خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
١١٢
-الأنعام

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وكذَلكَ جَعلْنا لكلِّ نبىٍّ عدوّاً شَياطِينَ الإِنْسِ والجنِّ } كما جعلنا لك شياطين الإنس والجن أعداء، جعلنا لكل نبى قبلك شياطين الإنس والجن أعداء، قال الله تعالى له ذلك، لعلمه صلى الله عليه وسلم أن له من الجن أعداء، كما أن له من الإنس أعداء، كالشياطين الذين يلغون ليلة الجن، وكالشيطان الذى تبعه بشعلة ليلة الإسراء، فاصبر لهم ولا تضعف فى الدين كما صبر الأنبياء قبلك، وارض بقضائى كما رضوا، فإن عداوتهم ولو نكرة لتقدم الحال، وعدوّاً مفعول ثان مقدم، وشياطين مفعول أول مؤخر، وإنما قلت لك ذلك لأن عدوّاً نكرة والأصل فيها أن يخبر بها من المعرفة لا العكس، لأن معنى الوصف معتبر فى عدوّاً، فكأنه قيل: معادين أى أعداء، لكونه بمعنى الجمع صح الإخبار به عن شياطين، فإن عدوّاً يطلق على الواحد فصاعداً، والأصل فى الوصف غير صلة أل أن يكون هو الخبر ولو تقدم.
ويجوز أن يتعلق له بمحذوف وجوباً مفعول ثان، وعدوّاً مفعول أول، فيكون شياطين بدلا من عدوّاً بدلا مطابقاً، واعتبار الوصف هى فى عدوّاً أظهر منه فى شياطين، ولو بقى عدوّاً على لفظ المفرد، وإلا فشياطين أيضا فيه معنى الوصف، لأن معناه متمردين فى الشر، أو بعداً عن الخير، وهذه الصفات موجودة فى الإنس والجن، بل هى فى الإنس أعظم، فشيطان الإنس أعظم من سبعين شيطاناً من الجن.
قال مالك بن ديناررحمه الله ، وهو من أصحابنا الأباضية الوهبية: أهل الدعوة شياطين الإنس أعظم علىَّ من شياطين الجن، وذلك أنى إذا تعوذت من شياطين الجن ذهبوا عنى، وشياطين الإنس تجيئنى فتجبرنى إلى المعاصى عياناً، يعنى إذا ذكرت الله ذهبت شياطين الجن وفى السؤالات: يقال للمنافقين يا شياطين. وأما إبليس فلا، إلا للمشركين، والمعتزلة لما منعوا وصف الله بجعل الشر وخلقه أوَّلوه بالحكم، أى حكمنا بعداوة شياطين الإنس والجن لكل نبى، تقول: زيد يعدل عمراً إذا حكم بأنه عدل لا بمعنى تصييره عدلا.
والحديث المتقدم عن مالك بن دينار ذكره الزمخشرى، وهو صريح فى أن الشيطان من الإنس، كما أنه يكون من الجن، وهو قول ابن عباس فى رواية عطاء، وبه قال مجاهد وقتادة، ومثله ما قال أبو ذر:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:هل تعوذت بالله من شيطان الإنس والجن؟ فقلت: يا رسول الله، وهل للإنس من شيطان؟ قال: نعم هم شر من شياطين الجن" رواه الشيخ هود بلا سند، وكذا البغوى، ورواه الطبرانى بسنده، وكذا فى لفظ الشيخ هود أن أبا ذررحمه الله قام إلى الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس" إلخ وليس فى آخرهم شئ من شياطين الجن.
قال أصحاب ذلك القول: شياطين الإنس أشد كما فى الحديث، لأنه إذا عجز شياطين الجن عن أحد استعانوا عليه بشياطين الإنس، وتفسير الآية عليه ظاهر هو الصحيح، فشياطين فى الآية جمع يشتمل شياطين الإنس وشياطين الجن، ولذلك أضيف للإنس والجن، فالإضافة للتبعيض، أى شياطين بعض من الإنس وبعض من الجن، فهو كقولك: شياطين الإنس وشياطين الجن.
وقال عكرمة، والضحاك، والكلبى، والسدى، وابن عباس فى رواية عنه: الشياطين من الجن فقط، وعليه فالإضافة للإنس والجن فى الآية لمجرد الملابسة لا تعرض فيها للتبعيض، ولو صلح التبعيض بالنسبة للجن، لكن لا يراد فى الآية لأنه قد جمع مع الإنس، والمعنى على هذا الشياطين الذين يلابسون الإنس والجن بالوسوسة، يوسوسون الجن كما يوسوسون الإنس، تارة يوسوس الجنى، وتارة يوسوس الإنسى، هذا هو الظاهر.
وقال الكلبى: قسم إبليس والعياذ بالله شياطينه قسمين: أرسل قسما إلى الإنس، وقسما إلى الجن، فإذا التقوا أعلم هؤلاء ما يقولون، وأعلم هؤلاء ما يقولون، فذلك قوله: { زخرف القول غروراً } وكل من الشياطين وباقى الجن من ذرية إبليس، واسم الجن يشملهم، وقيل: الجن ليسوا من أولاد إبليس، والشياطين أولاده، وهذا قول من زعم أن إبليس من الجن، وأنه ليس أولهم، والصحيح أنه أولهم وأبوهم، والجن كلهم شيطانهم وغيره أولاده.
{ يُوحى } يوسوس ويتكلم فى خفاء، والجملة مستأنفة أو حال من شياطين { بعْضُهم إلى بَعْضٍ } أى يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس بالإغراء إلى الشر، ووجه آخر أن شياطين الإنس يوسوس بعضهم إلى بعض، وشياطين الجن يوسوس بعضهم إلى بعض، وإلى شياطين الإنس، ولفظ يوحى بعضهم إلى بعض صالح لذلك، وأيضا إذا فسرنا الوحى هنا بالمناجاة فقد يناجى الشرير من الإنس الشرير من الجن، إذا كان يتفكر فى الشر، وأيضا يناجى الكهان من الإنس الشياطين، وكذلك من يلتحق بالكهان من الأشرار، وعلى أن الشياطين من الجن فقط، فالمعنى أنهم يتناجون قد فعلت كذا وكذا من الشر فى الجن أو فى الإنس.
{ زُخْرفَ القَوْل } مموه القول، أى القول الباطل القبيح فى الباطن، الحسن فى الظاهر، فإضافة زخرف إضافة صفة لموصوف، أى القول الزخرف { غروراً } مفعول لأجله منصوب بيوحى، أى يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروا به، أو حال من زخرف، أى حال كون ذلك الزخرف أو القول ذا غرور، أو حال من بعضهم، أى غارين، وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أوشك الشياطين أن تجالس الناس فى مجالسهم وتفقههم فى الدين.
وعن عبد الله بن عمر: أن شياطين أوثقها سليمان بن داود فألقاها من وراء البحر أوشك أن تظهر حيث يقرأ الناس القرآن، وعن أبى موسى الأشعرى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أن إبليس اتخذ عريشاً على البحر، فإذا أصبح ندب جنوده فقال: أيكم فتن مسلماً ألبسه التاج، فيجئ أحدهم فيقول: لم أزل اليوم برجل حتى سب آخر، فيقول: سوف يصطلحان، ثم يجئ آخر فيقول: لم أزل اليوم برجل حتى عق والديه، فيقول: سوف يبرهما، ثم يجئ آخر فيقول: لم أزل اليوم برجل حتى زنى، فيقول: أنت، ثم يجئ آخر فيقول: لم أزل اليوم برجل حتى سرق، فيقول: أنت، ثم يجئ آخر فيقول: لم أزل برجل حتى شرب الخمر، فيقول: أنت،" ، قال بعضهم: فأعظمهم عنده منزلا أعظمهم فتنة، ومراده أنت أهل للتاج.
{ ولو شَاء ربُّك ما فَعلُوه } ولو شاء ربك عدم ما فعلوه، أى ما فعلوا زخرف القول، أو ما فعلوا إيحاء زخرف القول، أو ما فعلوا التعادى، أو ما فعلوا ما ذكر من معاداة الرسل، أو ما فعلوا الغرور، أو ما فعلوا ما ذكر كله، وهذه الأوجه كلها فى هاء إليه أيضا، وفى هاء ليرضوه، وفى الآية رد على المعتزلة، إذ زعموا أن الله لا يشاء الكفر ولا يريده، وزعموا أن هذه مشيئة إكراه.
{ فَذَرْهم وما يفْتَرون } فاتركهم وافتراءهم، واتركهم والافتراء الذى يفترونه، فما مصدرية أو اسم موصول، وافتراؤهم هو كفرهم ومعاصيهم، إذ زعموا أنها حق، والمعنى لا يهمنك، ومن زعم أن المعنى اترك قتالهم، قال: نسخ بآية السيف، قال قتادة: كل ذر فى كتاب الله منسوخ بالقتال.