خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٣٨
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقطَعُوا أيدِيَهُمَا }: اذ نزلت فى طعيمة بن أبيرق، وليس بمشرك لما ناسبت السرقة المحاربة وسائر الكفر، ذكرها بعد، والسارق مبتدأ خبره محذوف على حذف مضاف، أى مما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة، وقيل: السارق مبتدأ خبره اقطعوا أيديهما على الاخبار بجملة الطلب، وقرن بالفاء لشبه المبتدأ مع أل باسم الشرط وفعل الشرط، كأنه قيل: من سرق ومن سرقت، ويجوز كون الفاء فى جواب أما أى وأما السارق فاقطعوا، وعديد هذا ما مر من حكم المحارب، وقرأ عيسى بن عمير السارق والسارقة بالنصب على الاشتغال، وقرن المشغول بالفاء للتأكيد، ولشبه أل بأداة الشرط، لأنها موصول للعموم، ولم يرد به الخصوص، ولو خص سبب النزول، وذلك أنه لما ناب المشغول عن الشاغل صار السارق كأنه منصوب بالمشغول متصل، فكأنه اسم شرط مفعول مقدم لجوابه كذا ظهر لى.
والنصب على الاشتغال راجع على الابتداء اذا كان الاخبار بالطلب، ولذا اختار سيبويه قراءة النصب والسرقة أخذ الانسان مال غيره فى خفية، بحيث لا يجوز له أخذه، وانما يوجب القطع اذا كانت من حرز وكان المسروق ربع دينار أو ما يساويه فصاعداً.
قالت عائشة رضى الله عنها:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقطع يد السارق الا فى ربع دينار" ودينار الدماء عندنا كأرش الجروح ودية الأعضاء، ودية الانسان والنكاح أثنى عشر درهماً، فربع الدينار ثلاثة دراهم، فالقطع فى ثلاثة دراهم، وبعض أصحابنا يجعله من ستة عشر درهماً، فربعه ربعه وكذا فعل الشيخ عامر فى الايضاح، وأكثر أصحابنا على الأول، وبه قال مالك وأحمد واسحاق، فالقولان متفقان فى أن القطع فى ربع دينار، وهو مذهب الجمهور أبى بكر وعمر وعثمان، وعلى وجابر بن زيد، وأصحابنا، وعمر بن عبد العزيز والأوزاعى والشافعى، الا أنهم اختلفوا فى الدينار بعد ما ورد أن القطع فى ربعه.
واحتج من قال بالثلاثة برواية عمر رضى الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً فى مجن قيمته ثلاثة دراهم، ففسروا الدينار باثنى عشر درهما اذ لم يروا أنه قطع صلى الله عليه وسلم فيما دون، ولا قائل أن ربع الدينار أقل من ثلاثة والمجن الترس، وعن أبى هريرة أن قدر النصاب الذى تقطع به اليد خمسة دراهم، وعن عمر لا تقطع لخمس الا فى الخمسة، وبه قال ابن أبى ليلى لما روى عن أنس أنه قطع أبو بكر فى مجن قيمته خمسة دراهم.
وفى رواية عن أنس أنه قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مجن قيمته خمسة دراهم، والصحيح أن أنس قال: قطع أبو بكر فى مجن قيمته خمسة دراهم، وعن أبى هريرة: القطع فى أربعة دراهم، وكذا عن أبى سعيد.
وقال الحسن البصرى: القطع فى درهم فصاعداً، ومن مواعظه: احذر من قطع يدك فى درهم، وعن أبى حنيفة لا قطع فيما دون عشرة دراهم، وعنه وعن ابن مسعود وسفيان الثورى: لا قطع فى أقل من دينار، أو عشرة دراهم، لما روى عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من قطع فى مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم، وفى رواية عن الحسن، وابن عباس، وابن الزبير: القدر غير معتبر، فيجب القطع فى القليل والكثير، وهو قول الظاهرية لعموم ظاهر الآية، وكذا لم تشترط الظاهرية الحرز لعموم ظاهر الآية، والحق أن الآية مخصصة بالحديث فى المقدار والحرز، نعم ورد فى الحديث ما يوهم أن القطع لا مقدار فيه للمسروق، وذلك أنه روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لعن الله السارق ليسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الخيل فتقطع يده" فقيل: بيضة الدجاجة ومطلق الخيل، فلا حد لما يقطع فيه، وقال الأعمش: يرون أن بيضة الحديد، وأن من الخيال ما تساوى دراهم، وهذا التأويل هو الراجح لورود التحديد فى الحديث.
وأما حديث: لم تقطع يد السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الا فى ثمن مجن حجفة أو ترس بكسر الميم وفتح الجيم وتشديد النون آلة الاجتنان أى الاستتار والحجفة بدل منه، والترس معطوف على حجفه، والحجفة بفتح الحاء والجيم الدرقة وهى من خشب أو عظم، وتغلف بجلد أو غيره، والترس مثله، لكن يطابق فيه بين جلدين وقيل هما بمعنى، وأو على الثانى للشك من الراوى، هل ذكر هذا اللفظ، وهل ذكر هذا اللفظ. وعلى الأول فقيل للشك والأولى أنه عليه للتفصيل، وأما فى قول دينار أو عشرة دراهم، وقد مر فللشك، واستثنى الحنفية ما يسرع اليه الفساد، وما أصله الاباحة كالحجارة واللبن والخشب والملح والتراب والكلأ والطير، وفيه رواية عند الحنابلة، والراجح عندهم فى مثل السرجين القطع، لأنهم أجازوا بيعه وهو الزبل.
وانما كان القطع فى ربع دينار مع أن اليد أو الرجل ديتهما نصف الدية التامة، لأن الدية لليد أو للرجل لو كانت ربع دينار لكثرت الجنايات على الأيدى، ولو كان نصاب القطع خمسمائة لكثرت الجنايات على الأموال، فظهرت الحكمة فى الجانبين، وصيانتهما جانب العضو وجانب المال، هذا ما حكى أو ستة غر بن حجر فى تفسير بيت عبد الوهاب المالكى:

صيانة العضو أغلاها وأرخصها صيانة المال فافهم حكمة البارى

وفى رواية:

عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فانظر حكمة البارى

خالفوا عبد الوهاب جواباً لما قيل عن أبى العلاء المعرى:

يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت فى ربع دينار

قيل: شرط الحرز مأخوذ من الآية، لأن لفظ السرقة معناه الأخذ خفية، وفيه أنه قد يختفى بغير الحرز، والحرز الدار والبيت من بناء أو نحو شعر، سكن أو لم يسكن، فما جعل لسكنى أو لحفظ المال أو القبر، وسواء وضع شىء فيما ظهر منه كعرصة الدار، أو فيما خفى، سواء أغلق الباب أو فتح، وما ليس فى بناء ولا بيت نحو شعر فلا قطع فيه.
قال النخعى: لا قطع على من دخل بيتاً باذن، والمذهب قطع السارق من القبر، وهو مسكن الميت، وبه قال مالك والشافعى وأحمد، وقال ابن أبى ليلى، والثورى وأبو حنيفة: لا قطع عليه فان سرق شيئاً من غير حرز كثمر من بستان لا حارس له، وحيوان فى برية لا راعى لها، قيل أو فى بيت منقطع عن البيوت، فلا قطع عليه.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص:
"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التمر المعلق فقال: من أصاب فى فيه من ذى حجة غير متخذ خبينته فلا شىء عليه" أى لا غرم ولا عقوبة، وذلك على عرف البلد، ومن خرج بشىء منه فعليه غرم مثله، والعقوبة أى الأدب أو فوقه لا القطع.
ومن سرق منه قدر المحجن فعليه القطع، والخبنة بضم الخاء المعجمة واسكان الباء الموحدة بعدها نون ما يؤخذ فى الخص، أو فى أسفل الثوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا قطع فى ثمر معلق" أى لم يخرج بقدر محجن فان لم يخرج ولكن أكل فى فيه فلا قطع، ولو أكل قدر قيمة المحجن كذا ظهر.
قال: ولا فى حريسة الجبل، فاذا واراه الجرير أو المراج فالقطع فيما بلغ المحجن، والحريسة السرقة أى سرقة شاة مثلا من الجبل وقيل الحريس شاة يدركها الليل قبل أن تصل مأواها، والمراح بالضم الموضع الذى تأوى اليه الماشية بالليل.
وقال صلى الله عليه وسلم:
"ليس على خائن أو مختلس قطع" ويقطع العبد والحر الا ان سرق من مال سيده، أو الشريك من مال الشركة، أو الأب أو الأم من مال ولدهما للشبهة، ويقطع السارق من مال أبيه وأمه، وقيل لا للشبهة، ويقطع حديث عهد بالاسلام لا يعلم أن السارق يقطع، وقيل لا يقطع.
والقطع من الرسغ فى اليد أو المفصل من الرجال كما مر، وحكى فيه بضع أصحابنا رحمهم الله وغيرهم الاجماع، وقيل عن قوم خوارج: تقطع من المنكب، وزعم بعض أن علياً كان يقطع من يد السارق الخنصر والبنصر والوسطى، ويقول: أستحى من الله أن أتركه بلا عمل. ويرده أنه لا يسمى مقطوع اليد، ولا يعتد بما روى أنه صلى الله عليه وسلم قطع يمين السارق من الرسغ، والمراد بالأيدى فى الآية الأيدى اليمنى وقرأ عبد الله بن عباس: فاقطعوا أيمانهما.
والمراد بالسارق والسارقة الجنس، وانما ثنى الضمير فى أيديهما مراعاة للفظهما، وجمع اليد مع أن المراد يدان يمين هذا ويمين هذه ليلا تجتمع تثنيتان لا مراعاة للمعنى، لأنه قد روعى اللفظ بعدهما، والأصل أن لا يراعى اللفظ بعد مراعاة المعنى وانما يبدأ القطع من اليد اليمنى، وان قطعت الشمال فعلى قاطعها نصف الدية التامة، وذلك جناية، وان تعمد فان شاء المقطوع اقتص، وان شاء فنصف الدية، وتقطع يمين المقطوع بعد ذلك أيضا فى حد السرقة، وهذا مذهبنا، وقيل لا تقطع يمينه بعد، ونسب لقتادة وكذا قال مالك الا أنه قال: ان قطعت خطأ أجزأت عن السارق وله نصف الدية، وكذا قال أبو حنيفة، والقولان عن أحمد والشافعى.
واذا سرق فقطعت يمناه ثم سرق قطعت رجله اليسرى، ثم ان سرق قطعت يده اليسرى، وان سرق فرجله اليمنى، لآية المحاربة، وفعل الصحابة، ولأن الآية فى المرة الواحدة فاذا أعاد السرقة وكرر أعيد القطع الى أن لا يبقى له ما يقطع، وان سرق سجن وعزر هذا قول أصحابنا والجمهور، ونسب ذلك لقتادة ومالك والشافعى، وقال الزهرى المدنى صاحب مالك: يقتل فى الخامسة، وقيل تقطع يده اليمنى، فيده اليسرى، فرجله اليمنى فاليسرى، نقل هذا عن أبى بكر وعمر، ولم يصح النقل، وقيل اليد اليمنى فالرجل اليسرى، ثم لا قطع.
قال النخعى: لا يترك ابن آدم لا يقدر يستنجى ويأكل كالبهيمة بها، وروى أن عمر أراد القطع فى الثالثة فقال له على: أضربه واحبسه ففعل، قال على: أستحيى من الله أن لا أترك له يداً يستنجى بها، ورجلا يمشى بها، وهذا قول النخعى والشعبى، وأحمد والأوزعى، وأصحاب الرأى.
وقالت الظاهرية لا قطع للرجلين، واستدل الجمهور بما رواه ابن عباس رضى الله عنهما ان سرق فاقطعوا يده، ثم ان سرق فاقطعوا رجله، فأطلق اليد والرجل، فعلمنا أنه أراد تكرير القطع بتكرير السرقة الى أن لا يبقى ما تسمى يداً ورجلا، والبدء باليد اليمنى، ويجوز أن يحسم السارق بعد القطع، والقطع واجب لأن الأمر المجرد للوجوب ولقوله تعالى:
{ جَزَآءَ بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ واللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }: فان الجزاء واجب، فانه تعذيب من الله يردع به الناس عن السرقة أو الجزاء ردع من الله تعالى لهم عنها، وهو عزيز لا يرد ما فعل، ولا عما أراد فعله، حكيم فى الحكم بالقطع وغيره، ولما روى عن عائشة رضى الله عنها،
" أن قريشا أهمتهم شأن المخزومية التى سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: من يتجرىء عليه الا أسامه بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع فى حد من حدود الله ثم خطب وقال: انما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه، واذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت لقطعت يدها" .
وقالت عائشة رضى الله عنها: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسارق فقطعه، فقالوا: ما كنا نراك تبلغ به هذا؟ فقال: لو كانت فاطمة لقطعتها" وجزاء مفعول لأجله ناصبه اقطعوا، ونكالا بدل من جزاء بدل مطابق، أو مفعول لأجله ناصبه جزاء، أو مفعولان مطلقان، أى جازوهما جزاء ونكلوهما نكالا، وعامل كل مستأنف مقدر كما رأيت وهما اسما صدرين، المجازاة والتنكيل وذلك الجزاء والتنكيل، ولو كان فعلين للمخلوق لكنهما مأمور بهما من الله، ومخلوقان لله تعالى، وصح أن يكون من الله نعتاً لنكالا، وما وافقه على القطع أى جزاء بالقطع الذى كسباه، لأن السرقة كسب له، أو على السرقة فتكون للتعليل أى جزاء بالقطع لما كسبا وهو السرقة.