خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ
٧٩
-الأنبياء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَفَهَّمْنَاهَا } أى الحكومة، أو القضية المفهومة من الكلام. وقرئ ففهمناه { سُلَيْمَانَ } أى ألهمناه إياها، مفعول ثان مقدم، وسليمان مفعول أول.
{ وَكُلاًّ } داود وسليمان { آتَيْنَا حُكْمًا } نبوة { وَعِلْمًا } بأمور الدين، على وجه الاجتهاد.
وقيل: على طريق الوحى. فضل الله حكم سليمان، ونسخ به حكم داود. وفى ذلك دليل أن الاعتبار بالحق لا بالتقدم والأبوة ونحوهما. فقيل: حكما بالوحى، ونسخ وحْىُ سليمان وحْىَ داود.
وقيل بالاجتهاد بناء على جوازه للأنبياء. والاجتهاد لا ينسخ الوحى، فيحتمل أن الله قد عرفهما أن حكم سليمان هو الحق.
ويحتمل أنه لم يعرفهما، وأخبر الله به هذا النبى الكريم.
والحاكم المجتهد إذا أخطأَ فله أجر واحد، ولا إثم إلا فى الخطأ فى الأصول. وإذا أصاب فله أجران.
وإذا اختلف المجتهدون، فالحق مع واحد فقط عند الله، لا معهم، على الصحيح. ويمكن خطؤهم. وفى مضمونه { وكلا آتينا حكما وعلما } دليل على إصابتهما لكن أحدهما أولى.
روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حبوب، والآخر صاحب غنم. قلت: ظاهر هذه الرواية أن الحرث فى الآية الزرع.
قال: فقال صاحب الزرع: إن غنم هذا أكلت زرعى ليلا وأفسدته، ولم يبقى شئ.
قلت: هذا نص أن الحرث: الزرع. وإنما كتبت ما كتبت من الاستظهار، قبل اطلاعى على هذا.
فأعطاه داود رقاب الغنم، فخرجا فمرا على سليمان فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه.
فقال سليمان: لو وليت أمركما لقضيت بغير هذا.
وقيل: قال: غير هذا أرفق بهما. فأُخبر بذلك داود فدعاه وقال: كيف تقضى؟
وروى أنه قال: بحق النبوة والأبوة إلا ما أخبرتنى بالذى هو أرفق.
قال: صاحب الغنم يدفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدَرِّها ونسلها وصوفها ومنافعها، ويزرع صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه، ويقوم به حتى يصير كهيئته، فيدفعه إلى صاحبه ويرد غنمه.
فقال داود: القضاء ما قضيتَ. حكم بذلك.
وفى ذلك بيان أن الغنم هنا: الضأن لقوله: وصوفها. وسليمان إذ ذاك ابن إحدى عشرة سنة. ووجه حكومة داود أن الضرر وقع بالغنم فسلم بجنايته إلى المجنى عليه، كما أن العبد إذا جنى مثل قيمته أو أكثر بلا أمر صاحبه، فالمجنى عليه يأخذ العبد له، عند بعض أصحابنا. وبه قال أبو حنيفة وزاد: أو يفديه صاحبه.
وقال الشافعى: يبيعه فى ذلك أو يفديه.
وقال بعض أصحابنا: الخيار له يدفعه أو قيمته، وإن أمره لزمه كل ما فعل.
قال جار الله: ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان فى الحرث.
ووجه حكم سليمان أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل فى الحرث حتى يرجع كما كان، بناء على أنه بقيت أصوله، أو يجدد حرثا يربيه، حتى يصير كذلك، وصاحب الحرث لم يأخذ زيادة؛ فإنه ولو كان قد رجع حرثه، واستنفع بالغنم، لكنه قد يغنىَ بالغنم، كما أن من غصب عبدا، وأبقى من يده، يرد قيمته إلى صاحبه ينتفع بها. فإذا رجع تَرَادَّا، عندنا وعند الشافعى.
ونص الشيخ هود -رحمه الله - عن الكلبى: أن ثمن الحرث قريب من ثمن الغنم. ونص الشيخ هود -رحمه الله - أن داود لما دعا سليمان، ودخل عليه واستفتاه قال: قد عدل النبى وأحسن، وغيره كان أرفق. وذكر له ما مر ولا يخفى ما فيه من لطف وأدب.
وروى عن الكلبى: الحرث كان تبناً.
وقال ابن مسعود وشريح: إن راعيا نزل ذات ليلة قريبًا من كَرْم، فدخلت الأغنام الكرم ولا يشعر، فأكلت القضبان، وأفسدت الكرم قاله فى عرائس القرآن، وذكر فيه أن ابن عباس وقتادة قالا: كان الحرث زرعا، وجعل تلك القصة منه. وكذا غالب القصص أنقلها منه، ومؤلفه الثعلبى، وهو غير ثعلب، وغير الثعالبى. وهو مجموع عظم فى القصص فقط.
وإن قلت: فما الحكم فى مثل ذلك إن وقع بالإسلام؟
قلت: مذهبنا - معشر الأباضية - أن ما أفسد الحيوان قلَّ أو كثر، فى مال، أو نفس، يضمنه صاحب الحيوان إلا إن عقر حيوانا آدميًّا أو غيره، ولم يعرف أنه يعقر، فلا ضمان إلا أن يعود وإن عرف أنه يعقر فى صنف، فعقر فى غيره ضمن.
وقيل: لا حتى يعود.
وإن هربت دابة فأفسدت فى هروبها فلا ضمان إن لم يصح عليها.
وقيل: وإن صاح وإن ربطت فيما يربط فيه مثلها فقطعته لم يضمن.
وقيل: ما أفسده الحيوان ليلا ضمن صاحبه، ولا ضمان عليه فيما أفسدت نهارا.
وروى أن ناقة البراء بن عازب وقعت فى حائط رحل من الأنصار أفسدت، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا أجد لكم إلا قضاء سليمان بن داود. وقضى على أهل المواشى يحفظها ليلا، وعلى أهل الحوائط يحفظ حوائطهم نهاراً. وبذلك يحكم شريح، وهو مذهب الشافعى وشيخه مالك، وجمهور الأمة.
ووجهه أن النهار وقت لرعيها.
وقال ابن سحنون من علماء الأندلس: ذلك فى أمثال المدينة التى هى حيطان، وأما البلاد التى هى غير محوطة، فعلى أصحاب الغنم فيها الضمان ليلا ونهاراً.
وعن مالك أن الدواب المعتادة أن تأكل الزرع والثمار تباع فى بلد لا زرع فيه، قال ابن حبيب: وإن كره أصحابها وأما ما يستطاع الاحتراز منه، فلا يؤمر صاحبه بإخراجه من ملكه.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا ضمان بالدابة إلا أن يكون معها سائق أو قائد.
وعن أبى رحمة من أصحابنا - رحمهم الله - فى من أفسد غرستة: إن تم لها سنة فعليه دينار، أو سنتان فديناران، أو ثلاث فثلاثة، أو أربع فأربعة أو خمس فخمسة. وما زاد فبقيمته.
وفى زرع دخلته ماشية قوم بين غنم وجمال وبقر دواب فوطئته بأرجلهن إن عشر شياه بدرهم، ولكل جمل أربعة دراهم، ولكل ثور درهم، ولكل ذى حافر درهم ونصف.
وقيل: فى الفرس ثلاثة دراهم.
ومن أحكام داود وسليمان - عليهما السلام - ما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"بينما امرأتان معهما ابنان لهما، إذ جاء الذئب فأخذ أحد الابنين فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى. فخرجتا فدعاهما سليمان. فقال: هاتوا السكين أشقّه بينكما فقالت الصغرى: يرحمك الله، هو ابنها لا تشقُّه. فقضى به للصغرى" ، أى استدلالاً بشفقتها. والله أعلم.
{ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ } حال من الجبال، أو مستأنف أقْدَرَهَا الله على التسبيح: يقلن: سبحان الله هذا قول الأكثرين.
وروى أنه كان يمر بالجبل يسبح، فيجاوبه الجبل بالتسبيح وفى ذلك تنشيط له.
وقال منذر بن سعيد: تسبيح الصلاة.
وقيل: تسبيح الجبال وإذا فتر سمع تسبيحها فينشط.
وقيل: إن الجبال تسير معه، فمن رآها تسير، سبح تعظيما لقدرة الله. فلما كانت حاملة على التسبيح وسِباله، جعلت مسبحته.
وقيل: التسبيح: السير من السباحة. شبه سيرها؛ لأنه ليس كالسير فى الماء.
وقيل: يسبحن بلسان الحال، أو بصوت من غيرها يتمثل له. و { مع } يتعلق يسبحن أو سخرنا.
{ وَالطَّيْرَ } مفعول معه، أو معطوف على الجبال.
وقرئ بالرفع على الابتداء أو عطفا على الضمير المرفوع المتصل، وهو نون يسبحن بلا فاصل، وعلى الابتداء ويقدَّر الخبر هكذا: أى والطير كذلك، أو تسبح.
{ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } لذلك وأمثاله. وليس ببدع فى قدرتنا وإن كان عجيبا عندكم.
وقيل: وكنا فاعلين مثل ذلك للأنبياء.