خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
١
-الأنعام

هميان الزاد إلى دار المعاد

بسم الله الرحمن الرحيم
{ الحمدُ للهِ الَّذى خَلَق السَّماوات والأرضَ } إخبار بأن الله جل جلاله هو أهل الحمد، فإذا كان إهلاله وجب حمده، فهو مقيد للأمر من هذه الجهة، وقيل: اللفظ إخبار، والمعنى أمر، أى احمدوا الله، أو قالوا: "الحمد لله" ولو قال: احمدوا الله لم يفد الدوام والثبوت، ولم يفد تعليل صفة الحمد، وعلل الحمد بخلق السماوات والأرض، لأن فيهن منافع الدنيا والآخرة لنا، ولكونهن منافع وعبراً، وأعظم ما ترى من الأجسام خصَّهن بالذكر، فهو حقيق بالحمد لخلقه هذه المنافع والأجسام العظام، حمد أو لم يحمد، فهو حجة على الذين كفروا وعدلوا بربهم، وجمع السماء دون الأرض، مع أن الأرض أيضاً أرضون، لأن طبقات السماوات مختلفات، بعضها موج، وبعضها فضة، وهكذا... ومتفاوتات الآثار والحركات والأرضين كلهن تراب وحجر، ساكنات لا تفاوت فيهن بحركة أو أثر.
وقدم السماوات لشرفهن بالملائكة وبالعبادات الدائمة والخلو عن المعاصى، وبالنيرات، وعلوّ مكانهن وتقدم وجودها كذا قيل إنه تقدم وجودها، وذلك تفضيل يظهر للحسن، وأما باعتبار أن رسول الله صلى الله وسلم خلق من الأرض، فهذه الأرض أفضل، وذلك الحمد شكر أيضاً لتعلقه بالمنافع، وإنما جعلت قوله: { الذى خلق } تعليلا وتعليقاً، لأن الموصول وصلته كالوصف، وتعليق الحكم بالوصف يؤذن بعليته.
وحكى الفخر عن سيبويه أنهُ لا يقال: الحمد بالتعريف إلا فى الله، لأنه يدل على التعظيم، وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما من شئ أحب إلى الله من الحمد" وقالوا: أبلغ الحمد الحمد لله على كل حال، وما من نعمة عظمت إلا والحمد لله أعظم منها، والمراد خلق السماوات والأرض وما فيهما وغير ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: "أذن لى أن أحدث عن ملك من حملة العرش، رجلاه فى الأرض السفلى، وقرناه على العرش، ما بين شحمة أذنه وعاتقه خفقان الطير مسيرة مائة عام، وهو يقول: سبحان الله، وهو اسمه روقيل"
{ وجَعَل الظُّلمات والنُّور }: جعل بمعنى أنشأ، ولذلك تعدى لواحد، والفرق بين الجعل الذى بمعنى أنشأ الخلق، وأن الخلق فيه معنى التقدير، والجعل فيه معنى التضمين، قال السعد فى حاشية الكشاف: معنى التضمين جعل شئ فى ضمن شئ، بأن يحصل منه أو يصير إياه، أو ينتقل منه إليه، وذلك أن النور والظلمة لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية وهم مجوس، وخلق الظلمة إلى هرمز وهو الشيطان، وبنوا على ذلك أن الله خلق الخير، والشيطان خلق الشر.
زعمت المنانية منهم أن النور والظلمة حيان فعالان درا كان حساسان، وما زالا مفترقين حتى بغت الظلمة على النور فمازجته، فعند ذلك تكونت الأشياء من امتزاجهما، فكل ما حدث من نور وخير وعلم وبر، فهو من الأصل النورى، وكل ما يحدث من ظلمة وشر وجهل وفجور، وكل شئ قبيح، فهو من الأصل الظلمى، ورد عليهما أن افتراقهما قبل الممازجة إن كان لطبيعة فلا يتمازجان بعد، لأن الطبيعة تلزم، وإن كان اختياراً فلعلهما قد امتزجا قبل هذا الافتراق الذى أثبتم، ومن أين لكم أنهما لم يمتزجا قبل، ويرد عليهما أيضا أنهما لم يزل بصفة كذا لا يزول عنها، فإذا قلتم، لم يزالا مفترقين فكيف يزول الافتراق؟ فإن ما لا أول لهُ لا يزول، وأيضا إن لم يحدث عن ممازجتهما شئ فلعلهما لم يفترقا، وإن حدث بها نور أو ظلمة لزم حدوث النور كله أو الظلمة كلها، لأن الشاهد يدل على الغائب، والقليل على الكثير، والكثير على القليل، وأنتم قلتم لم يزالا قديمين، وإن حدث شئ غير نور ولا ظلمة بطل قولهم إذا ثبتوا ثالثاً، وأيضا إن كان الامتزاج لتحركها إلى النور حتى مازجته فالتحرك أماله ابتداء فقبله سكون طبعى لها فلا تتحرك، أو سكون غير طبعى كتحرك غير طبعى، فلزم الاختيار وأقروا بالحادث وأما ما لتحريكها ابتداء فكيف تصل النور والمسافة بينهما لا تتناها؟
وأيضا من أين لهم انهما امتزجا ثم افترقا، ولا يمتزجان أبداً، ولعلهما يمتزجان ويفترقان ألف مرة فأكثر، وأى شاهد لهم على ذلك.
وأيضا إن قتل رجل رجلا فإن قالوا: قتله النور تركوا قولهم، وإن قالوا: الظلمة فقد أقرت والإقرار خير لا شر، فإن تاب وقالوا: تابت الظلمة، ففساد قولهم ظاهر، وإن قالوا تاب النور فلا قتل له فضلا عن أن يتوب، فكذب النور وكان فاعلا للشر وهو الكذب، وإن أقرت الظلمة بالقتل واعترفت، فذلك صدق، والصدق خير.
وأيضا من فعل خيراً ثم شراً فإن قالوا: الذى فعل الشر هو الذى فعل الخير تركوا مذهبهم، وإن قالوا غيره فهذا هو أعجب شئ فى الدنيا، رضى عمرو على زيد، ولما غضب عليه صار غير عمرو.
وأيضا إن أراد رجل قتل آخر، فجاء من شفع فإن كان مريد القتل النور تركوا مذهبهم، وإن كان الظلمة فالشافع إما ظلمة والشفعة خير، وأما نور فمريد القتل الظلمة وعفت، والعفو خير، وإن عفا نور فالعافى مريد الشر، ومن قال أنا ظالم فإن كذب فالنور لا يكذب، وإن صدق فالظلمة لا تصدق.
وقالت الديصانية كالمنانية، إلا أنهم قالوا: النور حى والظلمة ميتة، وأن النور هو الذى مازج الظلمة، ويرد عليهم أن هذه الممازجة إن كانت خيراً فكيف تكون ممازجة الخير لشر خيراً؟ وإن كانت خيراً لقدرته على التخلص منها، فعدم مخالطته لها أولى، وكان هو الحكمة، وهو أولى بالحكمة، وإن مازجها ليدع فيها جزءاً منها تستلذ به ناحيتها، فلعل هذا الجزء لا يتخلص فيعود من جنسها.
وأيضاً إذا كانت الظلمة ميتة فكيف تفعل الشر، فإن فعله النور فهو لا يفعل الشر، وإن كذب فالكاذب غير حكيم، ولا يتناقض قوله أو قوله مع فعله، وما ورد على المنانية ورد عليهم، وكل ما يرد به على الدهرية يرد به عليهما وعلى المرنية أيضا، الزاعمين أن الأشياء من نور وظلمة قديمين وثالث متوسط بينهما وهو الإنسان. والرد عليهم فى نحو الممازجة كالرد عليهما.
وإن قالوا: الإنسان طلب المزاج بينهما بنفسه، فإن كان شريراً فلا يكون ثالثاً لهما وهو جاهل شرير التحق بالظلمة، والظلمة شر منه، وإن كان خيراً التحق بالنور، وإن كان حكيما فكيف يجب ممازجة الظلمة، وجمع الظلمة لكثرة أسبابها، والأجرام حاملة لها، وسببها تخلل الجرم الكثيف بين النير وبين ما يقع عليه نوره، بخلاف النور، فسببه النار والشمس والقمر وسائر الكواكب والبرق ونحو ذلك، والنور كيفية محسة تدركها الباصرة أولا بواسطتها تدارك سائر المبصرات، والظلمة عدم النور فى الجسم الذى فى شأنه قبول النور.
وقيل: الكيفية الوجودية المضادة للنور زعما أن الإعدام غير مخلوقه والحق إلا الإعدام الصرفة غير مخلوقة، كعدم خلق جبل فى موضع من الأرض ليس فيها، وكعدم خلق زيد قبل أن يخلق، والإعدام الوجودية مخلوقة كالظلمة إذا قيل إنها عدم النور، فقبلت الجعل لأنها ليست عدماً محضاً، والموت إذا قيل إنه عدم الحياة والتقابل بين النور والظلمة تقابل العدم والملكة، أى الوجود إذا قلنا إنها عدم النور عما من شأنه أن يقبل النور أو استدل على أنها عدم بقوله: "جعل الظلمات والنور" ولم يقل خلق وهو استدلال مشكل لذكر النور يجعل أيضا.
والدليل على أنها أمر عدمى رؤية الجالس فى الغار المظلم الخارج إذا وقع على الخارج ضوء، والخارج عنه لا يرى الجالس فيه، فهذا مما يبطل قول من قال: إنها كيفية وجودية مانعة عن الإبصار وإن تقابل بينها وبين النور تقابل الضدين، فهى عرض مضاد للنور، ولو كانت الظلمة أمراً حقيقياً قائماً بالهواء، مانعاً من الإبصار لم ير أيضاً داخل الغار خارجه الواقع عليه الضوء، إلا أن يقال: قد يكون العائق عن الرؤية ظلمة تحيط بالمرئى، لا الظلمة المحيطة بالرائى، ولا الظلمة مطلقاً، كما أن شرط الرؤية ضوء محيط بالمرئى لا الضوء مطلقاً، ولا الضوء المحيط بالرائى، ومراد بالإحاطة أن يحيط بما رئى وبعضاً، فإذا رئى بعض الإنسان فقط لكون باقيه فى الظلمة، فقد أحيط بذلك لبعض، واستدل أيضا بكونها عدمية بأنا إذا قدرنا خلو الجسم من النور من غير انضياف صفة أخرى إليه، لم تكن حاله إلا هذه الظلمة التى نتخيلها أمراً محساً فى الهواء، وليس هناك أمر محس.
ألا ترى أنا إذا أغمضنا العين كان حالنا كما إذا فتحناها فى الظلمة الشديدة، ولا شك أنا لا نرى فى حال التغميض شيئاً فى جفوننا، بل لنا فى هذه الحالة أن لا نرى شيئاً فنتخيل أنا نرى كيفية السواد، وكذا الحال فى تخيلنا الظلمة أمراً محساً، والضوء شرط وجود اللون فى نفسه، فاللون إنما يحدث فى الجسم بالفعل عند حصول الضوء فيه، وأنه أى اللون غير موجود فى الظلمة، لفقد شرط وجوده، بل الجسم فى الظلمة مستعد لأن يحصل فيه عند الضوء اللون المعين، فإنا لا نراه فى الظلمة، فعدم رؤيتنا له إما لعدمه فى نفسه أو لوجود العائق وهو الهواء المظلم، والثانى باطل، لأن الهواء المظلم غير مانع من الإبصار، فإن الجالس فى الغار المظلم يرى من وقع عليه الضوء خارجه، فلم يعقه الهواء المظلم بينهما، والمختار عندى وعليه الفخر أن الضوء شرط لرؤيته لا لوجوده، لأن رؤيته زائدة على ذاته، والمتحقق المتيقن عدم رؤيته فى الظلمة، وأما عدمه فى نفسه فلا.
والجالس فى الغار إنما لا يراه الخارج لعدم إحاطة الضوء به، والألوان تصفف بحسب ضعف الضوء، فكل طبقة من الضوء شرط الطبقة من اللون، فإذا انتفى طبقات الأضواء انتفى طبقات الألوان، كذا قيل. قلت: لا يصح بل الألوان باقية فى الظلمة، لكن عجزت الأبصار عن إدراكها، فالمختلف بحسب مراتب الأضواء الرؤية لا اللون، فالرؤية جلاء وخفاء بحسب شدة الأضواء وضعفها، والمرئى باق على حاله من اللون، والله أعلم.
وقيل: إن الظلمات الشرك والمعاصى والجهل، وإن النور غير ذلك من الهدى، وعلى هذا فجمع الظلمات التعدد الضلال والحق واحد، وقدم الظلمات لتقدم وجودها، والنور حادث، وكذا الذى هو مطلق عدم المعرفة بالله، وعدم العمل سابق حتى الذى يولد على الفطرة وهو الطفل، فقد مضى وقت وليس موجوداً فى البطن، ومضى عليه وقت فى البطن لا روح فيه، وعن قتادة والسدى وجمهور المفسرين: الظلمات الليل، والنور النهار، والظلمة سابقة على النهار، والأولى أن ينسب إلى الجمهور أن الظلمات كل ظلمة، ولو فى نهار كظلمة البيت المغلق، والنور كل ضوء ولو ليلا، ولعل هذا المراد، والليل والنهار تمثيل، وقيل: الظلمات الجهل، والنور العلم، وقيل: هما الجنة والنار، والجنة مخلوقة قبل النار، والسماوات قبل الأرض، والظلمة قبل النور، قاله قتادة، وقيل خلقت الأرض قبل السماء ثم دحيت بعد السماء.
{ ثم الَّذين كَفرُوا بربِّهم يَعْدِلُونَ }: العطف على قوله: "الحمد لله" وثم تفاوت وتباعد أن يسووا غير الله به فى العبادة، ويميلوا منه إلى غيره، ويكفروا نعمته التى هى من السماوات والأرض، ومن الظلمات والنور، فمن منفعة الظلمة استراحة البصر عن النظر المؤدية إلى النوم، مع أن غيره لا يقدر على خلق السماوات والأرض، ولا جعل الظلمات والنور، ولا على ترتيبهم من طور إلى طور، والله هو المربى لهم، أو العطف على خلق السماوات والأرض عطف اسمية على فعلية، فهى صلة للذين أيضا بواسطة العطف، والرابط هو لفظ رب من وضع الظاهر موضع المضمر، ليدل أنه مربيهم بمنافع السماوات والأرض، والظلمات والنور، فكيف يكفرون نعمته، ويميلون عنها إلى غيره، أو يسوون به غيره، مع أن غيره لا نعمة له عليهم بالحقيقة، ولا يخلق ما يخلق الله.
والباء على كل وجه تتعلق بيعدلون، سواء فسر بيميلون عن عبادة الله وشكر نعمه، أو يسوون به غيره، وعلى كل وجه أيضاً يجوز تعليقها بكفروا، أى الذين كفروا بربهم يعدلون به غيره، أو يميلون عنه فيعدلون بمعنى يميلون متعد بالحرف، أى يميلون عنه، وبمعنى يسوون متعد بنفسه، أى يسوون به غيره وهو ما يعبدون من الأصنام وغيرها، والمستبعد على تعلق الباء بيعدلون هو قوله: "بربهم" فقدم لذلك، والفاصلة إذا كانوا يعدلون، فكيف يكون العدول بربهم، والمستبعد على تعليقه بكفروا هو قوله: يعدلون، قال النظر بن شميل: الباء بمعنى عن متعلق بيعدلون بمعنى يميلون، قال عمرو بن العاص: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله خلق خلقه فى ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل"