خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٤٨
-الأنفال

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وإذْ زيَّن لَهم الشَّيطانُ أعْمالَهم } من معادات رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها، والتزيين بالوسوسة أو بالكلام بأن ظهر لهم، وتكلم فى صورة إنسان { وقالَ } بلسانه { لا غالبَ لكُم اليومَ } يوم بدر على أن تصوره سراقة كان يوم بدر، وهذا القول قاله يوم بدر، أو أراد باليوم الزمان مطلقا الذى هو وقت إرادة الخروج من مكة وما بعده إلى وقت القتال، على أنه تصور لهم بصورته حينئذ، وقال هذا القول حينئذ، ولكم متعلق بمحذوف خبر لا، واليوم متعلق به أيضا أو بلكم، أو تعلق أحدهما باسم لا لكان شبيها بالمضاف فيقال لا غالبا، وأجيز كون لكم لقتاله واليوم ظرف خبرى.
{ مِنَ النَّاسِ } لكثرة عُددكم وعددكم { وإنِّى جارٌ لكُم } مانع أن يأتيكم كنانة بما تكرهون، تقدم أنهم لما أرادوا الخروج لمنع العير، ذكروا حروبا كانت بينهم وبين بكر بن وائل من كنانة، حتى كادوا يتركون الخروج خوفا على أموارهم ونسائهم وذراريهم وضعفائهم، فظهر لهم إبليس فى صورة سراقة بن مالك بن جشعم الشاعر، وكان من أشراف كنانة، وهو من بكر بن وائل، وهم من كنانة فقال لهم: إنى جار لكم من أن يأتوا من خلفكم بما تكرهون، وزاد بعضهم أنه قال: لا تمرون بحى من كنانة إلا أمدوكم بالخيل والرجال والسلاح، وذلك قول الجمهور فى الآية.
وقال ابن عباس فيها: إنه جاء إبليس يوم بدر فى جند من الشياطين معه راية فى صورة سراقة فقال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم، أى ناصر ومصاحب وزين لهم أن جند الشياطين جند من كنانة، وأن من بقى منهم لا يأتيكم بسوء، ولما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبضة انهزم المشركون، وأقل جبريل إلى إبليس لعنه الله وكان فى صف المشركين، يده فى يدى الحارث بن هشام، انتزع يده منه ثم ولى مدبرا، وقيل: فعل ذلك لما رأى الملائكة تنزل، وأن الحارث قال له: أفراراً من غير قتال، وقيل قال له: اتخذ لنا فى هذه الحال، فجعل الحارث يمسكه فما أطلقه حتى ضربه فى صدره فوقع فانطلق منهزما مع جند من الشياطين، وتصوره تخييل لا تغيير للحقيقة، لأنه لا قادر على ذلكم إلا الله.
وقال غير الجمهور: إن تزين الشيطان لهم بالوسوسة، وكذا القول، قال لهم فى صدورهم: إنكم على الحق أو إن اتباعكم إياى فميا تفعلون من القربات مجير لكم من أن يغلبكم محمد وأصحابه حتى قالوا: إنهم أهدى الفئتين، ودينهم أفضل الدينين كما مر، وبذلك قال الحسن، ولا إشكال فى إمكان وسوسته بذلك، فبطل قول بعضهم إنه لا يمكن أن يوسوس بقوله: { إنى جار لكم }.
{ فلمَّا تَراءتِ الفِئتانِ } فئة الإسلام وفئة الكفر، أى رأت كل منهما الأخرى والتقتا للقتال، وتراءت تفاءلت لكن حذفت لام الكلمة وهى الياء المبدلة ألفا، والأصل تراءت بألف بعد الهمزة أيضا حذفت لسكون التاء الأصيل ولم يعتد بكسرتها لعروضها للساكن، وقرأ الأعمش، وعيسى بن عمر: ترد بإسقاط الألف قبل الهمزة أيضا، وحكى أبو حاتم، عن الأعمش أنه أمال ورقق الراء، ثم رجع عن ذلك.
{ نَكَصَ } رجع من حيث جاء فقوله: { عَلَى عَقِبيْهِ } تأكيد لنكوصه زيادة لذمه، وقيل: نكص بمعنى رجع على عقبيه أو غيرهما، فقوله: { على عقبيه } بيان لكون الرجوع من حيث جاء، وقيل: معنى تكون صه على عقبيه الانهزام والإحجام، وليس المراد أنه رجع إلى عقبيه، واختار بعض واستبعد القولين قبله، وقيل: معناه أنه صار ما خيل لهم أنه مجيرهم سببا لهلاكهم، ثم أعلم أنه إذا بنينا على قول الجمهور أن القول باللسان فى مكة فقد تبعهم أيضا فى صورة سراقة حتى تراءت الفئتان، انتزع يده فهرب، وكانت الهزيمة، ولما بلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة بن مالك، فبلغ ذلك سراقة، فأتى مكة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتنى هزيمتكم، فقالوا أما أتيتنا يوم كذا فى مكان كذا؟ وقلت كذا وفعلت كذا؟ فحلف بالله ما رأيتكم وما كنت معكم، ولما أسلموا علموا أنه الشيطان.
{ وقالَ إنِّى بَرِئٌ منْكُم } أتخلص منكم لا يصيبنى ما يصيبكم، وهذه المقالة أيضا فى الظاهر بلسانه يسمعونها، أو تمثيل بحاله وعدم إغنائه عنهم شيئا { إنِّى أرَى مَا لا تَروْنَ } رأى جبريل بين يدى النبى صلى الله عليه وسلم معتجرا ببرد يمشى، وفى يده اللجام يقود الفرس، ورأى الملائكة، ورأى جبريل قاصدا له، وسكن غير نافع، وابن كثير هذه الياء، والياء فى قوله: { إنِّى أخافُ اللهَ } أن يعذبنى بعذاب، أو يصيبنى بمكروه، ولم يخف الموت على أنه عالم بأن الأجل المنظَّر هو إليه يوم القيامة كما قال الحسن، واختاره ابن بحر، وخاف أن يميته فيكون ذلك الوقت هو الوقت المنظر إليه، على أنه غير عالم بأن أجله يوم القيامة، وعلى كل حال فليس المعنى أنى أتقى الله.
وقال الكلبى: إنه أراد أنى أتقى الله، قال: وهو كاذب، وقيل: لما رأى نزول الملائكة خاف قيام الساعة، وقيل خاف أن يأخذه جبريل فيعرف حاله فلا يطيعوه، وهكذا عادة عدو الله إبليس لعنه الله، أن يخذل أولياءه ويتبرأ منهم إذا رأى الحق غالبا.
قال ابن إسحاق: ذكرنى أنهم كانوا يرونه فى كل منزل فى صورة سراقة لا ينكرونه، حتى إذا كان يوم بدر، و التقى الجمعان نكص على عقبيه، فقال له الحارث بن هشام، أو عمير بن وهب: أين أى سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ قال حسان:

قَومى الذين هم آوَوْا نبيَّهم وقدَّموه وأهلُ الأرض كفَّارُ
إلا خَصَائص أقواهم هم سلَفُوا للصَّالحين مع الأنصار أنصارُ
مسْتبشرينَ بقسم الله قَولَهم لما أتاهم كريم الأصل مختارُ
أهلاً وسهلاً ففى أمن وفى سعةٍ نعم النبىُّ ونعم القسم الجارُ
فأنْزلوهُ بدارٍ لا يخافُ بها مَن كان جارهُم جاراً هى الدارُ
وقاسَمُوهم بها الأموال إذ قَدمُوا مُهاجرين وقسم الجاحد النارُ
سِرنا وساروا إلى بدرٍ لحينهم لَوْ يعلمُون يقينَ العلم ما سارُ
دَلاَّهم بغرورٍ ثم أسْلمهم إنَّ الخبيث لمن ولاه غَرَّارُ
وقالَ إنى لكم جارٌ فاوْردهم شَر الموارد فيه الخزىُ والعارُ
ثم التقينا فولَّوا عَن سُراتهم من منْجدِين وفيهم فرقة غارُ

وفى الحديث: "ما رُئىَ إبليس يوما فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه فى يوم عرفة لما رأى من نزول الرحمة ومحو الذنوب العظام إلا ما رُئى يوم بدر فإنه رأى جبريل يزع الملائكة أى يحبسهم لئلا يتقدم بعض عن بعض فى الصف" وفى رواية: "إلا ما أرى يوم قيل: يا رسول الله وما رأى؟ قال: رأى الملائكة يزعها جبريل" .
{ واللهُ شَديدُ العقابِ } من قول ابن إبليس، ويجوز أن يكون من كلام الله مستأنفا.