خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
٥٤
-الزمر

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ } لئلا يطمع طامع كالقاضى في حصول المغفرة بلا توبة ويدل له أيضاً قراءة ابن مسعود وابن عباس { يغفر الذنوب جميعاً } أي لمن يشاء بالتوبة واما { { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الخ فقد مر ما فيه واما* { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } فاستئناف معلل لغفره الذنوب بالتوبة أي يغفرها ويقبل التوبة منها لان من شأنه الغفران العظيم والرحمة العظيمة وملكه وغناه واسع لذلك والمراد بالآية التنبيه على أنه لا يجوز لمن عصى الله أي عصيان كان أن يظن أن لا يغفر له ولا تقبل توبته وذلك مذهبنا معشر الاباضية وزعم القاضي وغيره أن غير الشرك يغفر بلا توبة ومشهور مذهب القوم أن الموحد اذا مات غير تائب يرجى له وانه ان شاء الله عذبه بقدر ذنبه وأدخله الجنة وان شاء غفر له.
ومذهبنا ان من مات على كبيرة غير تائب لا يرجى له.
وعن ابن عباس رضي الله عنه ان ناساً من أهل الشرك أكثروا الزنا والقتل والانتهاك فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ان الذي تقول وتدعونا اليه لحسن أو تخبرنا بأن لما عملنا كفارة فنزلت الآية ونزل
{ { والَّذِينَ لا يدعون مع الله } إلى { { يبدل الله سيئاتهم حسنات } يبدل شركهم ايماناً وزناهم احصاناً.
وقال عطاء بن يسار: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الى وحشي يدعوه الى الاسلام وقيل بعد ما طلب التوبة وهو قاتل حمزة رضي الله عنه فعلى الأول فأرسل كيف تدعوني وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى
{ { يلقَ آثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة } وانا قد فعلت ذلك كله فنزل { { الا من تاب } الخ فأرسل اليه بها فقال هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فنزل { { ان الله لا يغفر أن يشرك } الخ فكتب اليه بها فقال أرانى بعد في شبهة فلا أدرى أيغفر لي أم لا فنزلت { قل يا عبادي } الخ فكتب اليه بها فقال وحشي نعم فجاء فأسم وكذلك على رواية من قال أنه طلب التوبة الا قوله كيف تدعوني فانه قال أريد التوبة وأنت تقول كذا ونزلت الآية.
وكذلك روي عن ابن عباس وقال ابن اسحق نزلت هذه الآية في عياش ابن ربيعة والوليد ابن الوليد وهشام بن العاص ونفر كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا في مكة ولم يهاجروا فافتتنوا وظنوا انه لا توبة لهم فنزلت وقيل كانت الصحابة يقولون لا يقبل صرفهم ولا عدلهم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا به فنزلت وذلك قول عمر وكتبها بيده الى عياش والوليد وكذا قال ابنه والنفر وقيل الى هشام فاسلموا وهاجروا وقال قوم نزلت في كفار قالوا ما ينفعنا الاسلام وقد زنينا وقتلنا النفس وأتينا كل كبيرة وقيل قال أهل مكة يزعم محمد ان من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وقد فعلنا ذلك.
وعن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا الا وهو مقبول حتى نزل
{ { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقلنا الكبائر فكنا اذا رأينا من أصاب شيئاً منها قلنا هلك فنزلت الآية فكففنا عن القول في ذلك وكنا اذا رأينا أحداً أصاب شيئاً من ذلك خفنا عليه وان لم يصب منها شيئاً رجونا له ومما يلد على أن الشرط التوبة انه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قوله: "ما أحب أن لى الدنيا بما فيها بهذه الآية ومن أشرك فسكت ساعة ثم قال الا من أشرك ثلاثاً" رواه ثوبان وقدم لفظ العباد الدال على الخضوع المقتضي للترحم وأضافهم لنفسه وأكد بأن ذكر لفظ الله مع أن المقام للاضمار وأعاد { { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } مع أن قوله { لا تقنطوا } الخ كاف وقال { جميعاً } مع أن { إن الله يغفر الذنوب } كاف تأكيداً قيل وقرأ رسول الله وفاطمة (يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالى) قال على وابن مسعود وابن عمر هذه أرجى آية في القرآن ودخل ابن مسعود المسجد فاذا بقاص يقص يذكر النار والأغلال وقام على رأسه فقال لم تقنط الناس؟ ثم قرأ (الآية) ومذكر منادى بمحذوف أو خبر لمحذوف أي يا مذكر أو أنت مذكر وقال صلى الله عليه وسلم كان في بنى اسرائيل رجل قتل تسعاً وتسعين انساناً وخرج فسأل راهباً هل لي من توبة فقال لا فقتله وجعل يطوف يسأل فقال له رجل ائت قرية كذا فأدركه الموت في الطريق فاختصمت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله الى هذه أن تقربي والى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينهما فوجد أقرب الى هذه بشبر فغفر له وفي رواية لما قتل ذلك الراهب سأل عن أعلم أهل الأرض فسأله فقال نعم لك توبة ومن يحول بينك وبينها انطلق الى أرض كذا فان بها اناساً يعبدون الله فاعبد معهم ولا ترجع الى أرضك فانها أرض سوء فانطلق وتوسط الطريق فمات فاختصمت الملائكة فقال الله قيسوا وأمر جهة القرية أن تقرب وقيل قال لهم ملك في صورة آدمي قيسوا فوجدوه أدنى الى أرض القرية بشيء فتولاه ملائكة الرحمة وذلك لا يصح في شرعنا بل يقود نفسه ويعط الديات فان نفد ما عنده وقد تاب نصوحاً أرضى الله عنه الخصماء وقال صلى الله عليه وسلم "أسرف رجل على نفسه" وفي رواية "لم يعمل حسنة قط فلما حضره الموت قال لبنيه اذا مت فأحرقونى ثم اطحنونى ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبنى عذاباً ما عذبه أحداً ففعلوا فأمر الله الأرض أن تجمع ما فيها ففعلت فاذا هو قائم فقال ما حملك على ما صنعت؟ فقال: مخافتك أو خشيتك فغفر له بذلك قلت وذلك اختصاص من الله به والا فالأمر بالاحراق معصية مات عليها وشكه في قدرة الله على احضاره جهل كبير ان لم يخلق الله فيه من العقل الا ما يفهم به انه اذا أحرق وطحن وذر لم يمكن جمعه فلم يؤاخذه الله"
وقال صلى الله عليه وسلم: "كان في بني اسرائيل رجلان متحابان أحدهما مذنب والآخر مجتهد فكان يقول للمذنب أقصر فوجده يوماً على ذنب فقال له اقصر فقال له خلني وربي أبعثت عليّ رقيباً فقال والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الجنة وماتا فجمعهما فقال للمجتهد أكنت على ما في يديّ قادراً اذهب الى النار وقال للمذنب اذهب الى الجنة وذلك لتوبة المذنب قبل موته وموت المجتهد على كبيرة عظيمة هي الاقناط من الرحمة والقطع بالنار لمن فتح له باب التوبة من غير أن يشترط عدم التوبة" وفي الحديث القدسي: "يا ابن آدم انك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان ولا أبالي" ـ وما الأولى ظرفية مصدرية ـ "يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء أي سحابها أو ما بدا لك منها ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم انك لو أتيتني بقراب الأرض أي ما يقارب ملئها بضم القاف خطايا ثم لقيتني لا تشرك بى شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة"
قلت لا يخفى ان مجرد الاستغفار انما يكفي في الذنب بين العبد وربه وان الشرك وغيره من المعاصي الكبار سواء في اشتراط التوبة لغفرها وما أوهم أن غيره يغفر بلا توبة فانه مجرد الاشعار بعظم الشرك { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ } ارجعوا اليه بالتوبة والطاعة ليغفر لكم هذا وأنت خبير بأن تلك الآية السابقة وان نزلت في شأن الخصوص فالمراد العموم والعبرة بعموم اللفظ* { وَأَسْلِمُواْ لَهُ } اخضعوا له وأخلصوا العمل* { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } لا تمنعون عنه