فائدة فى الوزن، مع أن الله عالم بمقاديرها ووزنها غيب.
وإن قالوا: فائدته امتحان العباد بالإيمان بالغيب فى الدنيا، وجعل ذلك علامة لأهل السعادة والشقاوة.
قلنا: هذا موجود فى تفسيرنا الميزان، بتعريف العباد، ما لهم من الجزاء على الخير والشر، وإحضار ذلك الجزاء.
وبعض يقول: يخلق الله أجساما على عدد تلك الأعمال من غير قلبها. وفيه ما فى الذى قبله. وإذا أدحضت حججهم قالوا: إن لوزنها حكمة أبهمها الله، كما صرح به بعض، وبأن ذات الميزان لا تعرف من أى شئ هى؟ وما ورد فى ذلك من الأخبار فمعناه معنى الآية الذى أوضحناه.
فمن ذلك ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه توزن الصحف. فمعنى وزنها الجزاء بما فيها وترجيح خيرها على شرها، أو شرها على خيرها.
وزعم بعضهم أن الراجح فى ذلك الميزان يرتفع والمرجوح يتسفل. ولا توزن أعمال المشركين لقوله:
{ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } عند بعضهم.
والراجح عندهم وزنها؛ لقوله عز وعلا:
{ { ومن حقّت } - إلى - { تكذبون } }. وأجيب عن الآية الأولى، أن المعنى احتقارهم، وأنهم لا قدر لهم فى الآخرة أو أنه لا يقال لهم وزن نافع.
وقالوا: إنه توزن سيئات من لا حسنة له إعلانا بفضيحته، وحسنات من لا سيئة له، إعلانا بشرفه.
وقيل: بعض الكفار يعجل بهم إلى النار بلا وزن، وبعضهم يوزن له، ويلقى فى النار.
وقال الغزالى: من الأمة سبعون ألفا يدخلون الجنة بلا حساب، لا يرفع لهم ميزان، ولا يأخذون صحفا، يكتب لكل واحد صحيفة، فيها براءة فلان ابن فلان. ولا توزن أعمال الأنبياء، ولا أعمال الملائكة.
قال أبو الحسن القابسى: والصحيح أن الحرص قبل الميزان. وما ذهب إليه أبو طالب المكى وغيره أن الحوض بعد الصراط غلط فيه.
وأجيب عن قوله صلى الله عليه وسلم لأنس: إن لم تلقنى عند الصراط فاطلبنى عند الميزان، فإن لم تلقنى فعند الحوض، فإن الذكر فيه بحسب الأهمية.
وصحح القرطبى أن للنبى صلى الله عليه وسلم حوضين، كلاهما يسمى كوثرا، وأن الحوض الذى يذد عنه مَن بدَّل أو غيَّر، يكون فى الموقت قبل الصراط.
وإن قلت: إذا كان الميزان بمعنى ما ذهبتَ إليه، أو بمعنى ما ذهب إليه القوم فكيف جمع؟
قلت: جمع إما للتعظيم، وإما نظراً لتعدد الموزون، وإما لأن لكل صنف من الأعمال ميزانا، وإما لأن لكل مكلف ميزانا. أقوال.
والجمهور على أن الميزان واحد.
قيل: إن الموازين جمع مَوْزَن.
واختلفوا: هل تجعل حسنات العباد كلها فى كفة النور، وسيئاتهم فى كفة الظلمة، ويخلق الله علما ضروريا لكل إنسان، يعلم به خفة أعماله، أو ثقلها؟ أو يقوم عمود من نور من كفة النور، يغطى كفة الظلمة، يظهر للسعيد، وبالعكس للشقى، أو يوزن عمل كل أحد على حِدَة، كما رزقهم على كثرة عددهم؟ أقوال.
قالوا: وصحائف الأعمال التى توزن كلها تحت العرش. وهل الحوض مختص بنبينا صلى الله عليه وسلم؟ أو لكل نبى حوض يتباهَوْن أيهم: كَثُرَ وِرْد حَوضه، كما روى فى حديث غريب لا تقوم به حجة؟ قولان.