خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ
٧٢
-الأعراف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فأنْجيناه والَّذينَ مَعه } فى الدين { برحمة منَّا } عليهم لكونهم أهلاً لها { وقَطَعْنا دَابر الَّذين كذَّبُوا بآياتنا } أى استأصلناهم ولم يبق خلفهم بعض منهم لتكذيبهم بالمعجزات الدالة على صدق هود { وما كانُوا مؤمِنينَ } عطف على الصلة، وفيه تعريض بأن ما أصابهم إنما هو لعدم إيمانهم، فمن آمن نجا وهم قليل، ومن لم يؤمن هلك وهم الكثير، وكانوا ثلاث عشرة قبيلة، قيل: كان مساكنهم الشحر بفتح الشين وكسرها إلى حضرموت إلى عمان، والشحر ساحل البحر بين عمان وعدن، وكانوا مشركين ظالمين لغيرهم، بفضل قوتهم، فبعث الله سبحانه إليهم هوداً من أوسطهم نسباً، وأمرهم بالتوحيد والكف عن الظلم.
قال ابن إسحاق: ولم يأمرهم بغير ذلك فيما يذكر، فأبوا وزادوا عتواً وقالوا: من أشد منا قوة وبنوا بكل ريع، واتخذوا المصانع، وبطشوا بطشة جبار، وآمن به مرثد بن سعد بن عفير وغيره، وكتم إيمانه وهو وغيره ممن آمن وهم قليل، فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، وأجهدهم ذلك، وكان الناس فى ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء طلبوا الفرج من الله عند البيت الحرام، مؤمنهم وكافرهم من أى ملة، معظمين لمكة عارفين بمكانها من الله، وأهل مكة يومئذ العماليق، سموا بذلك لأن أباهم عمليق بن لاود بن سام بن نوح، وسيدهم معاوية ابن بكر، وكانت أمه كهولة بنت الحميرى، وقيل: كلهدة بنت الخبيرى رجل من عاد.
قال فى عرائس القرآن: فلما جهدوا قالوا: جهزوا منكم وفداً إلى مكة يستسقون فبعثوا قيل: ابن عنز، ولقيم بن هزال، وعسيل بن صد ابن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد، وجلهمة بن الخبيرى وغيرهم، وكانوا سبعين، كل واحد ممن ذكرت برهط من قومه حتى تم سبعون ونزلوا على معاوية بن بكر المذكور، وهو بظاهر مكة خارج الحرم، فأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره، وأن أمه من عاد لا من ثمود كما مر، فأقاموا عنده شهرين يشربون الخمر، وتغنى لهم الجرادتان، وهما أمتان، لمعاوية المذكور، وكانت إحداهما اسمها جرادة، والأخرى وردة فالجرادتان تغليب، وكان مسيرهم شهراً، ومقامهم عنده شهراً فلما رأى معاوية طول مقامهم، وقد بعث بهم قومهم يستسقون لما بهم من البلاء، شق عليه ذلك وقال: هلك أخوالى وأصهارى، وهؤلاء مقيمون عندى وهم أضيافى، وأستحى إن أمرتهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه ظنوا أنى ضقت منهم، وقد هلك قومهم عطشا، فشكا ذلك إلى الجرادتين فقالتا: قل شعراً ما يدرون من قاله نغنيهم به، لعل ذلك يحركهم فقال:

ألا ياقيل ويحك من هوينم لعل الله يجعلنا غماما

ويروى يصحبنا ويروى يسقينا

فيسقى أرض عاد إن عادا قد امسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير فقد أمست نساؤهم أياما

وروى هيامى:

وإن الوحش يأتيهم جهاراً ولا يخشى لعادى سهاما

وروى تأتيهم ولا يخشى بالمثناة الفوقية.

وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم نهاركم وليلكم التماما

وروى برغد عيش.

فقبح وفدكم من وفد قوم ولا لقوا التحية والسلاما

والهينمة الكلام الخفى الذى يسمع ولا يتبين، والمراد هنا الدعاء الذى هو كذلك فغنتا بذلك، فقال بعضهم لبعض: يا قوم إنما بعثكم قومكم ليستغيثوا بكم من بلائهم، وقد أبطأتم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم، فقال مرثد: إنكم والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم وأظهر إسلامه حينئذ، وقال:

عصت عادٌ رسولهم فأمسوا عطاشاً ما تبلُّهم السماء
لهم صنم يقال له صمودٌ يقابله صداء والبهاء
فبصَّرنا الرسول سبيل رشد فأبصرنا الهدى وجلا العماء
وإن إله هود هو ربى على الله التوكُّل والرجاء
لقد حكم الإله وليس جور بحكم الله إذ غلب الهواء
على عادٍ، وعاد شر قوم وقد هلكوا وليس لهم بقاء
وإنِّى لن أفارق دين هود طوال الدهر أو يأتى الغناء

فأجابه جلهمة مسميا له باسم أبيه، أو مقدرا مضافا أى يا ولد سعد أو يا ابن سعد:

ألا يا سعد إنك من قبيل ذوى كرمٍ وأمك من ثمود
فإنَّا لا نطيعك ما بقينا ولسنا فاعلين لما تريد

بكسر الدال للقافية وهو قبيح أو بضمها فلزم الإقواء وهو عيب.

أتأمرنا لنترك دين وفدٍ ورمل آل صد والعتود
ونترك دين آباء كرام ذوى رأى ونتبع دين هود

ثم قال جلهمة لمعاوية وأبيه بكر وكان شيخا كبيرا، احبس عنا مرثدا فلا يقدمن معنا مكة، فإنه قد تبع دين هود وترك ديننا ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد، فلما وصلوا مكة خرج مرثد فلحقهم قبل أن يستسقوا فقال: اللهم أعطنى سؤلى وحدى، ولا تدخلنى فيما يدعونك به، وقال قيل بن عنز رأس وفد عاد: اللهم أعطى قيلا ما سألك، اللهم اسقنا فقد هلكنا، وقال من معه: واجعل سؤالنا مع سؤاله، وكان لقمان بن عاد قد جاء بعدهم متخلفا عنهم وقيل: أرسلوه فتخلف عنهم، وجاء وحده، وكان سيد عاد، وقال بعد فراغ دعائهم: اللهم إنى جئتك فى حاجتى وحدى وإنى لم أجىء لمريض فأداويه، ولا لأسير فأفاديه.
وقد قال قيل المذكور: اللهم اسقى عاداً ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله سحائب ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء، ونادى ملك من السحاب: يا قيل اختر لنفسك وقومك، فقال: اخترت السوداء فإنها أكثر ماء فناداه الملك: اخترت دمارا رقدا، لا تبقى من آل عاد أحدا لا والدا ولا ولدا إلا جعلتهم همدا إلا بنى اللودية الهمدا، وهم رهط لقيم ابن هزالى سكنوا مع أخوالهم بمكة، لم يكونوا مع عاد بأرضهم وهم عاد الآخرة، فسيقت إليهم فخرجت عليهم من واد يقال له المنيث، فاستبشروا هذا عارض ممطرنا، وأول من عرفها وأبصر ما فيها من الهلاك امرأة من عاد يقال لها مهدد، رأتها وصاحت وصعقت ثم أفاقت، قالوا: ما رأيت؟ قالت: ريحا فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها.
وعن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أوحى الله إلى الريح العقيم أن تخرج إلى عاد فتنتقم منهم، فخرجت بغير كل على قدر منخر ثور، حتى رجفت الأرض مشرقا ومغربا فقال الخزان: يا رب لن أطيقها ولو خرجت على حالها لأهلكت ما بين المشرق والمغرب، فأوحى الله تعالى أن ارجعى فاخرجى على قدر خرز الخاتم، فرجعت وخرجت على قدر خرز الخاتم فسخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فأهلكتهم إلا هوداً ومن آمن، قد اعتزلوا فى حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين جلودهم ويلتذون به، وإنها لتمر بالطعن من عاد فتحملهم بين السماء والأرض وترضخهم بالحجارة حتى هلكوا وقيل: تحمل الظعن وتلقيها فى البحر.
قال محمد بن إسحاق، والسدى: بعث الله على عاد الريح العقيم، فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال نظيرهم بين السماء والأرض، فتبادروا للبيوت، فجاءت وفتحت الأبواب وأخرجتهم وأهلكتهم، فأرسل الله عليهم طيرا سودا فنقلتهم إلى البحر.
قال عطاء بن يسار: لما خرجت الريح على عاد من الوادى، قال سبعة أحدهم الجلجال وهو كبيرهم ورئيسهم: تعالوا نقم على شفير الوادى فنردها، فجعلت الريح تدخل تحت الواحد فتحمله وترمى به وتدق عنقه، وكانت الريح تحمل الشجرة العظيمة من عروقها وتهدم عليهم بيوتهم ولم يبق إلا الجلجال، فمال إلى الجبل فأخذ بجانب منه فهزه فاهتز فى يده، فقال:

لم يبق إلا جلجل بنفسه يا لك من يوم دهى كأمسه

فقال له هود عليه السلام: يا جلجال أسلم تسلم، فقال له: مالى عند ربك إذا أسلمت؟ قال: الجنة، قال: فما هؤلاء الذين أراهم فى السحاب كأنهم البخت؟ قال هود: تلك الملائكة، قال: إن أسلمت أفيقيدنى ربى منهم لقومى؟ قال: ويحك، هل رأيت ملكا يقيد من جنده؟ قال: لو فعل ما رضيت، فألجأته الريح بأصحابه فأهلكته.
وعن أبى أمامة الباهلى، عنه صلى الله عليه وسلم:
"يبت قوم من هذه الأمة على طعام وشراب فيصبحون قردة وخنازير وليصيبنهم خسف وقذف، فيقال: لقد خسف اليوم ببنى فلان، ولنرسلن عليهم الريح العقيم التى أهلكت عادا بشربهم الخمر وأكلهم الربا واتخاذهم الإماء للتغنى، ولبسهم الحرير، وقطعهم الأرحام" .
وخرج وفد عادٍ من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عنده فبينما هم عنده إذ أقبل رجل على ناقة له فى ليلةٍ مقمرة مساء ثالثة من مصاب عاد، فأخبرهم بهلاك عاد، قالوا له: فأين فارقت هودا وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر فكأنهم شكوا فى حديثه، فقالت هذيلة بنت بكر: صدق ورب الكعبة وذكروا أنه قيل للقمان ومرثد وقيل ابن عنز من السحائب بعد دعاء قيل: اختاروا لأنفسكم غير أنه لا سبيل إلى الخلود، فقال مرثد: اللهم أعطنى برا وصدقا فأعطى ذلك، وقال قيل: أختار أن يصيبنى ما أصاب قومى، فقيل له: إنه الهلاك، فقال: لا أبالى لا حاجة لى فى البقاء بعدهم، فأصابه ما أصابهم، فهلك هو ومن معه من الوفد بالريح بعد ما خرجوا من الحرم.
وقال لقمان: يا رب أعطنى عمرا، فقال: اختر لنفسك بقاء أبعار فى جبل وعر، لا يلقاه مطر أو عمر سبعة أنسر، فاستحقر أمر الأبعار فاختار عمر الأنسر، فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضته ويأخذ الذكر لقوته ويربيه حتى إذا مات أخذ غيره حتى أتى على السابع وكل منها يعيش ثمانين عاما ولم يبق غير السابع، قال ابن أخيه: يا عم لم يبق من عمرك إلا هذا النسر، فقال لقمان: يا ابن أخى هذا لبد، وهو بألسنتهم الدهر، وقيل: اسم لذلك النسر.
ولما انقضى عمر لبد طارت النسور من رأس الجبل إلا لبد، وكانت أنسرة لا تغيب عنه غيبة طويلة فطلع إلى الجبل، فلم ير النسور وراء لبد، فناداه لينهض، فذهب لينهض فلم يستطع فسقط فمات، وقد وجد لقمان عند طلوع الجبال، وهنا فى نفسه ولم يكن يجده قبل ذلك، فمات معه، رضى الله عنه، وكان يقال: أتى الأبد على لبد، قال النابغة:

أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا أخنى عليها الذى أخى على لبد

وسار مرثد بعد خبر الراكب حتى لحق بهود ومن معه، وارتحلوا لناحية من اليمن، وبقى هود ما شاء الله، ثم مات وعمره مائة وخمسون سنة فى حضرموت.
قال على لرجل من أهل حضرموت: هل رأيت كثيبا أحمر، تخالطه مدرة حمراء يسمى مدركا بناحية كذا من حضرموت؟ قال: نعم والله إنك لتنعت نعت رجل قد رآه، قال: لا ولكنى حدثت عنه، فقال الحضرمى: وما شأنه؟ قال: فيه قبر هود عليه السلام.
وعن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن ساباط: بين الركن والمقام وزمزم قبور تسعة وتسعين نبيا، وإن قبر هود وصالح وشعيب وإسماعيل عليهم السلام فى تلك البقعة، وروى: ما هلكت أمة إلا جاء نبيها ومن آمن به مكة يعبدون فيها حتى يموتوا. انتهى كلام عرائس القرآن بزيادة يسيرة، وفيه أن مرثدا قال حين سمع قول الراكب:

ألا نزع المهيمن خلد عاد فإن قلوبهم قفر هواء
من الخير المبين وعنه مالوا وما تغنى النصيحة فى الشقاء

بكسر الهمزة ففيه إقواء.

فنفسى ثم أبنائى وأمى لنفس نبينا هود فداء
أتانا والقلوب مغمدات على كفر وقد ذهب الضياء
لنا صنم يقال له صمود يقابله صداه والهباء
ففاز مَنْ إلى الإيمان تاب وأدرك مَنْ يكذبه الشقاء
وإننى سألحق آل هود وإخوته إذا جن المساء

وقيل: إن الريح دفنتهم، وكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام، يسمع لهم أنين ثم كشفت الريح عنهم فألقتهم فى البحر، ولم تبعث ريح بغير مكيال إلا هذه فإنه قيل: عتت على الخزنة كما يأتى إن شاء الله فى الحاقة.