خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ ٱللَّهُ وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
٩٣
-الأنعام

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ومَنْ أظْلم ممَّن افْترى عَلى اللهِ كَذباً } لا أظلم منهم إذ قال: إن الله بعثنى نبياً كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسى من صنعاء اليمن، أو قال: إن الله حرم كذا وأحل كذا، وهو ليس كذلك كعمرو ابن لحى، وقد مر أنه أول من غير دين إسماعيل، ونصب الأوثان، وبحر البحيرة وسيَّب السائبة، وشرع الوصيلة والحامى، ومر أنهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيته يجر قصبه فى النار" يعنى أمعاءه.
{ أو قالَ أوحِىَ إلىَّ ولَم يُوحَ إليْه شَئٌ } نائب أوحى هو قوله: { إلىَّ } ونائب يوح هو لفظ شئ، ويجوز أن يكون شئ نائب أوحى، ونائب يوح ضمير مستتر عائد إلى شئ، لأن شئ فى نية التقديم، وذلك مثل ما روى أن عبد الله بن سعد بن أبى سرح، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت:
{ { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } إلى قوله: { { ثم أنشأناه خلقاً آخر } "قال عبد الله تعجبا من تفضيل خلق الإنسان: { فتبارك الله أحسن الخالقين } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبها كذلك نزلت" فشك عبد الله، فقال: لئن كان محمد صادقاً لقد أوحى إلىَّ كما أوحى إليه، وإن كان كاذباً لقد قلت كما قال، فارتد ولحق بالمشركين، ثم أسلم قبل فتح مكة، والنبى صلى الله عليه وسلم نازل بمر الظهران، وكان قبل ذلك حين كان يكتب له صلى الله عليه وسلم إذا أملى عليه سميعاً بصيراً كتب عليما حكيما، وإذا أملى عليه عليما حكيما كتب غفوراً رحيماً، والنبى صلى الله عليه وسلم يقرأ كما نزل، والصحابة يقرءون كما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن قال: إن ذلك فى مسيلمة والأسود العنسى يقول: الآية مدنية، لأن الأسود قتله فيروز الديلى قبل موته صلى الله عليه وسلم بيومين، ومسيلمة قتله خالد بن الوليد، أو وحشى، وتقدم الكلام على ذلك.
{ ومَن قَال سأنْزِل مثْل ما أنزلَ اللهُ } كالذين قالوا قد سمعنا لو شاء لقلنا مثل هذا، وهم النظر بن الحارث ومن معه، وقال عكرمة: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحى إلىَّ ولم يوح إليه شئ } فى مسيلمة، وقوله: { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } فى عبد الله بن أبى سرح، ومن معطوف على من المجرورة بمن، ووجه ذلك أنهُ من قال لو شئت لقلت مثل هذا يتضمن أنه إذا شاء قال مثله، ولا يمكن مثل إلا بوحى، فكأنه قال: يوحى إلىَّ مثله، وكذا فى ابن أبى سرح، يعنى أنهما لم يقولا إن القرآن أنزله الله فكيف تفسير الآية بهما، وفيها مثل ما أنزل الله، ويجاب بأن المراد سأنزل مثل ما تقول إنه أنزله الله، ويدخل فى الآية من نزلت فى شأن { ولو ترى } يا محمد أو بأن تمكن الرؤية منه.
{ إذ الظَّالمون فى غَمَرات الموتِ } مفعول ترى محذوف تقديره ولو ترى الظالمين إذ هم فى غمرات الموت، ولما حذف أتى بالظاهر فى موضع هم، فإذا يتعلق بترى، وكون أن يقدر مفعول يتعلق به، إذ أى ولو ترى الواقع إذ الظالمون، وجواب لو محذوف يقدر بعد قوله: { تستكبرون } أى لرأيت أمراً عظيماً، وفى غمرات الموت خبر الظالمون، والجملة مضاف إليها، إذ والظالمون الذين ظلموا أنفسهم بالشرك لقوله تعالى:
{ { ولقد جئتمونا فُرادَى } رداً على إنكار البعث، ولقوله تعالى: { وما نرى معكم شفعاءكم } وغمرة الموت شدته الغالبة التى تغشى المختصر من جهاته، استعارة من غمرة الموت إذا أغرقه، وذلك على عمومه، وقيل: المراد بالظالمين المشركون المعهودون وهم اليهود ومن ادعى النبوة، ويدخل غيرهم بالإلحاق والمعنى.
{ والملائِكةُ } ملائكة الموت { باسطُو إيدِيهِم } لعصر أرواحهم من أعماق أبدانهم بسط المديان المعين الملح على من له عليه الحق، يقول له: لا أبرح من الشمس إلى الظل حتى تقضى حقى، ولو كان فيه ذهاب بصرك أو روحك، أو فت كبدك، وقيل: باسطو أيديهم بالعذاب، يضربون وجوههم وأدبارهم، وبهذا قال ابن عباس، والجملة حال من المستتر فى ترى، أو فى قوله: { فى غمرات } وباسطو اسم فاعل جمع جمع المذكر السالم ونونه حذفت للإضافة، وكتابة ألفه بعد الواو مخصوص بالمصحف، لأنها واو فى الاسم، وبسط اليد كناية عن الطلب والتناول بها أو البطش، لأنهُ من لم يقصد ذلك لا يمدها إلى غيره إلا لأمر مَّا.
{ أخْرِجُوا أنفُسكم } مفعول لقول محذوف، وذلك القول خبر ثانٍ أو حال من المستكن فى باسطو، أى باسطو أيديهم قائلون أخرجوا أنفسكم، أو باسطو أيديهم قائلين أخرجوا أنفسكم، وهذا الأمر للإهانة لا ليتمثلوه، لأنه لا طاقة لهم على إخراج أنفسهم، وأنفسهم أرواحهم، لا يقدر الإنسان أن يخرج روح نفسه، بل إهانة وتعنيف وتغليظ، فإن مخرجها هو الله جل وعلا، وهو الرحمن الرحيم بالمؤمنين، والمسبب فى خروجها ملك الموت وأعوانه.
وقيل المعنى: أخرجوا أنفسكم من العذاب، أى خلصوا أنفسكم منه وأنجوا إن قدرتم، أو كان ما زعمتم فى الدنيا حقاً، وهو أيضا إهانة وتعجيز وتوبيخ على سالف أعمالهم، والصحيح الأول الموافق لرواية أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم:
"الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالت: أخرجى أيتها النفس الطيبة كانت فى الجسد الطيب اخرجى حميدة وأبشرى بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة كانت فى الجسد الطيب ادخلى حميدة، وأبشرى بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا تزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة، وإذا كان الرجل السوء وحضرته الملائكة عند موته قالت: اخرجى أيتها النفس الخبيثة كانت فى الجسد الخبيث، اخرجى ذميمة وأبشرى بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج" وتمام مثل هذه الرواية والروايات الأخرى فى كتب الحديث والفروع، ويجوز أن يكون ذلك من كلام الملائكة لهم فى النار، أو فى عذاب قبل ذلك، أو فى الحشر، لأنهم يتمنون أن يموتوا ولا يرجعون للعذاب.
{ اليوم تُجْزَون عَذابَ الهُونِ } اليوم متعلق بتجزون، وعذاب مفعول ثان، وأضيف للهوان لأنه يحصل الهوان بالعذاب، لأنه إذا عذب صار مهاناً لا عزله ولا نجاة، ولأن العذاب يحصل إذا لم يكن من أهل العزة عند الله، والهوان الذلة، وللغراقة فى الهوان والتمكن منه، والمراد باليوم وقت الموت، إذ تشتد غمرات الموت عليهم، أو زمان الآخرة من حين يموتون إلى الحشر، وإلى دخول النار، وإلى ما لا نهاية له، فإنهم يعذبون فى ذلك كله إلا ما بين قيام الساعة والحشر، وقال الحسن: ذلك قول الزبانية لهم فى النار بعد دخولها.
{ بما كُنتم تقُولُون عَلى الله غَير الحقِّ } ما مصدرية أى بكونكم تقولون غير الحق على الله، والباء سببية وغير الحق هو ادعاء الولد والشريك لله تعالى، ودعوى النبوة والوحى، لأن القريب الذكر هو ذلك، واللفظ يعم أنواع الشرك { وكنتُم عَن آياته تَسْتكبرُون } عطف على كنتم تقولون إلخ، ومعنى استكبارهم عن الآيات استحقارهم لها، وتسفيههم إياها فيعرضوا عنها، لا يتفكرون فيها فلم يؤمنوا.