خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٤
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ مِنْ قَبْلُ }: أى من قبل الكتاب أو من تبيينه.
{ هُدىً }: حال بمعنى هادياً أو ذى هدى من ضمير أنزل، أو حال من التوراة والإنجيل، أى هاديين أو ذوى هدى، أو مفعول لأجله.
{ للِنَّاسِ }: الكائنين قبل نزول القرآن، وأما بعد نزوله، مما كان فى القرآن مخالفاً لهما، فالعمل بما فيه مأما ما لم يذكر فيه فقيل: تعبدتا بهما، وقيل: لا. ويدل على الثانى: هؤلاء محرفون لا نعلم بما فى أيديهم، إلا أن وافق القرآن، أو كان على عهد سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فأجازه.
{ وأَنْزَلَ الفُرْقَانَ }: وهو تكرير لقوله نزل عليك الكتاب، مع زيادة معنى آخر: وهو الوصف بأنه معجز، يفرق بين المحق والمبطل، وذلك تعظيم للقرآن، وإظهار لمزيته، إذ شارك الكتب، فى كونه وحياً منزلا وتميز عنه بالإعجاز، وليدل على الفرق بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى فى أمر عيسى، وقيل: المراد الكتب الثلاثة، التوراة والإنجيل والقرآن. وقال السدى: الأصل وأنزل التوراة، والإنجيل، وأنزل الفرقان هدى للناس، فالهدى رابع الكتب الثلاثة، وقيل: الفرقان الزبور، واعترض بأن الزبور مواضع لا أحكام وشرائع، وقيل: كتب الله فإنها فارقة بين الحق والباطل، وذلك عموم بعد تخصيص، وقيل: المعجزات للرسل كلهم. وإنزالها: إيجادها من السماء أو الأرض أو غيرهما.
{ إنَّ الذينَ كَفَرُوا بِآياتِ الله }: كتُبه، وهو المشركون، وأهل الكتاب الجاحدون للتوراة أو الإنجيل أو الفرقان أو غيرهم، أو سائر الوحى والمعجزات.
{ لهُم عَذابٌ شَدِيدٌ }: فى الآخرة لكفرهم.
{ واللهُ عَزِيزٌ }: غالب لا يرد عما أراد من التعذيب، كما لا يرد عن كل ما أراد.
{ ذُو انْتِقامٍ }: شديد لا يطاق، ولا يقدر منتقم على أن ينتقم مثله. والانتقام عقوبة المجرم، والفعل الثلاثى (نقم)، بفتح القاف وكسرها، والفتح أفصح.
وقوله: إن الذين كفروا وعيد جىء به بعد تقرير التوحيد، بقوله: الله لا إله إلا هو الحىّ القيوّم، وبعد الإشارة إلى العمدة فى إثبات رسالة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: نزل عليك الكتاب، تعظيما لرسالته، وزجرا عن إنكارها، وسبب نزول أول السورة إلى قوله:
{ فقل تعالوا ندعُ أبْنَاءَنَا وأبناءكم.. } الآية، "أنه قدم وفد نجران، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم ستون راكباً، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وثلاثة من أكابر القوم، إليهم يؤول أمرهم: العاقب أميرهم، وذو آرائهم واسمه عبد المسيح، والسيد واسمه الأيهم صاحب طعامهم وشرابهم ورحلهم، وأبو حارثة أثقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارستهم وكان ملوك الروم، قد شرفوه ومولوه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليهِ الكرامات، لما رأوا من اجتهاده فى دينهم، ولما وجهوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نجران، جلس أبو حارثة على بغلته، وإلى جنبه أخ له يقال له: كوز، فعترت بغلة أبى حارثة، فقال كوز: تعسر الأبعد يدعو بذلك على النبى - صلى الله عليهِ وسلم - فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست. وقيل، قال: بل تَعِسَتْ أمك، قال: ويا أخى، فقال: إنه النبى الذى كنا ننتظر.. فقال لهُ كوز: وما يمنعك منه وأن تعلم هذا؟ قال: ما صنع هؤلاء القوم، شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه! فلو فعلت، نزعوا منا كلما ترى، فأضمر علتها منه أخوه كوز حتى أسلم بعد ذلك، فهو كان يحدث عنه هذا الحديث، ولما وصلوا المدينة دخلوا مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت العصر، وعليهم ثياب الخيرات وأردية فى جمال، وكان الحارث بن كعب يقول: من رآهم ما رأينا وفداً مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا للصلاة فى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم.. فصلوا إلى الشرق، ولما فرغوا كلم السيد والعاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: اسْلَما.. اسلما قالا: فإذا أسلمنا قبلك قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام، دعوا كما لله ولدا، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، قالا: إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه؟ فخاصموه فى عيسى جميعاً، فقال النبى صلى الله عليه وسلم ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا يشبه أباه؟ قالوا: بلى.. قال: ألستم تعلمون أن ربنا حى لا يموت، وأن عيسى يأتى عليه الموت، قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شىء يحفظه ويرزقه؟. قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء؟ قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً إلا ما علم؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى فى الرحم كيف شاء؟ وربنا لا يأكل ولا يشرب؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذى كما يغذى الصبى ثم كان يطعم ويحدث ويشرب؟ قالوا: بلى. قال: فكيف يكون إلهاً كما زعمتم فسكتوا، فأنزل الله سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية زاد بعضهم فقالوا: يا محمد.. ألست تزعم أن عيسى كلمة الله وروح منه؟ قال بلى قالوا: حسبنا. ثم أبوا إلا جحوداً فأنزل الله سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم { آلم اللهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ الحىُّ القيّومُ }" إلى بضع وثمانين آية بين أنه لا يستحق العبادة سواه وانه القائم لمصالح خلقه، ولما دعاهم بالملاعنة، قالوا: يا أبا القاسم دعنا ننظر فى أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، فانصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى، لقد علمتم أن محمداً نبى مرسل، ولقد جاءكم من خبر صاحبكم بالحق، ولقد علمتم أنه ما لا عن قوم نبيا فبقى كبيرهم، ولا خبت صغيرهم، وأنه للاستيصال منكم إن فعلتم فإن كنتم قد أبيتم إلاّ إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليهِ من القول فى صاحبكم فوادعوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا أن لا نلاعنك، وأن نبقى على ديننا وصالحوه على أموال، وقالوا: ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه ليحكم بيننا فى أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا. فإنكم عندنا رضى، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - وقال: اخرج معهم واقض بينهم بالحق، فيما اختلفوا فيه، وكانوا على خلاف دينهم، فقائل: عيسى هو الله، وقائل: ابن الله، وقائل: ثالث ثلاثة، وتجد الرجل الواحد أيضاً تارة يقول بهذا، وتارة بهذا، واحتجوا على أنه هو الله بكونه يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير.
وعلى أنه ابنه بكونه لا أب له، وعلى أنه ثالث ثلاثة، بكونه يقول: نقول، وقلنا، ونفعل، وفعلنا، ولو كان واحداً لقال: قلت وأقول، وفعلت وأفعل، ورد الله تعالى عليهم بأن الله حى قيوم، ومن كان يأكل ويحدث، لا يكون حيا قيوماً، وعيسى يأكل ويحدث، وعالم بأشياء من غيب، يحدثهم بما يأكلون وما يدخرون، لا بالغيب كله ولم يقدر على دفع القتل، على زعمهم أنه مقتول، ولا يقدر أن يصور ما فى الرحم إنساناً، والله يفعل ذلك. وما وقع على يده من إحياء ميت، والخلق لهيئة الطير حية معجزة.