خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١١
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ علَيكُم إِذ هَمَّ قَومٌ أَن يَبسُطُوا }: بأن يبسطوا.
{ إِليكُم أَيدِيَهُم فَكَفَّ أَيْدِيَهُم عَنكُم }: القوم مشركو العرب، اذ هموا أن يمدوا أيديهم الى المسلمين أن يقتلوهم وهم فى الصلاة، فمنعها الله عز وجل، وذلك أنهم رأوا رسول الله صلى الله وعليه وسلم والمؤمنون يصلون صلاة الظهر معاً جماعة بعسفان، فى غزوة ذى أنمار، وهى غزوة ذى المجاز بينهم وبين مكة مرحلتان، وكانوا يهتمون بذلك، حتى كان المؤمنون يصلون ولم يفعلوا حتى صلوا فندموا لو فعلوا فقالوا: اذا صلوا العصر جماعة كذلك قتلناهم فى الصلاة، فأنزل الله صلاة الخوف، فكف الله أيديهم فى صلاة الظهر، وفى صلاة العصر.
وقال قتادة: ان ذلك ببطن نخلة، وان الذين هموا ببسط أيديهم بنو ثعلبة، وبنو محاربة، حال الصلاة، فنزلت صلاة الخوف وهى الغزوة السابقة، وهذان متبادران فى الكف عن نفس كل مؤمن، وقيل: المراد اهتمام اليهود بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، اذ جاءهم فى الدية، ولكن قتله قتل للمؤمنين كلهم لعظمه، وانطماس الدين بقتله، وذل المؤمنين وانكسارهم بقتله، فيقتلوا لو قتل، وذلك أنه روى أبو سعيد النيسابورى وابن اسحاق، واللفظ لأبى سعيد الواقدى، عن جماعة من شيوخه، والواقدى هذا هو مؤلف فتوح الشام.
قالوا:
"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الى بنى النضير يكلمهم أن يعينوه فى دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمرى رضى الله عنه، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم ما أحببت، قد آن لك أن تزورنا، وأن تأتينا اجلس حتى نطعمك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مستند الى بيت من بيوتهم، ثم خلا بعضهم الى بعض، ثم تناجوا فقال حيى بن أخطب: يا معشر يهود قد جاءكم محمد فى نفر من أصحابه، لا يبلغون عشرة، وذلك أنه كان معه أبو بكر، وعمر، وعلى، والزبير، وطلحة، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، فاطرحوا عليه حجارة من فوق هذا البيت الذى هو تحته فاقتلوه، فلن تجدوه أخلى من الساعة، فان هو قتل تفرق أصحابه، فلحق من كان معه من قريش بمكة، وبقى من كان معه هاهنا من الأوس والخزرج، والأوس حلفاءكم، كما كنتم تريدون أن تصنعوا يوماً من الدهر فمن الآن.
فقال عمرو بن جحاش النضيرى: أنا أظهر على هذا البيت، فأطرح عليه صخرة، فقال لهم سلام بن مشكم: يا قوم أطيعونى هذه المرة وخالفونى الدهر، والله لئن فعلتم هذا الذى تريدون ليقومن لهذا الدين منهم قائم الى قيام الساعة، فيستأصل يهود، ويظهر دينه، وهيأ عمرو ابن جحاش الصخرة ليرسلها، قلت: حفظت أنها شق الرحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أشرف بها جاء نبى الله صلى الله عليه وسلم الخبر يعنى الوحى بما هموا به، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً كأنه يريد حاجة، وتوجه الى المدينة، وجلس أصحابه يتحدثون وهم يظنون أنه قام يقضى حاجته، فلما يئسوا من ذلك قال أبو بكر رضى الله تعالى عنه: ما مقامنا هاهنا بشىء لقد توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر، فقال حيى بن أخطب: عجل أبو القاسم، كنا نريد أن نقضى حاجته ونفديه، وندمت يهود على ما فعلوا.
فقال لهم كنانة بن صوريا: أتدرون لم قام محمد؟ قالوا: لا والله ما ندرى، ولا تدرى أنت، قال: بلى والتوراة أنى لأدرى، قد أخبر محمد بما هممتم به من الغدر، فلا تخذلوا أنفسكم، والله انه لرسول الله حقاً، وما قام حتى أخبر بما هممتم به، يعنى خبر الوحى وأنه آخر الأنبياء عليهم السلام، كيف تطمعون أن يكون من بنى هارون وقد جعله الله حيث شاء، وان فى كتبنا التى درسنا فى التوراة التى لم تغير ولم تبدل، أن مولده بمكة، وأن مهاجره بيثرب، وصفته بعينها، ما تخالف حرفاً مما فى كتبنا، وكأنى أنظر اليكم ظاعنين تتشاغر صبيانكم، قد تركتم دياركم خالية، وأموالكم وانما هو بشرفكم، فأطيعونى فى خصلتين، قالوا: وما هما، قال: تسلمون وتدخلون مع محمد فى دينه فتأمنون على أموالكم وأولادكم، وتكونون من أعز أصحابه عليه، وتبقى بأيديكم أموالكم، ولا تخرجون من دياركم.
فقالوا: لا نفارق التوراة وعهد موسى، قال: فانه مرسل اليكم أن اخرجوا من بلادى فقولوا: نعم، فانه لا يستحل لكم دماً ولا مالا، وتبقى أموالكم لكم ان شئتم بعتم، وان شئتم أمسكتم، قالوا: أما هذه فنعم، قال: أما والله لولا أنى أفضحكم لأسلمت، لكن لا تعير شعثاء باسلامى بعدى أبدا حتى يصيبنى ما أصابكم وشعثاء ابنته.
فقال سلام بن مشكم: قد كنت لما صنعتكم كارهاً وهو مرسل أن اخرجوا من ديارى، فلا تعقب يا حيى كلامه، وأنعم له بالخروج، واخرج من بلاده، قال: أفعل اذا أخرج.
فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة، تبعه أصحابه فلقوا رجلا خارجاً من المدينة، فسألوه: هل لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم لقيته داخلا الى المدينة، فلما انتهى أصحابه اليه وجدوه قد أرسل الى محمد بن مسلمة يدعوه، فقال أبو بكر: يا رسول الله قمت ولم نشعر، فقال صلى الله عليه وسلم: بغدرى فأخبرنى الله عز وجل بذلك فقمت، وجاء محمد بن مسلمة فقال له: اذهب الى يهود بنى النضير فقل لهم: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسلنى اليكم برسالة.
فأتاهم فقال: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسلنى اليكم برسالة، ولست أذكرها لكم حتى أعرفكم شيئاً تعرفونه، فقالوا: وما هو؟ قال أنشدكم بالتوراة التى أنزل الله على قلب موسى، أتعلمون أنى جئتكم قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم وبينكم التوراة، فقلتم فى مجلسكم ذلك: يا ابن مسلمة ان شئت أن تغديك غديناك، وان شئت أن نهودك هودناك فقلت لكم: غدونى ولا تهودونى، فوالله لا أتهود أبداً فغديتمونى فى صحيفة لكم، كأنى انظر اليها، فقلتم لى: ما يمنعك من ديننا الا أنه دين يهود، فكأنك تريد الحنيفيه التى سمعت بها، أما ان أبا عمرو الراهب ليس بصاحبها، وانما صاحبها الضحوك القتال، فى عينيه حمرة، ويأتى من قبل اليمن، يركب البعير ويلبس الشملة، ويجترىء بالكسرة، وسيفه على عاتقه ينطق بالحكمة، والله ليكونن بقريتكم هذه سلب ومثل.
قالوا: اللهم نعم، قد قلنا ذلك، وليس به، قال: قد فرغت انه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أرسلنى اليكم يقول لكم: انه قد انتقض العهد الذى جعلت لكم بما هممتم به من الغدر، وأخبرهم بما كانوا ارتئوا من الرأى وظهور عمرو بن جحاش على البيت ليطرح الصخر، فأسكتوا ولم يقولوا حرفاً، ويقول: اخرجوا من بلادى هذه فقد أجلتكم عشرة أيام، فمن رؤى يعنى بعدها ضربت عنقه"
.
وساق أبو سعيد النيسابورى الحديث الى أن قال حيى بن أخطب: "انا لا نخرج فليصنع محمد ما بدا له، فقال له سلام بن مشكم: يا حيى منتك نفسك الباطل فلا تفعل، فوالله انك لتعلم ونعلم أنه رسول الله، وان صفته عندنا، وان لم نتبعه وحسدناه حين خرجت النبوة من بنى هارون فتعال فلنقبل ما أعطانا من الأمر ونخرج من بلاده، فقد عرفت أنك خالفتنى فى الغدر به، فاذا كان أوان التمر جئنا أو جاء منا الى تمره فباع أو صنع ما شاء، ثم انصرف فكأنا لم نخرج من بلادنا، فأبى عليه" .
ثم ساق الحديث الى حصر النبى صلى الله عليه وسلم اياهم، وقطعه نخلهم، " فقالوا له: نحن نعطيك الذى سألت وخرج من بلادك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أقبله اليوم، ولكن اخرجوا منها ولكم ما حملت الابل الا الحلقة، فأبى حيى أن يقبل، فلما رأى ذلك يامين بن عمرو، وأبو سعيد بن وهب، قال أحدهما لصاحبه: والله انا لنعلم انه لرسول الله حقاً فما ننظر أن نسلم فنأمن على دمائنا وأموالنا، فنزلا من الليل وأسلما وأحرزا أموالهما" .
قال ابن اسحاق: "حدثنى بعض آل يامين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: ألم تر ما لقيت من ابن عمكم وعمه ابن جحاش وما هم به من شأنى فجعل يامين لرجل جُعْلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله" .
قال عياض: قيل: ان النبى صلى الله عليه وسلم كان يخاف قريشاً، فلما نزلت هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ علَيكُم إِذ هَمَّ قَومٌ أَن يَبسُطُوا إِليكُم أَيدِيَهُم فَكَفَّ أَيْدِيَهُم عَنكُم } الآية استلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " من شاء فليخذلنى " قلت: وجاء مثل هذا فى غير هذه الآية.
وروى
"أن عمرو بن جحاش عمد الى رحى عظيمة ليطرحها على النبى صلى الله عليه وسلم، فأمسك الله يديه، ولصقت بهما، فأخبر الله النبى صلى الله عليه وسلم بذلك فخرج راجعاً الى المدينة، وخرج معه على بن أبى طالب، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: يا على لا تبرح مكانك حتى يخرج اليك أصحابى فمن خرج اليك منهم وسألك عنى فقل: توجه الى المدينة ففعل ذلك حتى تناهوا اليه، ثم تبعوه الى المدينة" الرجلان اللذان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع ديتهما كانا من بنى سليم.
وكان بين بنى سليم ورسول الله صلى الله عليه وسلم موادعة، وقتلهما رجلان من الصحابة، لما انتسبا لهما الى بنى عامر، والقاتلان من الركب الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثون راكباً من المهاجرين والأنصار، وأمر عليهم المنذر بن عمرو الساعدى، الذى كان ليلة العقبة أحد النقباء الى بنى عامر بن صعصة. خرجوا فلقيهم عامر بن الطفيل على بئر معونة من مياه بنى عامر، فاقتتلوا فقتلوا المنذر وأصحابه رضى الله عنهم، الا ثلاثة لم يحضروا القتال كانوا فى طلب ضالة لهم، أحدهم عمرو بن أمية الضمرى، وجاءوا من طلب الضالة، ولم يرعهم الا الطير تحوم فى السماء يسقط من مناقرها علق الدم، فقال أحد الثلاثة قتل أصحابنا ثم تولى يشتد حتى لقى رجلا من المشركين، فاختلفا بضربتين، ولما خالطته الضربة رفع رأسه الى السماء، وفتح عينيه وقال: الله أكبر الجنة ورب العالمين، ورجع صاحباه، فلقيا الرجلين من بنى سليم، ذكر ذلك مجاهد وعكرمة والكلبى.
قلت عمرو بن أمية الضمرى هو أحد القاتلين، قتل الرجلين يحسبهما مشركين على ما فى الكشاف، وما تقدم من أنهما قتلا، لأن من قتلهما انتسبا له الى من لا عهد له أولى، فجمع الدية لأنهما فى العهد لا لكونهما مسلمين، وقيل: ان الثلاثة قتلوهما.
وقال الحسن:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محاصراً غطفان بنخل، فقال رجل من المشركين: هل لكم أن أقتل محمداً؟ فقالوا: وكيف تقتله؟ قال: أفتك به، قالوا: وددنا أنك فعلت ذلك، فأتى النبى صلى الله عليه وسلم والنبى صلى الله عليه وسلم متقلد سيفه، فقال: يا محمد أرنى سيفك فأعطاه اياه، فجعل يهزه وينظر اليه مرة والى الرسول صلى الله عليه وسلم مرة، ثم قال: من يمنعك منى يا محمد؟ قال: الله، فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأغمد السيف وتركه ومضى" ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقيل:
"نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا، وتفرق الناس فى العضاة يستظلون بها، فعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحه فى شجرة، فجاء أعرابى فسل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل عليه فقال: من يمنعك منى؟ قال: الله قاله ثلاثاً، فأغمض الأعرابى السيف، فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فأخبرهم وأبى أن يعاقب" ، وفى رواية قال: "من يمنعك منى؟ قال: الله، فأسقطه جبريل من يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يمنعك منى؟ قال: لا أحد أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم" فنزلت الآية.
{ وَاتَّقُوا اللهَ }: فى أمره ونهيه.
{ وَعَلَى اللهِ }: لا على غيره.
{ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤمِنُونَ }: فانه هو الذى يدفع الشر ويأتى بالخير، كما دفع من هم اليهم ببسط اليد، والواضح عند بعض أن القوم الذين هموا ببسط الأيدى هم اليهود كما مرت القصة، مستدلا بتعقيب ذلك بذكر أسلافهم بذمهم اذ قال:{ وَلَقَد أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ }