هميان الزاد إلى دار المعاد
{ الصَّابِرِينَ والصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ }: ولحمل المطلق على المفيد ألا ترى إلى قوله تعالى فى كثير من المواضع، وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وقوله تعالى { وَلَمْ يَلْبَسُوا إيمانَهم بِظُلْمِ } وقوله عز وجل { لَمْ تَكنْ آمَنَتْ مِنْ قََبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمانَهم خيراً } أو غير ذلك، وهذه الأدلة لا يقاومها ما قد يقول الخصم من أنه لو كان الصبر والصدق وما بعدهما شرطاً للمغفرة، لقدمها على طلب المغفرة، ورتبتها عليهن، بل نقول إن الله وصف الطالبين للمغفرة بأن حالهم كذا وكذا، لا مجرد إيمان ولأن طلب المغفرة ممن وصفته ذلك توبة نصوح لا يبقى معها ذنب، ولا يتهاون فيها بغرض، والواجب مطلق الاستغفار، وأما كونه بالأسحار، فأفضل، لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة، لخلو القلب فيها، وصفائه، ولأن العبادة فيها أشق ولا سيما المتهجدون.
قال الحسن: فإنهم يصلون إلى السحر، ثم يستغفرون فى السحر، ويدعون الله جل وعلا، وكذا لا يجب الانفاق للعيال، والزكاة، والضيف، والتنجية من الموت، ونحو ذلك، وقيل: المستغفرون بالأسحار، هم الذين يصلون صلاة الفجر فى جماعة، سمى الوقت سحراً لاتصاله بالسحر، وبقية ظلامه، والصلاة استغفار، لأنهم يطلبون فيها المغفرة.
وعن أبى هريرة، وأبى سعيد، قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليمهل حتى يمضى شطر الليل الأول، ثم يأمر منادياً يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى؟" . قيل: السحر، الشطر الأخير من الليل، وقيل السدس الأخير، وقيل: الثلث الأخير، قال نافع: كان ابن عمر يحيى الليل صلاة ثم يقول: يا نافع أسحرنا، فيقول: لا، فيعاود الصلاة، ثم يسأل، فإذا قلت نعم، قعد يستغفر. وعن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: "يَنزل ربنا تَبارَكَ وتَعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعونى فأستجيب له؟ من يسألنى فأعطيه؟ من يستغفرنى فأغفر له؟" . وفى رواية: " أناالملك،" وفى رواية: "فيقول: هل من سائل فيعطى؟ هل من داع فيستجاب له؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ حتى ينفجر الصبح" .
ومعنى نزول الله نزول رحمته، أو نزول ملك له من ملائكته، يقول ذلك على لسانه، كما يقول القرآن على لسانه، مثل: إننى أنا الله، لا إله إلا أنا فاعبدون، وترك مثل هذا الحديث على ظاهره، من كيفية النزول شرك - تعالى الله - وأبقاه بلا تأويل ولا إجراء ظاهره على المذكور نفاق، وهو إعراض عن العلم، و رجوع عنه، تراهم ينزهون الله عن الحلول والتحول، ثم إذا رأوا مثل هذا قالوا نجريه على ظاهره بلا تكييف، أو نؤمن به.
وروى أن لقمان قال لابنه: يا بنى لا تكن أعجز من الديك، فإنه يصوت بالأسحار وأنت نائم على فراشك.
والمراد بالصابرين: الصابرون على أداء الفرض، وعلى الطاعات والمصائب، وعن المعاصى، ومعنى الصادقين: من صدق قوله وفعله واعتقاده بموافقة الشرع، ومن عصى بقوله أو فعله أو قلبه، فليس بصادق، وأيضاً يكون كاذب بالمخالفة، مقتضى قوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله وما جاء به حق، وسائر كلام التوحيد، والمراد بالقانتين المدوامون على الطاعة، والمراد بالمنفقين: المنفقون لأموالهم حيث يجب إنفاقها، كالزكاة، وحيث يستحب، وختم بالمغفرة، لأنها أعظم المطالب لأن فيها رضى الله تعالى والفوز بالجنة، والنجاة من النار، وعندى فى تلك الواوات وجهان: الأول أنها لعطف من يكثر من نوع ويشارك غيره فى غيره، أو فى أداء الواجب. أى الذين بالغوا فى الصبر، والآخرين الذين بالغوا فى الصدق، والآخرين الذين بالغوا فى القنوت.. وهكذا.
والثانى أنها للعطف الصفات، الموصوف واحد، أى الجامعين بين الصبر والصدق والقنوت.