خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً
٩٧
-النساء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إِنَّ الَّذِينَ } خبر ان هو قوله: { قَالُوا فَيمَ كُنتُمْ } والرابط محذوف أى قال الملائكة لهم، وأما { أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } فمفرع بالفاء على قوله: { قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ }00الخ، ويجوز أن يكون الخبر: { فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } قرن بالفاء، لأن اسم ان شبه هنا باسم الشرط، وأن لا تمنع من ذلك كما مر فى موضعه، ولو كانت لا تدخل على أداة الشرط، وعليه فقال: { فِيمَ كُنتُمْ } حال من الملائكة بلا تقدير لقد وبتقريرها.
{ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ }: توفى فعل ماض، وليس عدم التاء فيه لكون تأنيثه مجازيا كما قيل، بل لأن تاؤه من التاءات اللاحقة للمذكر كحمزة فى المفرد، وليس الملائكة مؤنثا البتة، واذا قرن فعله مثلا بالتاء فما هو الا كما يقرن فعل جمع التكسير بالتاء، كقام رجال وقامت رجال، وجاء طلبة وجاءت طلبة، ويناسب كونه ماضيا قراءة بعضهم: توفتهم بتاء الـتأنيث لتأويل الجماعة، لا لتاء ملائكة، ويجوز أن يكون مضارعا أصله تتوفاهم، حذفت احدى التاءين، ويناسب المضارعية قراءة بعضهم: توفاهم بضم التاء وفتح الفاء، ففى القراءة الأولى يكون المعنى على الاخبار بأحوال قول مضوا وانقرضوا معينين، وكذا القراءة الثانية، وهى توفتهم بتاء بعد الفاء.
وأما على ان توفاهم بتاء مفتوحة وفتح الفاء أصله تتوفاهم وهو مضارع، فالمعنى على الاستقبال، وكذا توفاهم بضمها وفتح الفاء فى القراءة الثانية، ويحتمل أن يكون المعنى على هذه القراءة الثانية والفعل فيها مضارع، وعلى احتمال المضارع بحذف احدى التاءين على الماضى، لكن لحكاية الحال الماضية وتنزيلها حين النزول منزلة المستقبل ليتأكد مشاهدته كما يترقب المستقبل ليشاهد فضل مشاهدة أو على الحال تنزيلا للماضى منزلة الحاضر المعين، كأنه حاضر مشاهده.
ومعنى توفاهم وتتوفاهم أن الملائكة أماتتهم بسبب عصر الروح أو بالتحلى لها، أو أن الملائكة أتمت عددهم بذلك الى الأموات أو بتناول أرواحهم بعد خروجها والمميت على الحقيقة هو الله تعالى، وفى السؤالات: انما يخرج الروح من البدن رب العالمين، ويتلقاها ملك الموت فيقبضها، ومن قال: يخرجها الملك فقد أشرك. انتهى وهو مشكل.
والظاهر أنه لا يشرك أن قال: يخرجها الملائكة، وأراد أنهم يخرجونها بأمر الله وتسببهم فى خروجها بعصرهم اياها من مواضعها، وقد فسر به بعضهم قوله تعالى:
{ { والنازعات غرقا0 والناشطات نشطا } ولا يتعين قول السؤالات أن الروح تخرج بتجلى الملك اليها، كانجذاب الحديد لحجر المغناطيس، ومعنى قراءة توفاهم بضم التاء وفتح الفاء أن الله تعالى يوفى الملائكة أرواح هؤلاء الذين يموتون ظالمين بكسر الفاء مشددة، فيتوفونها، أى يمكنهم من استيفائها فيستوفونها.
والملائكة: ملك الموت وأعوانه، وهم كثير جدا، وقيل: أعوانه ستة: ثلاثة يلون قبض أرواح المؤمنون، وثلاثة يلون قبض أرواح الكفار، وقل المراد ملك الموت جمع تعظيما له ولفعله فعل الملائكة الكثيرة فى التوفى كالجمع فى
{ رب ارجعون } وقيل: المراد بالتوفى أخذ الزبانية من المحشر الكفار لا قبض أرواحهم.
{ ظَالِمى أَنفُسِهِمْ }: حال من هاء توفاهم، حذفت نونه للاضافة وهو جمع وظلم أنفسهم بالاقامة فى دار الشرك، وقد وجبت الهجرة يومئذ، لأن الله جل وعلا لا يقبل اسلام أحد الا أن هاجر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان حيث أمره رسول الله، أو كان مستضعفا، وبعد فتح مكة لم تجب الهجرة، قال صلى الله عليه وسلم:
" لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"
". فقد قيل: ان الآية نزلت فى أناس تكلموا بالاسلام ولم يهاجروا، كقيس بن الوليد بن المغيرة، خرجوا الى القتال مع المشركين كقيس المذكور، أو لم يخرجوا، روى أنه لما خرج المسلمون الى بدر خرجوا مع الكفار فقاتلوا، وقيل: ظلموا بالشرك.
وقد روى أن قوما خرجوا من مكة مع المشركين بقهر لقتال بدر، قهرهم المشركون على الخروج، ولم يعلموهم مسلمين اذ علموهم، ولما رأوا شوكة المشركين وضعف المسلمين ارتابوا وارتدوا، وقالوا: غر هؤلاء دينهم، وقاتلوا المسلمين، ويقتلهم المسلمون أو الملائكة، لأن الله جل وعلا أمد المسلمين بالملائكة يوم بدر، وقاتلوا قدرا أمرهم الله به فقيل: قتلوا هؤلاء بأن ضربوا وجوههم وأدبارهم.
{ قَالُوا }: أى الملائكة لظالمى أنفسهم.
{ فِيمَ كُنتُمْ }: أى فى أى شىء كنتم من أمر دينكم فى صواب أم خطأ، وفى وفاء فى دين الصواب بأن هاجرتم مثلا، أو فى تقصير بأن تركتم الهجرة وخرجتم لقتال المسلمين، ومن فريق المسلمين أنتم أو من فريق المشركين، والاستفهام للتوبيخ والتقرير.
{ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ }: عوملنا بمعاملة الضعفاء، لأنا من الضعفاء، فقهرنا المشركون عن اقامة الدين، واعلاء كلمته، أو عن الهجرة أو عن الاسلام.
{ فِى الأَرْضِ }: مطلقا ومنها أرض مكة، وقيل فى أرض مكة هذا اعتذار منهم، أجابوا به الملائكة حين قالوا فيم كنتم، والجواب والسؤال كلاهما بلفظ الماضى، وهو مما يقوى أن التوفى مراد التسبب فى موت قوم مضوا، وعلى أن المراد الاستقبال أو الأخذ للنار يوم القيامة، فالماضى لتحقق الوقوع، وكذبهم للملائكة فى قوله: مستضعفين بقولهم الذى ذكر الله بقوله:
{ قَالُوا }: أى الملائكة.
{ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا }: تنتقلوا فيها الى موضع منها تتمكنون فيه من دينكم، كما هاجر من قبلكم الى المدينة والى الحبشة، اذ هاجر بعض الصحابة الى الحبشة، ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه سلم وغيره الى المدينة ضمن تهاجروا معنى تنتقلوا، فعداه بفى مذكورة، ثم بالى محذوفة، كما رأيت، ولعل حكمه التعدى بفى الى ضمير الأرض المبالغة فى الهجرة بأن الدين حق بالهجرة اليه ولو بالانتقال الى سائر الأرض كلها، كما يقال: أكل فى بطنه ويراد أنه ملأه.
ويجوز أن تكون فى معنى الى أى فتهاجروا الى أرض الله الواسعة غير الأرض التى استضعفتم فيها، فيجوز أيضا أن لا تضمين لمعنى اللازم، بل يقدر حال، فيقدر مفعول لتهاجروا، أى فتهاجروا الأرض التى استضعفتم منتقلين فى أرض الله الواسعة، وتهاجروا منصوب فى جواز النفى أو الاستفهام، وتحب الملائكة من لم يتمكن من دينه ولم يهاجر الى حيث يتمكن، وها أنا ذا أدعو بما دعى به الزمخشرى، لأنه جاور بيت الله الحرام سبع سنين.
اللهم انت كنت تعلم أن هجرتى اليكم لم تكن الا للفرار بدينى فاجعلها سببا لخاتمة الخير، ودرك المرجو من فضلك، والمبتغى من رحمتك، وصل جوارى لك بعكوفى عند بيتك بجوارك فى دار كرامتك، يا واسع الكرامة وأزيد.
اللهم ان خودعت فى شىء من أمرى فارددنى الى بابك، يا راد الضالة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" "من فر بدينه من أرض الى أرض وان كان شبرا من الأرض استوجبت لهم الجنة وكان رفيق أبيه ابراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم " .
ونحن معشر الأعاجم المسلمين ولو لم يكن ابراهيم عليه السلام أبانا فى النسب لكنه أبونا بالدين، وذلك مجاز فتراد فى الحديث الأبوة فى الدين للعرب والعجم، أو نعتبر قوله صلى الله عليه وسلم: " "مولى القوم منهم " فأبو العرب ابراهيم ونحن موال للعرب المسلمين فى الدين فنلتحق بهم التحاقا، كما يلتحق المعتق بنسب معتقه، ذلك قول منى قلته، وكلام حق أرسلته والى الآن من لم يتمكن من ذنبه الواجب على الفور فى موضع، ولو سر أتجب عليه الهجرة الى حيث يتمكن.
{ فَأُوْلَئِكَ مَأوَاهُمْ }: مرجعهم.
{ جِهَنَّمُ }: جزاء لتركهم الهجرة الواجبة، ومساعدة الكفار بالبقاء معهم، أو بالبقاء على الشرك، أو بالخروج معهم فى قتال المسلمين.
{ وَسَآءَتْ }: أى هى أى جهنم.
{ مَصِيراً }: تمييزا، أو فاعل ساءت ضمير لمؤنث مبهم مفسر بالتمييز الواقع على المؤنث الذى هو جهنم مخصوصة بالذم، أى وساءت مصيرا جهنم.