خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ
١٧٩
-الأعراف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ولَقَد ذَرَأنا } خلقنا ونشرنا { لجهنَّم } هذه اللام لشبه التمليك أو لام العاقبة، لأنها تتصور فيما إذا كان الفاعل لم يقصد بفعله ما يصير إليه الأمر، سواء علم مصير الأمر كما هنا، فإن الله سبحانه أوجد الخلق ليعرفوه ويعبدوه لا ليعذبهم ويرحمهم، وهو عالم بمصير فريق إلى النار، وفريق إلى الجنة، أو لم يعلم مصير الأمر كقوله: { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا } فإن آل فرعون لم يلتقطوه ليكون كذلك، ولم يعلموا أنه يكون كذلك، نعم لو صح أن الفعل وهو خلق الكثير قصد به ما يصير إليه الأمر من سكون جهنم، وكان بسكونها علة لم يصح أن يكون للعاقبة كما قال بعضهم، لكن الواضح أنه قصد بخلقهم العبادة والمعرفة معهما العلة، ومصيرهم النار لعدمهما منهم، نعم يجوز أن تكون للتعليل مجازاً أو مبالغة كما تقول لكثير الأكل: ما خلق إلا للأكل، ولكثير النوم: ما خلق إلا للنوم وهكذا، فاليهود وغيرهم مما توغلوا وغاصوا فى الكفر صاروا كأنهم خلقوا للنار، حي لم يتأت منهم إلا أفعال أهل النار، وفعلوها باختيارهم لا باضطرار.
{ كَثيراً من الجنِّ والإنْسِ } ليس نصا فى أن أهل النار أكثر من أهل الجنة، لأن الكثير يطلق على النصف والثلث، كما يطلق على أكثر من النصف، بل الكثرة قد تكون نسبية فتطلق على ما هو قليل نظرا إلى ما هو أقل، وإنما الذى هو نص فى أنهم أكثر من أهل الجنة حديث التسعمائة والتسعة والتسعون إلى النار، وهى بعث النار، والواحد إلى الجنة، فيجوز تفسير الآية على ذلك بمعونة الحديث، وأجمع علماء الأمة أن أطفال المسلمين فى الجنة إلا من لا يعتد به، فإنه توقف فيهم، متمسكا بما
"روى أن عائشة رضى الله عنها قالت فى صبى من الأنصار دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازته: طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل سوءًا، أو لم يدركه، فقال: إن الله خلق للجنة والنار أهلا فى أصلاب آبائهم" وأجيب بأنه قال ذلك نهيا لها عن المسارعة إلى القطع من غير دليل قاطع، وبأنه قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين فى الجنة، وقوله: { والذين آمنوا واتبعتهم } الخ ولو كان مكيا لكنه محتمل لأن يكون فى أطفال المسلمين، ومحتمل أن لا يكون فيمن بلغ منهم ولم يصل درجة أبيه فى العمل.
وأما أطفال المشركين والمنافقين فجمهور أصحابنا على الوقف فيهم، لأن النبى صلى الله عليه وسلم وقف فيهم، والتحقيق أنهم من أهل الجنة فضلا، وليسوا بمكلفين فيدخلوا النار بعمل أو اعتقاد، ولأنهم ولدوا على الفطرة، والعهد الأول، ولأنه بعد ما توقف فيهم سأل الله فيهم فأعطاه إياهم، ولأنه رأى إبراهيم الخليل فى الجنة، وحوله أولاد المؤمنين والمشركين، فإذا كان حوله أولادهم فأولاد المنافقين أولى بأن يكونوا حوله سواء، وقال قوم من المخالفين: إنهم من أهل النار، ونسبه بعضهم للأكثر وهو خطأ إذا لم يكلفوا، وقيل يختبرون يوم القيامة، باقتحام نار توقد لهم، فمن اقتحمها نجا، وهو خطأ لأنه لا تكليف فى الآخرة.
ولا دليل على أنهم من أهل النار فى:
{ ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } لأن المعنى لا يلدوا إلا من يصل حد التكليف فيكفر ويفجر، وما ذكره الطبرى عن سعيد بن جبير، ورواه بن عمر حديثا من أن أولاد الزنى من أهل النار، وممن ذراه الله لجهنم، معناه أن الأرقى تراع وأن كونه من الزنى سبب لعصيتهم الله بعد اللوغ فيدخلون النار، ومن أطاع الله فله الجنة، وروى أن ابن الزنى لا يدخل الجنة، ومعناه ما ذكر، أو أنه لا يدخل الجنة وهو مبهم، بل يدخل وقد علم الله الخلائق أنه ابن فلان، أو معنى ولد الزنى وابن الزنى البالغ الذى هو صاحب زنى بمعنى أنه زان، تأويلات.
{ لهم قلُوبٌ لا يفْقهُون بِها } لا يعلمون بها الهدى، ولو علموا بها أمر الدنيا لإعراضهم بها عن دلائله فلا ينظرون فيها، أو لما كانوا لا يفقهون الهدى جعلوا كأنهم لا يفقهون شيئا أصلا إذ دخلوا عما هو المعتبر، وأصل الفقه العلم بالشئ مطلقا، ثم غلب على علم الدين لشرفه على علم الدنيا وجاء بعد ذلك سائر علوم الإسلام من النحو والصرف والبيان وغيرها.
{ ولَهم أعين لا يبْصِرُون بِها } إبصارا يؤدى بهم إلى التوحيد والطاعة، فإنهم ولو كانوا ينظرون إلى السماء والجبال والأرض وأنفسهم وغير ذلك، لكن بغير اعتبار، أو المراد لا يبصرون بها طريق الهدى بأن يشبه طريقه لوضوحه بطريق فى الأرض تراه عين الوجه، أو لما كانوا لا يبصرون إبصارا يؤدى إلى التوحيد والطاعة، ولا يتبين لهم طريق الهدى، جعلهم كأنهم لا يبصرون شيئا، إذ لم يبصروا الإبصار المعتبر.
{ ولَهم آذانٌ لا يسْمعُون بِها } القرآن والوحى والعوظ، سماعا يؤثر فى قلوبهم، أو لما كانوا لا يسمعون ذلك السماع، جعلوا كأنهم صم إذ خلوا عن السماع المعتبر، كما تقول إذا سمعت سببا: إنى أصم عنه، تريد أنه لم يؤثر فيك ولو قرع سمعك قال الشاعر:

وعوراء الكلام صمت عنها وإنى لو أشاء بها سميع
وبادرة وزعت النفس عنها وقد لقيت من الغضب الضلوع

{ أولئكَ كالأنْعامِ } فى أن لها قلوبا وأعينا وآذانا لا تستعملها فى أمر الآخرة، بل فى أمر المعيشة، وإنما يفضل الإنسان باستعمال ذلك فى أمر الآخرة { بَلْ هُم أضلُّ } أى بل هم ضالون دونها، فهى خير عنهم، فاسم التفضيل خارج من بابه، أو بل هم أضل منها، لأنها ولو حصل لها ضلال فى بعض أمر الدنيا من حيث إنها لا تهتدى إلى ما يهتدى إليه العاقل فى أمر الدنيا، لكن ضلالهم عن أمر الآخرة أشد، لأنه مهلك لهم الإهلاك الدائم، وقد علم أكثرهم به وعائد، فهم أضل منها، فاسم التفضيل على باله { أولئِكَ هُم الغَافلُونَ } أى الكاملون فى الغفلة.