خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ
١٤
-سبأ

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فلما قضينا } انزلنا.
{ عليه } على سليمان.
{ الموت ما دلهم } اي ماد الجن وقيل الانس والجن.
{ على موته إلا دابة الأرض } هو مصدر أرضت الخشبة بالبناء للمفعول اي اكلتها الدابة التي تأكلها فاضافة دابة إليه لانه فعلها وليس الارض هو الارض التي يمشى عليها والدابة هي الارضة بفتح الهمزة والراء وقد نسكن الراء لا تضم الهمزة واسكان الراء ويقال لها السرقة وهي التي تأكل الخشب وقرىء { فلما قضى عليه الموت } اي قضى الله وقرىء { الا دابة الأرض } بفتح الراء وهو مطاوعة الخشبة لتلك الدابة المسماة بالارضة بالتاء اعني تأثرها بها يقال أكلت الارضة الخشبة ارضا فارضت الخشبة ارضا كما يقال أكلت الدودة الاسنان أكلا فأكلت الاسنان أكلا.
{ تأكل منساته } بألف خالصة بدل من همزة في قراءة نافع وابي عمرو، وقرأ ابن ذكوان بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مفتوحة وحمزة اذا وقف جعلها بين بين على اصله وقرىء { منسأته } بألف فهمزة كما يقال ميضأة وميضاءة بهمزة بعد الف وتركها وهي الموضع الذي يتوضى فيه والمراد العصا لانه ينسائها اي يطرد ويزجر بها ونسأت البعير طردته واخرته وقرىء بفتح الميم وتخفيف الهمزة بقلبها الفا وحذفها وبكسر الميم وحذف الالف فتتصل السين بالتاء وقرىء { منساته } على ان من حرف جر وساءة مجرور وهي طرف العصا.
قال جار الله: سميت بساءة القوس على الاستعارة وفيها لغتان كقولهم قحة وقمة انتهى.
قال الاستاذ قدس الله سره: فلان عربي قح اي محض وعربيته قحة اي محضة وكل محض خالص فهو قح ورجل قح جاف لئيم كأنه خالص في اباه واللئوم وقح عظيم الكرم ولغتا القحة بضم القاف وكسرها وفي القاموس (وقول الفراء يجوز يعني في الاية من ساته بفصل من على أنه حرف جر والساة لغة في سية القوس فيه بعد وتعجرف).
وذكر جار الله ان تخفف المنسأة بقلب الهمزة الف وبحذفها ليس بقياس وان القياس في التخفيف اخراج الهمزة بين بين وانه قرىء { اكلت منساته } وجملة تأكل او أكلت حال.
{ فلما خر } ميتا او وقع للارض بانكسار العصا الكل الارضة إياها وكان متكئا عليها.
{ تبينت الجن } علمت واصله العلم بعد بحث وتطلع يقال تبين زيد الامر اي علمه بعد تشوف له.
{ ان } مخففة واسمها ضمير الشان.
{ لو } حرف امتناع.
{ كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } وكل ذلك خبر لان ويقدر المصدر منه ويضاف اليه.
اسم دال على السلب يكون هذا المضاف مفعولا به لتبين اي تبينت الحق عدم لبثهم في العذاب المهين لو كانوا يعلمون الغيب، ويجوز ان يكون تبينت بمعنى انكشفت وظهرت والاسم على السلب بدل اشتمال من الجن.
قال ابن هشام: قالت جماعة: في الآية حذف مضافين اي علمت ضعفاء الجن ان لو كان روساءهم، وهنا معنى حسن الا ان فيه حذف مضافين لم يظهر الدليل عليهما والاولى ان نبين بمعنى وضح وان وصلتها بدل اشتمال من الجن انتهى.
وقرأ أبي { تبيت الإنس ان لو كانوا } اي ان لو كان الجن.
وقرأ الضحاك { تباينت الانس } اي تفارقت على ان لو كان الجن الخ واعلم بعضهم بعضا ان لو كان الجن الخ.
وقرأ ابن مسعود { تبينت الانس ان الجن لو كانوا }، وقرأ يعقوب { تبينت الجن } بالبناء للمفعول لان المبين في المعنى هو البدل لو على ان المعنى اعلمتهم الانس بان لو كانوا الخ، والمهين الموقع في الهوان والذل وكانت الضعفاء من الانس والجن يصدقون من ادعى علم الغيب من الجن وبعض الجن والإنس التبس عليهم الامر والذين يدعون الغيب هم كبار الجن وربما ادعاء غيرهم فذكر الله سبحانه وتعالى انه يتبين الجن والانس ان من يدعي الغيب من الجن كاذب وانهم لو علموا الغيب ما لبثوا في العذاب المهين يظنون ان سليمان حي وما بينهم وبينه إلا زجاج شفاف وهلا علموا بموته فيتركوا الخدمة وهي المراد بالعذاب المهين، وان قيل: المراد بالجن من يدعي الغيب منهم جاز التفسير المذكور وجاز التفسر للتهكم بهم وذلك انهم ولو ادعوا الغيب قد علموا انهم كاذبون كما نتهكم بمدعي الباطل اذا دحضت حجة فتقول له هل تبين انك مبطل وانت تعلم انه لم يزل لذلك متبينا.
وقيل: الجن جمهور الجن والخدمة منهم والضمير لكبراءهم وهم الذين يدعون علم الغيب لاتباعهم من الجن والانس.
روي انه كان من عادة سليمان ان يعتكف في مسجد ببيت المقدس المدد الطوال السنة والسنتين والشهر والشهرين واقل واكثر ومعه طعامه وشرابه.
قال ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما -: ان سليمان عليه السلام لما احس بقرب أجله جد في العبادة وجاءه ملك الموت واخبره انه امر بقبض روحه وانه لم يبق له الا مدة يسيرة.
وروي: انه لما دنا اجله لم يصيح الا راى في محراب بيت المقدس شجرة نابتة قد انطقها الله فيسألها ما اسمك فتقول كذا ويقول لأي شيء انت؟، فتقول لكذا ويغرسها ويكتب ما يداوي بها حتى اصبح ذات يوم فرأى الخروبة فسألها فقال: نبتت الخراب هذا المسجد فقال: ما كان الله ليخربه وانا حي انت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائظ له ثم قال: اللهم اعمِ على الجن موتي حتى يعلم الناس ان الجن لا يعلمون الغيب ويتمموا بناء بيتك وكان مبنيا في موضع قسطاط موسى وكانوا يخبرون الانس انهم يعلمون من الغيب اشياء ويعلمون ما في غد وذلك انهم يسترقون السمع ويموهون على الناس وقال لملك الموت: اذا أمرت بي فاعلمني فقال: أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة فدعى الشياطين فبنوا عليه صرحا من زجاج لا باب له فقام يصلي متكيا على عصاه فمات قائما، وقيل: كان في الصرح كوي بين يديه ومن خلفه ودام قائما ميتاً متكياً على العصا بحيث يتماسك ولا يقع وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه اينما صلى فلم يكن شيطان ينظر اليه في صلاته الا احترق وبقيت الجن تعمل الاعمال الشاقة التي تعمل في حياته عاما كاملا وينظرون اليه يحسوبه حيا ولا ينكرون احتباسه عن الناس لطول صلاته وانقطاعه عن الناس المدد الطوال قبل ذلك حتى اكلت الأرضة عصاه فانكسرت فوقع فعلموا بموته.
قال ابن عباس: فشكرت الجن الارضة وقالوا لها: لو كنت تأكلين لاتيناك بأطيب الطعام والشراب ولكن سننقل اليك الماء والطين فهم ينقلون ذلك اليها حيث كانت شكراً لها في جوف الخشب.
وروي: انه مر به شيطان فلم يسمع صوته ثم رجع فلم يسمع فنظره فاذا هو ملقي على الارض إلقاء الميت وكان ذلك بسبب إنكسار العصاء به لأكل الأرضة فالدليل الارضة فلا يرد على هذا القول ان الله سبحانه اخبرنا انه ما دلهم على موته الا دابة الارض وايضاً يحتمل على بعد ان يكون المعنى ما دلهم على مدة موته إلا دابة الارض كما روي انهم بعد ذلك فتحوا عليه وتيقنوا موته وكان موته فجأة وأرادوا أن يعرفوا وقت موته فوضعوا الارضة التي وجدوها أكلت العصا على العصا يوما وليلة فراوا ما اكلت وحسبوا ذلك لنحو فوجده قد مات منذ سنة وكان عمره ثلاث وخمسين سنة وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وبقي في ملكه اربعين سنة.
قيل: وكان بقاءهم في العذاب المهين عاما عوضا عن الاربعين يوماً التي تلف عنه خاتمه فيها، وفي رواية: ان سليمان عليه السلام قال ذات يوم لأصحابه: قد أتاني الله من الملك ما ترون ما مر علي يوم في ملكي بحيث صفا لي من الكدر وقد احببت ان يكون لي يوم واحد يصفو لي الى الليل ولا أغنم فيه ولكن ذلك اليوم غد فدخل قصره في الغد واغلق أبوابها ومنع الناس من الدخول عليه ورفع الأحبار اليه أملاً يسمع شيئاً ثم اخذ عصاه بيده وصعد فوق قصره واتكأ عليها فنظر في مملكته اذ نظر الى شاب حسن الوجه عليه ثياب بيض خرج عليه من جانب القصر فقال: السلام عليك يا نبي الله فقال: وعليك السلام كيف دخلت هذا القصر وقد منعت من دخوله؟، اما منعك الحجاب والبواب؟، ما هبتني حيث دخلت قصري بغير أذني؟ فقال: الذي لا يحجبني حاجب ولا يدفعني بواب ولا أهاب الملوك ولا اقبل الرشا وما كنت ادخل هذا القصر بغير اذن فقال سليمان عليه السلام: فمن أذن لك في دخوله؟ فقال: فارتعد سليمان عليه السلام وعلم انه ملك الموت فقال له: انت ملك الموت؟ فقال: نعم قال: فلم جئت؟ قال: جيئت لأقبض روحك.
قال: يا ملك الموت هذا يوم أردت ان يصفو لي ولا أسمع فيه ما يغمني.
قال: انك اردت يوماً يصفو لك فيه عيشك حتى لا تغنم فيه وذلك اليوم لم يخلق في الدنيا فارض بقضاء ربك فإنه لا مرد له.
قال: فامض لما أمرت به. فقبض ملك الموت روحه وهو منتكيء على عصاه.
وروى: انه لما رد اليه ملكه بعد نزعه عنه استعمل الشياطين في عمل المحاريب والتماثيل والجفان والقدور وغير ذلك وحمل الحجارة الثقيلة فجاءهم ابليس فقال: كيف انتم؟ فقال: ما لنا طاقة لما نحن فيه.
قال: تذهبون حاملين وترجعون فراغا؟ قالوا: نعم.
قال: فأنتم في راحة، فابلغت له الريح ذلك فأمرهم بالحمل ذاهبين وراجعين فقال لهم ابليس: تنامون بالليل؟ قالوا: نعم.
قال: فأنتم في راحة، فأبلغت اليه الريح ذلك فأمرهم بالعمل ليلاً ونهاراً فشكوا الى ابليس فقال لهم: أوقد فعلها؟ قالوا: نعم.
قال: فتوقعوا الفرج فقد بلغ الامر منتهاءً فما لبثوا الا يسيرا.