خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٠٠
-التوبة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ والسَّابقُون الأوَّلونَ } مبتدأ وخبر، أى السابقون بالخير هم الأولون، أو مبتدأ أو نعت، والخبر رضى الله عنهم { مِنَ المهاجرينَ والأنْصارِ } أما السابقون من المهاجرين فالذين صلوا إلى القبلتين، وأما من الأنصار فأهل بيعة العقبة الأولى، وهم سبعة، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم فى المدينة: أبو زرارة مصعب بن عمير، علمهم القرآن.
وقيل: أهل العقبة الأولى وهم ستة، والثانية وهم اثنا عشر، وقيل: أحد عشر، والثالثة وهم سبعون منهم البراء بن معرور، وعبد الله ابن عمرو، وابن حزام، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وعبد الله ابن رواحة، أما الستة: فأبوا أمامة سعد بن زرارة، وعوف بن الحارث ابن رفاعة، وهو ابن عفراء، ورافع بن مالك بن عجلان، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابى، وجابر بن عبد الله بن رباب، وليس بجابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام، ومنهم من يجعل فيهم عبادة بن الصامت، وبعضهم يجعله بدل جابر، واعدوه أن يرجعوا إلى عشائرهم ويدعوهم إلى الإسلام بعد أن يصلحوا ذات بينهم ليجتمعوا عليه، وقد كانت قبل عامهم ذلك حرب، وأن يرجعوا العام القابل فلم تبق دار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقيه فى القابل اثنا عشر، وهم أصحاب العقبة الثانية، وهم الستة إلا جابر ومعاذ بن الحارث بن رفاعة، أخو عوف، وذكر أن ابن عبد قيس الزرقى، وعبادة بن الصامت، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة، والعباس بن عبادة، وهم من الخزرج، وأبو الهيثم بن التيهان بإسكان التحتية، وقيل: بتشديدها من بنى عبد الأشهل، وعويم بن ساعدة، وهما من الأوس، وكان أسعد يجتمع بمن أسلم فى المدينة، وكتب إليه الأوس والخزرج أن ابعثوا إلينا من يعلمنا القرآن، فبعث إليهم مصعبا، وقيل: كتب إلى مصعب بهم أن يجتمع بهم، وبايعه الاثنا عشر كبيعة النساء بعد، وعلى السمع والطاعة، فى العسر واليسر، والمنشط والمكره، وقبول تفضيله غيرهم عليهم، وعدم منازعة الأمر أهله، والقول بالحق بلا خوف لوم لائم وأظهر الله الإسلام بهم فى المدينة.
وكانت الجمع فى الصلاة بأربعين رجلا، أسلم بيد مصعب كثير منهم: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وأسلم بهم جميع بنى عبد الأشهل فى يوم واحد إلا عمرو بن ثابت، فأسلم يوم أحد واستشهد ولم يسجد سجدة، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة، ولم يكن فى بنى عبد الأشهل، ففى العام الثالث، وأهلها سبعون رجلا، وقيل: وامرأتان، وقيل: يريدون رجلا أو رجلين. وقال ابن إسحاق: ثلاثة وسبعون وامرأتان، وقال الحاكم: خمسة وسبعون منهم ثلاث نسوة، وأول من بايع البراء بن معرور، وقيل: أبو الهيثم، وقيل: أسعد بايعوه يومئذ على منعه مما يمنعون أهلهم، وعلى حرب العرب والعجم، وحضر هذه العقبة العباس يتوثق له صلى الله عليه وسلم، وكان على دين قومه، وذلك ليلا.
وأول من هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد، ثم عامر بن ربيعة، وامرأته ليلى، ثم عبد الله بن جحش، ثم المسلمون أرسالا، ثم عمر ابن الخطاب وأخوه زيد، وعياش بن ربيعة فى عشرين راكبا، ثم عثمان، قيل: حتى لم يبق معه إلا أبو بكر وعلى، وذكر بعض: أن ذكوان رجل من المدينة إلى مكة، وسكنها معه صلى الله عليه وسلم، ثم هاجر وهو مهاجرى أنصارى، قتل يوم أحد.
وقيل: { السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } هم أهل بدر، وحولت القبلة قبل بدر بشهرين، وقيل: الذين أسلموا قبل الهجرة، وقيل: أهل بيعة الرضوان، وقال محمد بن كعب القرظى جميع الصحابة لحصول السبق لهم بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ضعيف، لأن من أسلم يوم الفتح ليس مهاجريا ولا أنصاريا، ولا يشمل اللفظ، وكذا سائر من أسلم، وليس بواحد.
وقيل: كل من هاجر قبل نسخ الهجرة، وكل من أسلم من الأوس والخزرج على عهده صلى الله عليه وسلم، وقد قسم الصحابة ثلاثة: مهاجرى، وأنصارى، وسائر من أسلم من الصحابة، إلا إن قيل: المراد بالأنصار كل ناصر لرسول الله لو لم يكن من الأوس والخزرج، وهم طبقات: من أسلم أول البعث كخديجة، وأبى بكر، وعلى، ومن أسلم بحمل عمر بعد إسلامه النبى صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى دار الندوة، ومن هاجر إلى الحبشة كجعفر بن أبى طالب، وكانوا أحد عشر، وقيل: اثنا عشر معهم أربع نسوة، وقيل: خمس، وقيل: اثنتان وأميرهم عثمان بن مظعون، وقال الزهرى: لم يكن فيهم أمير.
وأول من خرج عثمان بن عفان مع رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، خبرهما عنه فأخبرته امرأته بأنه قد حمل امرأته على حمار، فقال إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط، وفيهم من هاجر بأهله سواء، وذلك سنة خمس من النبوة، وأصحاب العقبة الأولى، وأصحاب الثانية، وأصحاب الثالثة، ومن هاجر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحقه بقباء قبل بناء المسجد، والانتقال إلى المدينة، وأهل بدر الكبرى، ومن هاجر بين بدر والحديبية، ومن بايع بيعة الرضوان، ومن هاجر بعد الحديبية وقبل الفتح: كخالد وعمرو بن العاص، وأبو هريرة، ورجح أنه هاجر قبل الحديبية عقب خيبر فى أواخر خيبر، ومن أسلم يوم الفتح وهم خلق كثير ما بين بائع وكار، ثم حسن إسلامه، ومن هو صبى أدرك النبى صلى الله عليه وسلم وأراه يوم الفتح أو بعده فى حجة الوداع وغيرها، كالسائب بن زيد.
وأول الناس إسلاماً خديجة، هى من أول مَنْ صلى معه صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر، وقيل: أسلم قبله على، وعليه الأكثر، بل قال ابن عبد البر باتفاق: وهو صبى ذو عشر سنين، بمعنى أنه صدق به، وكره أمر قومه، وقيل: أقل من عشر، وقيل أكثر، وقيل بالغ، والصحيح خلافه، وقيل: تلاها فى الإسلام ورقة بن نوفل، وقيل زيد بن حارثة.
ويجمع ذلك بأن أول من أسلم على الإطلاق خديجة، وأول من أسلم من الرجال الأحرار، وأظهر إسلامه ودعى إليه أبو بكر، وأول من أسلم منهم بدون إفشاء ودعاء إليه ورقة، وأول من صدق به وأذعن له من الصبيان على، ومن الموالى زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال، وأول امرأة أسلمت بعد خديجة أم الفضل زوج العباس، وأسماء بنت أبى بكر، قيل: وعائشة، ويرده أنها حينئذ لم تولد، وإنما ولدت سنة أربع من البعثة.
وأسلم بعد زيد عثمان، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد ابن أبى وقاص، وطلحة بن عبيد الله، دعاهم أبو بكر فاستجابوا له، ثم أبو عبيدة عامر بن الجراح، وأبو سامة عبد الله بن عبد الأسد، والأرقم بن أبى الأرقم المخزومى، وعثمان بن مظعون، وأخوه أدامة، وعبد الله وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد بن عمر بن نفيل، وامرأته فاطمة بنت الخطاب.
ولم يسلم بسبب أحد أكثر مما أسلم بأبى بكر، والأمثل ما أسلم به، وذلك أنه محبب فى قومه، وكان سهلا لينا أنسب قريش لقريش، وأعلمها بما فيها، وسخيا وذا خلق حسن، وكان يدعو من يثق به من قومه، وقرأ عمر والحسن وقتادة ويعقوب برفع الأنصار عطفا على السابقون، وعلى القراءتين يكون عطف ما بعد.
{ والَّذينَ اتَّبعوهُم بإحْسانٍ } إلى يوم القيامة وقيل: بقية المهاجرين والأنصار، سوى السابقين، وقال عطاء: هم الذين يذكرون فيترحمون عليهم، ويدعون لهم، وفى حديث:
"من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، ومات ولا يشرك بالله شيئا غفر الله له حقا هاجر أو قعد فى مولده إنما يتقبل الله من المتقين" وذلك بعد نسخ الهجرة، وكون الجهاد تطوعا.
قال:
"وإنما فى الجنة لمائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض للمجاهدين، ولولا أن أشق على أمتى، ولا أجد ما أحملهم عليه، ولا تطيب أنفسهم بالتخلف، ما قعدت خلف سرية، ولوددت أن أقاتل فى سبيل الله سبحانه وتعالى فأقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل" قال جمهور العلماء السلف والخلف: إن الصحابة أفضل الخلق بعد النبى صلى الله عليه وسلم، وفى الحديث: "خير الناس قرنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" أو قاله ثلاثا، واختلفوا فى القرن من عشرة إلى مائة وعشرين، وقال فى فتح البارى: لم أر من صرح بالتسعين، ولا بمائة وعشرة.
قلت: قال العلامة الشيخ إبراهيم اللقانى: قد رأينا الإمام الفارقانى صرح بقول من قال: إنه تسعون، وقول من قال: إنه مائة وعشرة، وقال صاحب المحكم: هو القدر المتوسط من أعمار أهل كل زمان، وهذا أعدل الأقوال والترتيب فى قوله: "ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" بالنسبة إلى المجموع عند ابن عبد البر، قال: قد يكون فيمن يأتى بعد الصحابة أفضل ممن كان فى جملة الصحابة.
وفى حديث أبى أمامة:
"طوبى لمن رآنى وآمن بى، وطوبى سبع مرات لمن لم يرنى وآمن بى" وفى حديث عمر: "أفضل الخلق إيمانا قوم فى أصلاب الرجال يؤمنون بى ولم يرونى، فهم أفضل الخلق إيمانا" لكن سنده ضعيف، وفى حديث أبى عبيدة بن الجراح: "يا رسول الله هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك؟ قال: قوم يكونون بعدكم يؤمنون بى ولم يرونى" .
وكتب عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة إلى كل من فقهاء زمانه: أن أكتب إلىَّ بسيرة عمر، منهم سالم بن عبد الله، فكلهم كتب إليه أن عملت بسيرة عمر، فأنت أفضل من عمر، لأن زمانك ليس كزمان عمر، ولا رجالك كرجال عمر. وفى حديث: "مثل أمتى مثل المطر، لا يدرى آخره خير أم أوله" وفى حديث: "ليدركن المسيح أقواما إنهم لمثلكم أو خير ثلاثا، وأن يخزى الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها" وفى حديث: "تأتى أيام للعامل فيهن أجر خمسين منكم" وقال الجمهور: إنه لا يكون غير الصحابى كالصحابى، ولا أفضل منه ولو صحبة، ورآه مرة من عمره.
واشتهر فى كتبنا الفقهية: أن واحدا ممن يأتى خير من سبعين من أبى بكر وعمر، وهذا مما يناسب مذهب ابن عبد البر، وهذا ما مر الاستدلال به يقتضى التسوية بين أول الأمة وآخرها فى فضل العمل، قال ابن عبد البر: إلا أهل بدر والحديبية، وأجيب من جانب الجمهور: بأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وبأن الأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله فى ذلك العمل.
وأما ما فاز به من شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشاهدة له، والقتال معه، أو بأمره، والإنفاق بسببه فلا يعدله أحد فى الفضل، قال الله تعالى:
{ { لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح } الآية وبأنه يحتمل أن يقول ذلك قبل علمه بأفضلية الصحابة، ولما علمها صرح بقوله: "لو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهبا لم يبلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه" وبقوله: "خير القرون قرنى" وأيضا هم ضبطوا الشرع لمن يأتى.
وذكر بعض: أن الخلاف فى صحابى لم يحصل له إلا مجرد الرؤية، وأن قد زاد بنحو رواية أو غزو فلا نزاع فيه أنه أفضل، وكان عمر يرى الذين اتبعوه بغير واو، وقيل: الذين فيكون نعتا للأنصار، قال له زيد ابن ثابت: إنه بالواو، فقال: إيتونى بأبىّ بن كعب، فقال بالواو، فقال عمر: ما كنا نرى إلا أنا قد رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد، فقال أبى: إن مصداق هذا فى سورة الجمعة:
{ { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } وفى سورة الحشر: { { والذين جاءوا من بعدهم يقولون } الآية، وفى سورة الأنفال: { { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } ورجع عمر إلى قول زيد.
وروى أنه سمع قارئا بالواو وقال: من أقرأك؟ فقال: أبىّ، فدعاه فقال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنك لتبيع القرظ بالبقيع، قال: صدقت، وإن شئت قلت: شهدنا وغبتم، ونصرنا وخذلتم، وآوينا وطردتم، يشير رضى الله عنه إلى قريش.
{ رَضىَ اللهُ عنْهُم } بالتوفيق وقبول الأعمال { ورَضُوا عَنْه } بما أفاض عليهم من نعم الدنيا والآخرة { وأعدَّ لَهم جَنَّاتٍ تَجْرى تَحْتَها الأنهارُ } وقرأ ابن كثير وحده: من تحتها كذا فى مصاحف أهل مكة وحدها { خَالدِينَ فِيهَا أبداً ذَلكَ الفوْزُ العَظيمُ } جعلنا الله من التابعين بإحسان.