خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
٢٦
-الأنعام

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وهُم ينْهَون عَنْه } أى ينهون الناس عن القرآن أن يؤمنوا به، ويستمعوا له، قاله قتادة، أو عن رسول الله صلى عليه وسلم أن يؤمنوا به، قاله ابن عباس والحسن. { ويَنأَوْن عَنْه } يتباعدون عنه، أى عن الإيمان به بأنفسهم، كأنهُ قيل: يأمرون الناس بالكفر ويكفرون، ويجوز أن يكون المعنى ينهون الناس عن إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم محافظة له وشفقة عليه، ويبعدون أن يؤمنوا به، والتفسير الأول أرجح، لأن أكثر المشركين من أهل مكة ينهون عن الإيمان به، ويبعدون عنه، ولأن المتبادر من نهى المشركين عن القرآن أو رسول الله صلى الله عليه وسلم، النهى عن الإيمان به، وما تبادر إليه النقش أحق كما قال فى الإيضاح.
وأما أن يكون النهى عن إيذائه صلى الله عليه وسلم فما يعلم إلا من مواقف أبى طالب أنهُ ينهى الناس عن الإيمان به ولا يؤمن، ولكن ابن عباس فسر الآية بأنهم ينهون عن إيذائه ولا يؤمنون به، وما ذلك إلا أبو طالب ومن يتبعه، وروى أن رءوس المشركين اجتمعوا إلى أبى طالب عم النبى صلى الله عليه وسلم فى شدة منعه إياهم عنه، وقالوا: خذ شاباً من أصبحنا وجها، وادفع إلينا محمدا، فقال أبو طالب: ما أنصفتمونى، أدفع إليكم ولدى لتقتلوه وأربِّى لكم ولدكم، وروى أن بنى هاشم أجابوا أبا طالب فى منع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن يؤذيه إلا أبا لهب لعنه الله، فقال فى مدحهم:

إذا جتمعت يوماً قريش لمخفر فعبد مناف سرها وصميمها
وإن حصلت أشراف عبد منافها ففى هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوماً فإن محمداً هو المصطفى من سرها وكريمها

ولما رأى أبو طالب كثرة من كفر ومن يصد عنه، تعوذ بالله وحرمة بيته وتودد قومه وقال:

ولما رأيت القوم لا ودّ فيهموقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوما علينا أضنة يعضون غيظاً خلفنا بالأنامل
صرت لهم نفسى بسمراء سمحةوأبيض غضب من تراث المقاول
وأخطرت عند البيت رهطى وإخوتى وأمسكت من أثوابه بالوصائل
قياماً معاً مستقبلين رتاجه لدى حيث يقضى خلفه كل نائل
أعوذ برب الناس من كل طاعن علينا بسوء أو ملح بباطل
وثور ومن أرسى ثبيراً مكانه وبالله أن الله ليس بغافل
وياليت حق البيت من بطن مكة وراق ليرقى فى حراء ونازل
ومطئ إبراهيم فى الصخر رطبة على قدميه حافراً غير ناعل
وتوقفهم فوق الجبال عشية يقيمون بالأيدى صدور الرواحل
وليلة جمع والمنازل من منى وما فوقها من حرمة ومنازل
فهل بعد هذا من معاذ لعآندوهل من معيذ يتقى الله عاذل
يطاع بنا أمر الغدا وداتناتسد بنا أبواب ترك وكابل
كذبتم وبيت الله ننزل مكةونظعن أن أمركم فى بلابل
وبيت الله نبرى محمداً ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم فى الحديد إليكم نهو ض الروايا تحت ذات الصلاصل
وأبيض يستسقى الغمام لوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشمفهم عنده فى نعمة وفواضل
لعمرى لقد كلفت وجداً بأحمدوإخوته دأب المحب المواصل
فمن مثله فى الناس أى مؤملإذا قاسه الحكام عند التفاضل
حليم رشيد عادل غير طائش يوالى إلها ليس عنه بغافل
فوالله لولا أن أجئ بسبة تجرعلى أشياخنا فى المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة من الدهر جداً غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد فى أرومة تقصر عنه سورة التطاول
حديث بنفسى دونه وحميته وواقعت عنه بالذرى والكلاكل

ولما اجتمعت قريش على إبرام صحيفة يقطعون فيها بنى هاشم لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، انحاذت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبى طالب فقال أبى طالب:

ألا بلغا عنى على ذات بيننالؤياً وخصا م لؤى بنى كعب
ألم تعلموا أنا وجدنا محمداًنبيّاً كموسى خط فى أول الكتب
وأن عليه فى العباد محبة ولا خير ممن خصهُ الله بالحب
وأن الذى لصقتم من كتابكم لكم كائنا نحساً كراعية السقب
أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرىويصبح من لم يجن ذنباً كذى ذنب
ولسنا ورب البيت نسلم محمداًلضراء من عض الزمان ولا كرب
ولما تبين منا ومنكم سوالفوأيد آثرت بالقساسية الشهب
أليس أبونا هاشم شد أزرهوأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
ولسنا نمل الحرب حتى تملناولا تشكى ما ينوب من النكب
ولكننا أهل الحفائظ والنهىإذا طال أرواح الكماة من الرعب

ولما قام الخمسة المشهورون فى نقض الصحيفة فنقضوها، قال أبو طالب:

ألا هل أنى تحرينا صنع ربناعلى نائهم والله بالناس أرود
فنخبرهم أن الصحيفة مزقت وأن كل ما لم يرضه الله مفسد
فمن ينس من حضار مكة عزهفعزتنا فى بطن مكة أتلد
نشأنا بها والناس فيها قلائلفلم ننفك نزداد خيراً ونحمد
فنطعم حتى يترك الناس فضلهمإذا جعلت أيدى المغيضين ترعد
وكنا قديماً لا نقر ظلامة وندرك ما شئنا ولا ننشدد
جزى الله رهطاً بالحجون تتابعواعلى ملأ يهدى بحزم ويرشد
فعود لدى حطم الحجون كأنهممقاولة بل هم أعز وأمجد
قفوا ما قضوا فى ليلهم ثم أصبحواعلى مهل وسائر الناس رقد
هم رجعوا سهل بن بيضاء راضياًوسر أبو بكر بها ومحمد

والمراد بالبحرى الذين هاجروا إلى الحبشة، وقال طالب بن أبى طالب وطو على شركه: لكن بعد وقعة بدر يبكى أصحاب القليب قصيدة منها فى النبى صلى الله عليه وسلم:

فيا أخوينا عبد شمس ونوفلافدى لكما لا تبعثوا بيننا حربا
ولا تصبحوا من بعد ود وألفةأحاديث فيها كلكم يشتكى النكبا
فما إن جنينا فى قريش عظيمة سوى أن حمينا خير من وطئ التربا
أخا ثقة فى النائبات مرزء كريماً ثناه لا بخيلا ولا ذربا
يطوف به العافون يغشون بابه يؤمنون بحراً لا نزوراً ولا صربا

واسم أبى طالب عبد مناف، وقيل: شيبة بن عبد المطلب، قال السيوطى: قال بن عساكر فى تاريخه قيل: إنه أسلم ولا يصح إسلامه، وله رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن عساكر والخطيب بسندهما إلى الحسن، عن أبيه على بن أبى طالب قال: سمعت أبا طالب يقول: حدثنى محمد أن أمره بصلة الرحم، وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره.
وقال الزبير بن العوام: كان أبو طالب شفيقاً على النبى صلى الله عليه وسلم، يمنعه من مشركى قريش، جاءوه يوماً بعمار بن الوليد وكان جميلا فقالوا له: قد عرفت حال عمارة ونحن ندفعه لك مكان محمد، وادفعه إلينا، فقال: ما أنصفتمونى أعطيكم بن أخى تقتلونه وتعطونى ابنكم أغذوه لكم.
قال ابن عساكر من طريق القاسم بن سلمان، حدثنى أبى قال: مشت قريش إلى أبى طالب فقالوا: أنت أفضل قريش اليوم حلماً وأكبر سناً، وأعظمهم شرفاً، وقد رأيت صنع ابن أخيك فرّق كلمتنا، وأفسد جماعتنا، وقطع أرحامنا، فادفعه إلينا تقتله، ونعطك ديته؟ قال: لا تطيب لذلك نفسى أن أرى مال ابن أخى بمكة وقد أكلت ديته، قالوا: ندفعه إلى بعض العرب، فيكون هو يقتله وندفع إليك ديته ونعطيك أى أبنائنا شئت، فيكون ولداً مكان ولدك؟ فقال لهم: ما أنصفتمونى تقتلون ولدى وأغذى أولادكم، أو لا تعلمون أن الناقة إذا فقدت ولدها لم تحن إلى غيره، ولكن إذا خضتم فى هذا فتعالوا يقتل كل قريشى ولده الشاب، فيقتل فى جملتهم، فقالوا: لعمر أبيك لا نقتل أبناءنا وإخواننا من أجل هذا الصابئ، ولكن سنقتله سراً وعلانية، فعند ذلك يقول أبو طالب: ولما رأيت القوم الأبيات...
قال الواقدى: مات أبو طالب فى السنة العاشرة فى شوال من حين نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن بضع وثمانين سنة، وقال ابن إسحاق والبيهقى فى دلائله بسند فيه مجهول، عن ابن عباس: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طالب فى مرضه قال له: أى عمى قل لا إله إلا الله أستحل لك بها الشفاعة، فقال: والله لولا أنهم يروننى قلتها جزعاً حين الموت لقلتها، وروى قومنا أن العباس رضى الله عنه أنه رأى أبا طالب يحرك شفتيه، فأصغى إليه العباس ليسمع قوله: فرفع العباس عنه فقال: والله قال الكلمة التى سألت، قال ابن عمر: ربما ذكرت قول أبى طالب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمع، وعنه صلى الله عليه وسلم: ما رأت قريش عنى كافة حتى مات أبو طالب، وقيل مات أبو طالب قبل الهجرة بثلاث سنين.
وروى أنه لما حضرت الوفاة، أبا طالب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبى أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أى عمى قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، وفى رواية أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبى أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان لتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم، هو على ملة عبد المطلب، وفى رواية على ملَّة الأشياخ، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أما والله لأستغفرن لك ما لم أنْه عنك" وفى رواية أبى هريرة قال أبو طالب: لولا أن تعيرنى قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع من الموت لأقررت بها عينيك، فأنزل الله تعالى: { { إنك لا تهدى من أحببت } الآية. قال الثعالبى: قال السهيلى، وأبو الربيع الكلاعى، حكى عن هشام بن السائب الكلبى أو ابنه أنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال: يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه، وقلب العرب، فيكم السيد المطاع، وفيكم المقدام الشجاع، والواسع الباع، لم تتركوا للعرب فى المآثر نصيباً إلا احرزتموه، ولا شرفا إلا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضيلة، ولهم به إليكم الوسيلة، وإنى أوصيكم بتعظيم هذه البينة يعنى الكعبة، فإن فيها مرضاة للرب، وقواماً للمعاش، صلوا أرحامكم ولا تقطعوها، فإن فى صلة الرحم منسأة فى الأجل، وزيادة فى العدد.
واتركوا البغى والعقوق، ففيهما هلكة القرون قبلكم، أجيبوا الداعى، وأعطوا السائل، فإن فيها شرف الحياة عليكم بصدق الحديث، وأداء الأمانة، فإن فيها محبة فى الخاص، ومكرمة فى العام، وأوصيكم بمحمد خيراً فإنه الأمين فى قريش، والصديق فى العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به، وقد جاءكم بأمر قبله الجنان، وأنكره البيان، مخلفة الشنآن، وايم الله كأنى أنظر إلى صعاليك العرب وأهل البر فى الأطراف المستضعفين من الناس، قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره فخاض بهم غمرات الموت، فصارت صناديد قريش ورءوسها ذباباً ودورها خراباً وضعفاؤها أرباباً وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم عنه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأعطته قيادها دونكم، يا معشر قريش ابن أبيكم كونوا لهُ ولاة، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهداه إلا سعد، ولو كان لنفسى مدة، ولأجلى تأخير لكفيت عنه الهزاهز، ولدافعت عنه الدواهى، ثم هلك.
"وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم دعا أبا طالب إلى الإيمان فقال: لولا أن تعيرنى قريش لأقررت بها عيينك، ولكن أذب عنك ما حييت" .
وقال:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد فى التراب دفينا
فاصدَع بأمرك ما عليك غضاضة وأبشر وقدر بذاك منك عيونا
ودعوتنى وعرفت أنك ناصحى ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرفت دينا قد علمت بأنه من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتنى سمحا بذاك مبينا

{ وإِنْ يهْلِكُونَ } ما يهلك الذين ينهون عنه وينأون عنه
{ إلا أنفسَهمْ } لأن عقاب كفرهم عائد إليهم { وما يشْعُرون } أن ضرر كفرهم لا يتعداهم.