خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
٥
-الفاتحة

جواهر التفسير

في هذه الآية الكريمة يعلم الله عبادة أن يفردوه بالعبادة وبالإِستعانة، وهذه ثمرة التوحيد وجوهر الإِيمان والآيات المتقدمة في السورة جاءت توطئة لها ومقدمة لما فيها فإن الإله الحق الذي هو رب العالمين والمتصف بالرحمة والمالك للأمر في الدنيا والآخرة جدير بأن لا تتجه العبادة إلى غيره وأن لا يتعلق القلب بسواه، ويرى الزمخشري أن الآية الكريمة جاءت لتبين الحمد المقصود في قول الله تعالى: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ويتقدمها سؤال مقدر تقديره كيف تحمدونه؟ فأُجيب: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، وسوغ السيد الجرجاني ذلك لأن السؤال عن كيفية الحمد لا عن ماهيته، فصح أن يجاب عنه بالإِجابة المشتملة على الحمد وعلى غيره لأن ضم غيره إليه نوع بيان لكيفيته، أي حال حمدنا أن نجمعه بسائر عبادات الجوارح والإِستعانة في المهمات، ونخص مجموعها بك، وأورد السيد الجرجاني أيضا أنه صح كون العبادة بيانا للحمد من حيث أن اقصى غاية الخضوع يقتضي اعترافا تاما بالإِنعام، ووصفا للمنعم بصفات الجلال والإِكرام، وهذا لأن الحمد اصل العبادة ورأسها كما مر أنه رأس الشكر، إِذ حقيقة العبادة شكر المنعم الحقيقي، أي اظهار الإِنقياد له بقدر الإِمكان غاية ما في الباب أن الجواب يشتمل على زيادة في البيان، ورجح السيد الجرجاني أن يكون قوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } استئنافا جوابا لسؤال يقتضيه اجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها أزلا وأبدا، كأن سائلا يقول: ما شأنكم مع هذا الموصوف؟ وكيف توجهكم إليه؟.
فأجيب بحصر العبادة والإِستعانة فيه، واعترض الإِمام أبو السعود ما يقوله الزمخشري "بأنه مع كونه لا حاجة إليه مما لا صحة له في نفسه فإن السؤال المقدر لا بد أن يكون بحيث يقتضيه انتظام الكلام، وتنساق إليه الأذهان والأفهام، ولا ريب في أن الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفية اللائقة لا يخطر ببال أحد أن يسأل عن كيفيته، على أن ما قدر من السؤال غير مطابق للجواب فإنه مسوق لتعيين المعبود لا لبيان العباده حتى يتوهم أنه بيان لكيفية حمدهم، والإِعتذار بأن المعنى نخصك بالعبادة وبه يتبين كيفية الحمد تعكيس للأمر وتمحل لتوفيق المنزل المقرر بالمفهوم المقدر، ثم قال: وبعد اللُّتيا والتي إن فرض السؤال من جهته عز وجل فأتت نكته الإِلتفات التي أجمع عليها السلف والخلف، وإن فرض من جهة الغير يختل النظام لأبتناء الجواب على خطابه تعالى وبهذا هدم أبو السعود ما رجحه الجرجانى من أنه استئناف جوابا لسؤال يقتضيه اجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها، وأضاف (بأن تناسي جانب السائل بالكلية وبناء الجواب على خطابه عزّ وعلا مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله) ثم قال: (والحق الذي لا محيد عنه أنه استئناف صدر عن الحامد بمحض ملاحظة اتصافه تعالى بما ذُكرمن النعوت الجليلة الموجبة للإِقبال الكلى عليه من غير أن يتوسط هنالك شيء آخر) وأرى أن أضيف إلى ما يقوله أبو السعود أن السورة الكريمة صُدِّرت بحصر الحمد في ذات الحق تعالى وهو مشعر كما سبق بصدور جميع الآلاء عنه ثم تُلِّي ذلك بوصفه تعالى أنه رب العالمين، وفي هذا تصريح بما يستلزمه حصر الحمد فيه من كونه مصدر جميع الآلاء، كما أن فيه إيقاظا للشعور بعظمته تعالى المستوجبة لملأ القلب بهيبته، ثم أُتبع ذلك وصفه بالرّحمة المستلزمة للإِحسان، واختتمت سلسلة هذه الصفات بكونه مالك يوم الدين وهو اليوم الذي ينقلب جيع الناس إليه ليلقوا جزاء ما قدموا، وإجراء هذه الصفات العظيمة على الله باللسان مع استشعار معانيها بالقلب يجعل النفس تنساق انسياقا تلقائيا إلى منتهى الخضوع لهذا الرب الجليل الموصوف بهذه الصفات، صفات العظمة التي لا تليق بغيره، وليس خضوع أبلغ من خضوع العابد فناسب المقام أن يُفرد الله تعالى هنا بالعبادة وبالإِستعانة بصيغة الخطاب المشعرة بالحضور، والخروج بالكلام من أسلوب الغَيبَة إلى أسلوب الخطاب هو المعروف عند علماء البلاغة بالالتفات ويكون أيضا بالخروج عن التكلم إلى الخطاب أو العكس وبالخروج عن الخطاب إلى الغيبة أو التكلم وهكذا.. ولا يعنينا هنا بحث مسائل الالتفات فإن ذلك من اختصاص علم البلاغة وانما يعنينا بحث النكتة التي يجاء به لأجلها، وقد ذكر علماء البلاغة نكتة عامة له وهي تطرية الكلام وتجديد نشاط السامع والمتكلم، وقد تنضم إليها نكت خاصة بحسب المقامات، وللمفسرين والبلاغيين سباق في إظهار النكت التي تناسب هذا المقام، منهم من قال: لما ذُكر الحقيق بالحمد ووُصف بصفات العظمة التي تميزه عن غيره تعلقت معرفة القلب بمعلوم متميز خوطب بذلك ليكون أدل على الإِختصاص والترقي من البرهان إلى العيان، والإِنتقال من الغيبة إلى الشهود فكأن المعلوم صار عيانا، والمعقول مشاهدا، والغيب حضورا، وقيل: لما شرح الله تعالى صدر عبده بالإِسلام وأفاض على قلبه نور الإِيمان ترقى بسلم الحمد المستجلب لمزيد النعم إلى مقام الإِحسان وهو (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وأيضا حقيقة العباده هو الإِنقياد المطلق من النفس لأحكام المعبود، وصورة هذا الإِنقياد وقالبه الإِسلام، ومعناه وروحه الإِيمان، وسره وغايته الإِحسان، وبالإِلتفات في (نعبد) يصل العبد عبر المرحلتين السابقتين إلى المرحلة الثالثة، وذكر الألوسي "بأنه يحتمل أن يكون السر أنّ الكلام من أول السورة إلى هنا ثناء، والثناء في الغيبة أولى ومن هنا إلى الآخر دعاء وهو في الحضور أولى"، وقيل غير ذلك.
والعبادة لغة بمعنى الذل، يقال: عبد إذا ذل، وعُبِّد إذا ذُلل، منه قوله تعالى:
{ { أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الشعراء: 22] ويُقال طريق معبد إذا وطئته الأقدام حتى ذللته، ومنه قول طرفة بن العبد:

تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت وظيفا وظيفا فوق مور معبد

أما إصطلاحا فللناس فيها مذاهب ترجع إلى المعنى اللغوي، فابن جرير الطبري يفسرها بالخضوع والإِستكانة والذل مع الإِقرار بالربوبية للرب المعبود وحده، وروي عن ترجمان القرآن رضي الله عنه "أن المراد بقوله سبحانه { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } إياك نوحد ونخاف ونرجو"، ورواه عنه ايضا ابن ابي حاتم، وابن كثير يرى أن العبادة استكمال المحبة مع منتهى الخضوع والخوف، وابن تيميه يرى أن العباده الجمع بين المحبة والخضوع، ولجهابذة العلماء في العصر الحديث أنظار في مدلول لفظ العباده، فالإِمام أبو الأعلى المودودي يرى أن العبادة تتكون من عناصر، منها الإِذعان التام من العابد لعلو المعبود والنزول له عن حريته واستقلاله، وترك كل مقاومة وعصيان إزاءه والإِعتقاد بعلائه، والإِعتراف بعلو شأنه، وأن يكون قلبه مفعما بعواطف الشكر والإِمتنان على نعمه وأياديه بحيث يبالغ في تمجيده وتعظيمه، ويتفنن في إبداء الشكر على آلائه، وفي أداء شعائر العبدية له، ويرى العلامة المودودي أن هذا التصور لا ينضم إلى معاني العبدية إلا إذا كان العبد لا يخضع لسيده رأسه فحسب، بل يخضع معه قلبه أيضا، ويستمد السيد الموردودي نظرته هذه في تفسير العبادة من مدلول الكلمة اللغوي، فإن العربي بمجرد سماعه كلمة العبد والعبادة لا يتصور إلا العبديه والعُبودية، وبما أن وظيفة العبد الحقيقية هي طاعة سيده المطلقة فإن تصور الطاعة بمجرد ذكر العبد والعبادة أمر لا بد منه، وخلاصة رأيه في العبادة أنها خضوع الظاهر والباطن والانقياد المطلق من العابد للمعبود مع غمرة القلب بالشعور العبودي.
أما الأستاذ الشيخ محمد عبده فيرى أن العبادة شعور خاص في القلب يستلزم الخضوع المطلق والإِنقياد التام من العابد للمعبود وفي ذلك يقول: ما هي العبادة؟ يقولون هي الطاعة مع غاية الخضوع وما كل عبارة تمثل المعنى تمام التمثيل وتجليه للأفهام واضحا لا يقبل التأويل فكثيرا ما يفسرون الشيء ببعض لوازمه ويعرفون الحقيقة برسومها، بل يكتفون احيانا بالتعريف اللفظي، ويبينون الكلمة بما يقرب من معناها، ومن ذلك هذه العبارة التي شرحوا بها معنى العبادة، فإن فيها اجمالا وتساهلا واننا إذا تتبعنا آى القرآن وأساليب اللغة واستعمال العرب لعبد وما يماثلها ويقاربها في المعنى - كخضع وخنع واطاع وذل - نجد أنه لا شيء من هذه الألفاظ يضاهي عبد ويحل محلها ويقع موقعها.
ولذلك قالوا: إن لفظ العباد مأخوذ من العبادة فتكثر إضافته إلى الله تعالى ولفظ العبيد تكثر إضافته إلى غير الله تعالى لأنه مأخوذ من العبودية بمعنى الرق وفرق بين العبادة والعبودية بذلك المعنى، ومن هنا قال بعض العلماء إن العبادة لا تكون في اللغة إلا لله تعالى ولكن استعمال القرآن يخالفه.
يغلو العاشق في تعظيم معشسوقه والخضوع له غلوا كبيرا حتى يفنى هواه في هواه وتذوب إرادته في ارادته ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة، ويبالغ كثير من الناس في تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء فترى من خضوعهم لهم وتحريمهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين دع سائر العابدين، ولم يكن العرب يسمون شيئا من هذا الخضوع عبادة فما هي العبادة إذاً؟.
تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية، ناشىء عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به، ولكنها فوق إدراكه فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال إنه عبده وإن قبل موطىء أقدامه ما دام سبب الذل والخضوع معروفا وهو الخوف من ظلمه المعهود أو الرجاء لكرمه المحدود اللهم إلا بالنسبة إلى الذين يعتقدون أن للملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا لأنهم أطيب الناس عنصرا وأكرمهم جوهرا، وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد إلى الكفر والإِلحاد فاتخذوا الملوك آلهة وأربابا وعبدوهم عبادة حقيقية.
ويضيف الأستاذ إلى ذلك فيقول: للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرعت لتذكير الإِنسان بذلك الشعور بالسلطان الإِلهي الأعلى الذي هو روح العبادة وسرها ولكل عبادة من العبادات الصحيحة أثر في تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه والأثر إنما يكون عن ذلك الروح والشعور الذي قلنا إنه منشأ التعظيم والخضوع فإذا كانت صورة العبادة خالية من هذا المعنى لم تكن عبادة كما أن صورة الإِنسان وتمثاله ليس إنسانا خذ إليك عبادة الصلاة مثلا وانظر كيف أمر الله بإقامتها دون مجرد الإِتيان بها وإقامة الشيء هي الإِتيان به مقوما كاملا يصدر عن علته وتصدر عنه آثاره، وآثار الصلاة ونتائجها هي ما أنبأنا الله تعالى بها بقوله:
{ { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [العنكبوت: 45] وقوله عز وجل { { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ } [المعارج: 19- 22] وقد توعد الذين يأتون بصورة الصلاة من الحركات والألفاظ مع السهو عن معنى العبادة وسرها فيها المؤدى إلى غايتها بقوله: { { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ وَيَمْنَعُونَ ٱلْمَاعُونَ } [الماعون: 4- 7] فسماهم مصلين لأنهم أتوا بصورة الصلاة ووصفهم بالسهو عن الصلاة الحقيقية التي هي توجه القلب إلى الله تعالى المذكر بخشيته والمشعر للقلوب بعظم سلطانه ثم وصفهم بأثر هذا السهو وهو الرياء ومنع الماعون.
هذا كلام الأستاذ في العبادة، وهو يفيد أن معنى العبادة لا يتم إلا مع استشعار عظمة المعبود التي لا تكتنه، وقدرته التي لا تُحد، وهو صحيح بالنظر إلى العبادة الصحيحية الواجبة لله تعالى، ولكن لا يمنع أن يطلق اسم العباده على تعظيم أحد لغيره تعظيما يخرج به عن حدود استحقاق البشر، ويدل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أخبر عن أهل الكتاب أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله مع أنهم لم يكونوا يعتقدون لهؤلاء الأحبار والرهبان القدرة المطلقة التي لا تُحد، والعظمة الباهرة التي لا تكتنه، وروى الإِمام أحمد والترمذي وابن جرير عن عدي بن حاتم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو قوله سبحانه:
{ { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [التوبة: 31] - وكان امرأً قد تنصر - فقال له إنهم لم يعبدوهم، قال له: "بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم" فإذا كان اتباع الإِنسان على تحليله الحرام وتحريمه الحلال عبادة فما بالك بما يكون من مخلوق لمخلوق مثله من تعظيم لا يليق إلا بمقام الألوهية.
هذا والعبادة هي الغاية التي لأجلها خلق الإِنسان، قال تعالى:
{ { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] ومن هنا كانت فطرة كل إنسان داعية إليها لما تستشعره من الفراغ الروحي والخواء النفسي بدونها، ومن ثم كانت العبادة تلبية لنداء الفطرة الذي يجلجل من أعماق النفس الإِنسانية، وإنما الفطرة وحدها لا تستطيع أن تهتدي إلى العبادة الصًّحيحة ولذا فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه لتوجيه هذه الفطرة إلى الصراط المستقيم، وما من رسول إلا وكانت دعوته الأولى في قومه إلى إفراد الله تعالى بالعبادة { { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25] والعبادة الخالصة لله تعالى توائم بين حركتي الإِنسان الاختيارية والاضطرارية، فجسم الإِنسان تُعَد خلاياه بملايين الملايين، وكل هذه الخلايا تتحرك بحسب سنة الله فيها، فإذا انقاد هذا الإِنسان وأذعن لربه العظيم وعبده حق عبادته حصل الانسجام التام ما بين هذه الحركات الطبيعية في جسمه وحركته الاختيارية التي ينساق إليها مختارا طاعة لمولاه، ومن هنا نجد الإِمام المحقق سعيد بن خلفان الخليليرحمه الله يُعبر في إحدى قصائده النورانية عما يشعر به وهو يسبح لله سبحانه من تجاوب ألسنة لا تحصى فيه مع هذا التسبيح حيث يقول: -

أعاين تسبيحي بنور جنانيفأشهد منى ألف ألف لسان
وكل لسان أجتلي من لغاتهإذا ألف ألف من غريب أغان
ويُهدى إلى سمعي بكل لُغيةهدي ألف ألف من شتيت معان
وفي كل معنى ألف ألف عجيبةيقصر عن إحصائها الثقلان

ولا تقف عبادة الإِنسان عند هذا الحد بل توائم بين حركته وحركة كل شيء في هذا الكون الواسع الذي تسبح كل ذرة منه بحمد الله وتسجد خاضعة لجلاله، { { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44]، { { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ } [الحج: 18] ولذلك كانت عبادة الله الخالصة داعية للشعور بالانسجام مع الكون والألفة مع الوجود، فلا ينظر إليه العابد نظرة نفرة وعداء، وإنما ينظر إليه نظرة وئام ووداد.
أما إذا تجلى الإِنسان عن عبادة ربه فإنه يشعر بعداوة الكون وخصومة الطبيعة له، ولذلك تجد الغربيين الذين رانت على قلوبهم الجاهلية الحديثة ينظرون إلى الكون نظرة الخصومة والعداء، ويتجلى ذلك في عباراتهم، فكثيرا ما يرد على ألسنتهم وأقلامهم قهر الطبيعة وقسوتها، فإذا حقق أحدهم شيئا قالوا قهر الطبيعة أو تغلب عليها، وإذا أصيب أحدهم بمكروه قالوا قست الطبيعة عليه، أما المؤمن الذي يسبح بحمد الله ويسجد لكبريائه فهو لا يشعر بأية عداوة بينه وبين الطبيعة، وإنما يشعر بالألفة والمودة بينه وبينها لما يربطهما من الخضوع لله والتسبيح بحمده، ولما يتلوه على صفحاتها من آيات بينات تزيد إيمانه رسوخا ويقينه ثباتا، ومما يؤسف له أن تردد ألسنة تلامذة الغرب المنتسبين إلى الإِسلام هذه العبارات الوقحة بدون شعور بهاجس نفسي يؤنبهم على استعمالها، وهذا إن دل على شيء فهو دليل على ما أصاب قلوبهم من المسخ وبصائرهم من الطمس، وإذا كانت العبادة منشأ الألفة والوئام بين العابد وجميع الكائنات فإن ذلك يقتضي أن تكون العبادة أوسع مدلولا مما يظنه كثير من الناس من أنها منحصرة في الصلاة والزكاة والصوم والحج، وهذا هو الذى تدل عليه الآيات والأحاديث. أما الآيات فأرى أن أؤخر الكلام عليها إلى أن أصل إليها إن شاء الله في مواضعها، وأما الأحاديث فبحسبي أن أذكر مثالين منها:
1- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"في كل ذى كبد رطبة أجر" وهو دليل على أن الإِنسان يتقرب إلى الله سبحانه بالإِحسان حتى إلى البهيمة العجماء.
2- يقول عليه أفضل الصلاة والسلام
"في بضع أحدكم صدقة قيل له يا رسول الله أيصيب أحدنا شهوته ويؤجر؟ قال: أرأيت إن وضعها في حرام ألم يكن يؤزر قيل له بلى يا رسول الله قال: كذلك يؤجر إن وضعها في حلال" فانظر كيف يكون العَمل الفطرى الذي يبلى به الإِنسان داعي الغريزة عبادة يؤجر عليها إن أحسن توجيهه واستصحب معه حسن النية.
وبهذا يتضح أن العبادة تقتضى الخضوع المطلق لمنهاج الله فلا يحكم العابد إلاّ به ولا يحتكم إلا إليه ولذلك حكم الله على من لم يكن يحكم بما أنزل بالكفر والظلم والفسق حيث قال:
{ { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [المائدة: 44] وقال: { { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [المائدة: 45] وقال: { { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [المائدة: 47] وانكر على الذين يدعون الإِيمان وهم يتحاكمون إلى غير شرعه في قوله: { { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } [النساء: 60] ونفى الايمان عن كل من لم يحكم رسوله صلى الله عليه وسلم الناطق بوحيه المبلغ لأمره في قوله: { { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [النساء: 65].
والعبادة أسمى ما ينتسب إليه الانسان ولذلك وصف الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أعلى مقامات ذكره وهى صِنو العبادة فقد قال في معرض ذكر إنزال الكتاب عليه
{ { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ.. } [آل عمران: 7] وقال { { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [الكهف: 1] وقال: { { تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1] وقال في معرض الحديث عن إبلاغه الرسالة ودعائه الله { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } وقال في الحديث عن الإِسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذى ترتب عليه أن ينال من الإِكرام ما لم ينله أحد قبله: { { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } [الإسراء: 1] وهذا لأن عبادة الإِنسان لربه وعبوديته له تعنيان تحرير رقبته من الذل لسواه وتخليص قلبه من الخضوع لغير عزته، وقد غلا بعضهم فادعى أن العبودية أشرف من الرسالة حكى ذلك الفخر الرازى في تفسيره ولم يتعرض له بشيء، وحاصل ما احتج به هذا القائل أن الرسالة انصراف عن الحق إلى الخلق، والعبودية انصراف عن الخلق إلى الحق، والعبودية أيضا تجرد عن التصرفات، والرسالة تلبس بها، وهذه فلسفة باطلة لا يجوز لمن يؤمن بالله ورسله أن يقرها فالرسالة هى أشرف المقامات وأعلى الدرجات التي يوصل إليها بمحض اصطفاء الله تعالى ولا تنافي العبودية ولذلك وصف الله بهما أحب الناس إليه وأرفعهم عنده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليست الرسالة - كما قال - انصرافاً من الحق إلى الخلق وإنما هى اضطلاع بواجب أمانة الحق لابلاغها إلى الخلق، وإذا كانت تقتضي اشتغالا بالتصرفات فإن تلك التصرفات هى من أقرب القربات إلى المرسِل سبحانه فهى داخلة في حدود عبادته، وأعظم الدلائل على إخلاص العبودية له.
والفخر والألوسي قسما العبادة إلى ثلاث درجات تمشيا مع آراء كثير من العلماء:
الدرجة الأولى: أن تكون العبادة ابتغاء ثواب الله وخشية عقابه، وهى أضعف الدرجات وسماها الألوسي في تفسيره عبادة.
الدرجة الثانية: أن تكون لأجل نيل شرف بما فيها من التزلف إلى الله تعالى، وهى درجة متوسطة عندهم، وسماها الألوسي عبودية.
الدرجة الثالثة: أن تكون لذات الله مع غض النظر عن كل ما سواه وسماها الألوسي عبودية.
وفي هذا التصنيف نظر، إذ لا يستند إلى دليل من كتاب ولا سنة، وتعظيم الله سبحانه بالعبادة وإخلاصها لوجه لا ينافيان ابتغاء ثوابه والحذر من عقابه كما لا ينافيان الرغبة في نيل شرف عبادته عزَّ وجل، وللإِمام نور الدين السالميرحمه الله في معارجه بحث نفيس في هذه المسأله، ناقش فيه كلام هؤلاء الذين يقسمون العبادة من تلقاء أنفسهم أقساما، واستدل لرده بما جاء من الآيات التي تصف الأنبياء أنهم كانوا يعبدون الله رغبا ورهبا، كقوله سبحانه:
{ { كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } [الأنبياء: 90] وهي في معرض مدحهم والإِبانة عن علو قدرهم، ولا ريب أن الأنبياء أرسخ في العبادة قدما، وأسرع إلى كل خير سبقا من غيرهم، فلو كانت العبادة التي تكون بباعث الخوف والرجاء أضعف من غيرها لكانت عبادات الأنبياء غير مقرونة بهما على أن الخوف والرجاء هما السور المتين الذي يحوط أعمال البر كلها.
وكما تطالب الآية الكريمة الناس أن يفردوا الله سبحانه وتعالى بالعبادة تطالبهم بأن يفردوه بالاستعانة لأن القوة المطلقة لله وكل ما يحدث في الكون فهو بأمر الله وكما أن الله تعالى قد تفرد بخلق الكون فهو متفرد بتدبيره فلا معنى للتعلق بغيره، والقرآن الكريم جاء ليقرر هذه الحقيقة بكثير من الآيات التي تخاطب الناس بالبرهان وتضرب لهم الأمثال، منها قول الله سبحانه
{ { قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } [الرعد: 16] وقوله: { { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ } [الزمر: 38] ويبين لنا القرآن أن كل محاولة من المخلوقين لرد سراء أو ضراء كتبها الله لأحد أو عليه لا بد أن تبوء بالفشل الذريع { { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [فاطر: 2] { { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [يونس: 107] والنبي صلى الله عليه وسلم كان يربي أمته على هذه العقيدة القرآنية لتتحول إلى واقع ملموس في أحوال المؤمنين ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الشيخين "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" .
وهنا سؤال يفرض نفسه وهو أن الإِنسان كائن اجتماعي يشترك مع غيره في المصالح والمنافع ولا يمكنه الاستقلال عن سائر بني جنسه فهو بحاجة دائما إلى من يعينه فإذا مرض احتاج إلى الطبيب، وإذا أفلس احتاج إلى من يقرضه أو يتصدق عليه، وإذا اضطر إلى حمل شيء لا يطيقه احتاج إلى من يعينه عليه، وهكذا فكيف يمنع من الاستعاة بالناس؟ على أن القرآن نفسه يرشدنا إلى التعاون في قوله: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } [المائدة: 2] وأترك الإِجابة عن هذا السئوال لفيلسوف الإِسلام الإِمام محمد عبده وتلميذه السيد محمد رشيد رضا.
أما الإِمام محمد عبده فيجيب بما معناه: أن أعمال الناس تتوقف ثمراتها ونجاحها على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمة الإِلهية أن تكون مؤدية اليها وانتفاء الموانع التي جعلها الله بمقتضى حكمته حائلة دونها، والإِنسان بما اوتي من علم وقوة مكن الله له من كسب بعض الأسباب ودفع بعض الموانع ولكن حجب عنه البعض الآخر فيجب على الناس أن يقوموا بما فيه استطاعتهم من ذلك ويتقنوا أعمالهم بما في وسعهم وأن يتعاونوا ويساعد بعضهم بعضا ويفوضوا الأمر فيما وراء الكسب إلى القادر على كل شيء ويلجأوا إليه وحده طالبين منه المعونة المتممة للعمل والمؤدية إلى جناء ثمرته وليس لهم أن يتعلقوا بما وراء الاسباب إلا بمسببها سبحانه، ويتضح بهذا أن قوله تعالى: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } متمم لمعنى قوله { إِيَّاكَ نَعْبُد } لأن هذه الاستعانة هي فزع من القلب إلى الله وتعلق من النفس به وذلك من مخ العبادة، فإذا توجه بها العبد إلى غير الله كان ضربا من ضروب العبادة الوثنية التي انتشرت في زمن التنزيل وقبله، وخصت بالذكر لئلا يتوهم الجاهلون أن الاستعانة بالذين اتخذوهم أولياء من دون الله واستعانوا بهم فيما وراء الأسباب المكتسبة للناس هي كالاستعانة بسائر الناس في الأسباب العامة فأراد الله سبحانه أن يزيل هذا اللبس ببيان أن الاستعانة بالناس في حدود استطاعتهم ضرب من استعمال الأسباب المسنونة، وما مثلها إلا كمثل الآلات المستعملة فيما خصت به بخلاف الاستعانة بهم فيما وراء طاقاتهم البشرية كالاستعانة في شفاء المريض بما وراء الدواء، وعلى غلبة العدو بما وراء العدة والعدد فإن ذلك مما لا يجوز أن يكون إلا بالله تعالى الذي بيده الأسباب والمسببات وهو على كل شيء قدير، وضرب الإِمام محمد عبده مثلا لذلك: الزارع عندما يبذل جهده في الحرث والعذق وتسميد الأرض وريها فهو يمارس الوسائل المؤدية مع التوفيق إلى حصول المطلوب، ويستعين بالله تعالى على النجاح طالبا منه منع الآفات والجوائح السماوية والأرضية، ومثل بالتاجر الذي يحذق في اختيار الأصناف ويمهر في فن الترويج، ويتوكل على الله فيما وراء ذلك، وخلص الأستاذ الإِمام من هذا إلى تفنيد حالة الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم، وتيسير أمورهم وشفاء أمراضهم، ونماء حرثهم وزرعهم، وهلاك أعدائهم وغير ذلك من الأمور التي ليست في استطاعة الأحياء بله الأموات، وقال عنهم: إنهم عن صراط التوحيد ناكبون، وعن ذكر الله معرضون، واستخرج الأستاذ الإِمام من قول الله سبحانه: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فائدتين جليلتين قال فيهما: (هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة):
أولاهما: أن الإِنسان مطالب بالأعمال النافعة والاجتهاد في إتقانها ما استطاع، لأن طلب المعونة لا يكون إلا على عمل بذل فيه المرء طاقته فلم يوفه حقه أو يخشى أن لا ينجح فيه فيطلب المعونة على إتمامه وكماله.
فمن وقع من يده القلم على المكتب لا يطلب المعونة من أحد على إمساكه، أما من وقع تحت عبء ثقيل يعجز عن النهوض به وحده فهو جدير بطلب المعونة من غيره على رفعه ولكن بعد استفراغ القوة في الاستقلال به، ثم قال الأستاذ بعد هذا التحرير: وهذا الأمر هو مرقاه السعادة الدنيوية وركن من أركان السعادة الأخروية.
ثانيتهما: ما يفيده الحصر المستفاد من تقديم المعمول على العامل من وجوب تخصيص الاستعانة بالله وحده فيما وراء ذلك، قال: وهو روح التوحيد وكمال الدين الخالص الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلصها من رق الغيار، ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين والشيوخ الدجالين، ويطلق عزائمهم من قيد المهيمنين الكذّابين من الأحياء والميتين، فيكون المؤمن مع الناس حرا خالصا وسيدا كريما، ومع الله عبدا خاضعا
{ { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب: 71].
وأما السيد محمد رشيد رضا فيقول "إن عبادة الله تعالى هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لألوهيته، واستعانته هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لربوبيته، أما الأول فظاهر لأنه هو الإِله الحق فلا يعبد بحق سواه، وأما الثاني فلأنه هو المربي للعباد الذي وهب لهم جميع ما تكمل به تربيتهم الصورية المعنوية، قال: ومن هنا تعلم أن إيراد ذكر العبادة والاستعانة بعد ذكر اسم الجلالة الأعظم واسم الرب الأكرم إنما هو لترتبهما عليهما من قبيل ترتيب النشر على اللف، والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله وتحل محله، وهو كمال التوحيد والعبادة الخالصة، ولذلك جمع القرآن بينهما في مثل قوله تعالى:
{ { وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلأَمْرُ كُلُّهُ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود: 123] فهذه الاستعانة هى ثمرة التوحيد واختصاص الله تعالى بالعبادة، فإن من معنى العبادة الشعور بأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العامة الموهوبة من الله تعالى لعباده كافة هي لله وحده، كما تنطق به الآية التي استشهدنا بها آنفاً على قرن العبادة بالتوكل فمن كان موحدا خالصا لا يستعين بغير الله تعالى قط، فما كان من أنواع المعونة داخلا في حلقات سلسلة الأسباب كان طلبه بسببه طلبا من الله تعالى ولكنه يحتاج في تحقيق ذلك إلى قصد وملاحظة وشهود قلبى وما كان غير داخل فيها يتوجه في طلبه إلى الله تعالى بلا واسطة ولا حجاب.
قال: وبهذا البيان تعلم أن لا منافاة بين التوحيد والتوكل وبين الأخذ بالأسباب وإقامة سنن الله تعالى بل الكمال والأدب في الجمع بينهما، فالسيد المالك إذا نصب لعبيده وخدمه مائدة يأكلون منها غدوا وعشيا وجعلهم خدما يقومون بأمرها لا يكون طلب الطعام منه إلا بالاختلاف إلى المائدة، وإنما ينبغي أن لا يغفلوا بها وبخدمها عن ذكر صاحب الفضل الذي أنشاها بماله وسخر أولئك الخدم للآكلين عليها، ولا عن حمده وشكره، وهذا مثال مائدة الكون بأسبابه ومسبباته فالعبد إذا احتاج شيئا من الأشياء التي لم يجعلها سيده مبذولة لجميع عبيده في كل وقت طلبه منه دون سواه، فإن أظهر الحاجة إلى غيره كان ذلك من قلة ثقته بمولاه حيث جعل ذلك الغير في مرتبته أو أجدر منه بالفضل، قال: هذا في العبيد مع السادة الذين لهم نظراء وأنداد فكيف إذا كان العبد الذي يتوجه إلى غير مولاه لا يجد من يتوجه إليه سواه إلا أمثاله من العبيد المحتاجين إلى المولى مثله لأنه هو السيد الصمد الذي ليس له كفوا أحد، وأتبع ذلك قوله أن لفظ الاستعانة يشعر بأن يطلب العبد من الرب تعالى الإِعانة على شيء له فيه كسب ليعينه على القيام، به وفي هذا تكريم للإِنسان بجعل عمله أصلا في كل ما يحتاج إليه لإِتمام تربية نفسه وتزكيتها، وإرشاد له إلى أن ترك العمل والكسب ليس من سنة الفطرة، ولا من هدي الشريعة فمن تركه كان كسولا مذموما لا متوكلا محمودا، وتذكير له من جهة أخرى بضعفه لكيلا يغتر فيتوهم بأنه مستغن بكسبه عن عناية ربه فيكون من الهالكين في عاقبة أمره، هذا كلامه وهو ككلام أستاذه في إثبات كون الاستعانة بالله وعدم إشراك غيره فيها من لوازم الإِيمان ومقتضيات التوحيد، وإنما بين كلاميهما خلاف لفظي، فالأستاذ الإِمام يرى أن الاستعانة فيما كان داخلا في إطار الأسباب التي منحها الله عباده جائزة أن تكون بأولئك الذين أجرى الله الأسباب على أيديهم وعلى ذلك يحمل نحو قوله تعالى:
{ { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } [المائدة: 2] أما تلميذه السيد محمد رشيد رضا فهو ينظر إلى أن أولئك ليسوا مستقلين بالأسباب وإنما وهبهم الله تعالى من فضله التفوق فيها وسخرهم بحكمته لإِعانة المحتاجين إليها فالمستعين بهم إنما يستعين في الحقيقة بالله واهب الأسباب ومقدرها فيجب على المؤمن ألا يغفل عن هذه الحقيقة عندما يطلب من غيره قضاء حاجته.
هذا وقد يفهم من كلامه في الأسباب العَامة وقوله إنها موهوبة للناس كافة أنه يرى تكافؤ جميع الناس فيها، وهو أمر ترده المشاهدة فإن الناس متباينون في المواهب منهم من وهب حصافة الرأي، ومنهم من وهب قوة البدن ومنهم من وهب الحذق في أعمال خاصة وهذا لتكون حياة الناس قائمة على أسس الاجتماع ولو تساوى الناس في مواهبهم لاستغنى كل أحد بنفسه واستكفى بموهبته ولكن الله سبحانه يريد بذلك تذكير الناس بفقرهم واحتياجهم، لئلا يغتر إنسان بما أوتي فيدعي أنه أوتيه باستحقاق، فتجد الملك بحاجة إلى الحجام والقين والحداد والطباخ كحاجته إلى المستشارين والوزراء فسبحان الغني الذي تفرد بالعزة والكبرياء.
وبهذا الذي حررناه تدرك خطورة ما يصنعه كثير من الناس من التعلق بغير الله سبحانه في طلب الحاجات التي لم يجعل الله قضاءها بيد الناس والأعجب من ذلك أن يأتي أحدهم إلى ضريح طالبا من صاحبه الميت البالي أن يعينه على ما لا يستعان عليه إلا بالله، أو يأتي إلى صخرة صماء أو شجرة أو نهر أو أي شيء من هذا القبيل طالبا منه ذلك مع أن هذه الأشياء لا تسمع ولا تبصر ولا تحس ولا تعقل وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق منزلة وأعظمهم شأنا يقول له سبحانه في حياته:
{ { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } [الأعراف: 188] فما بالك بغيره صلى الله عليه وسلم بل ما بالك بالأموات والجمادات والنباتات هل من المعقول أن تلبي هذه الأشياء لأحد طلبا أو تسمع له دعاء أو تستجيب له نداء؟ وإنما ذلك شأن العقول إذا ضلت والأفكار إذا زاغت.
ولعمري ليس تفشي مثل هذه الضلالات في هذه الأمة إلا تصديقا لنبوة النبي الصادق صلى الله عليه وسلم حيث يقول كما ثبت في الصحيحين
"لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" وفي حديث أبي واقد الليثي عند الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها "ذات أنواط" يعلقون عليها أسلحتهم، فقيل له: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي: "سبحان الله هذا كما قال قوم موسى { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم" .
هذا وفي المقام مباحث:
الأول:- في تقديم العبادة على الاستعانة، ولأفكار العلماء تزاحم في استخراج حكمة ذلك وقد استظهروا وجوها:
أولها: أن العبادة أمانة كما قال تعالى:
{ { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } [الأحزاب: 72] لذلك كانت أجدر بالعناية، فقدمت.
ثانيها: أن إسناد المتكلم العبادة إلى نفسه يوهم التبجح والاعتداد بما صدرعنه، فكان جديرا بأن يُتْبع ما يدل على أن العبادة لا تتم إلا بمعونة وتوفيق من الله وهذا يستفاد من جملة { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.
ثالثها: أن العبادة قربة محضة إلى الله تعالى، أما الاستعانة فقد تكون لمنفعة عاجلة.
رابعها: أن العبادة مطلوبة لله تعالى من العباد، والاستعانة مطلوبة للعباد من الله، وتقديم ما كان لله أولى مما كان للعباد.
خامسها: أن العبادة في جملتها واجبة لله تعالى على العبد، ولذلك كانت هي الغاية من خلق الإِنس والجن، قال تعالى:
{ { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] أما الاستعانة فيختلف حكمها باختلاف حال المستعان عليه.
سادسها: أن العبادة أظهر مناسبة بذكر الجزاء فجيء بها بعده، والاستعانة أكثر التئاما مع طلب الهداية فجيء بها قبله.
سابعها: أن الاستعانة ثمرة للعبادة، فإن إخلاصَ العبادة لله يستلزم إفراده بالاستعانة، قال صاحب المنار: "ولا ينافي هذا أن العبادة نفسها مما يستعان عليه بالله تعالى ليوفق العابد للإِتيان بها على الوجه المرضي له عز وجل، لا منافاة بين الأمرين لأن الثمرة التي تخرج من الشجرة تكون حاوية للنواة التي تخرج منها شجرة أخرى، فالعبادة تكون سببا للمعونة من وجه، والمعونة تكون سببا للعبادة من وجه آخر، كذلك الأعمال تكون الأخلاق التي هي مناشيء الأعمال، فكل منها سبب ومسبّب، وعلة ومعلول، والجهة مختلفة فلا دور في المسألة".
ويرى ابن جرير أن الترابط الذي بين العبادة والاستعانة يقتضي جواز تقديم أي منهما على الآخر كما يجوز أن يُقال: قضيت حقي فأحسنت إليّ، أو أحسنت إليّ فقضيت حقي، ويُستفاد مما قاله أنه لا يرى ما يسوغ البحث في تقديم العبادة على الاستعانة.
الثاني:- في تقديم المعمول وهو { إياك } على العامل وهو { نعبد } و { نستعين }، وذكروا له وجوها:-
أولها: الدلالة على الحصر والاختصاص، ومن هنا فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلا نعبدُ غيرك، ويراد به التبرؤ عن الشرك والتعريض بالمشركين.
ثانيها: أن المتقدم في الوجود أحق بالتقدم في الذكر، فالله تعالى كان قبل كل موجود، ولذلك كان الأنسب تقديم ذكره عن ذكر عبادته.
ثالثها: أن في تقديم ذكره تعالى تنبيها للعابد من أول الأمر على أن المعبود هو الله، فيوقظ ذلك الهمة في نفسه ويقضي على الكسل والتواني.
الثالث:- في المجيء بصيغة الجمع دون الإِفراد في قوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وفيه أقوال:
أولها: أن العبد يحتقر نفسه في مقام الخطاب لله عز وجل، ويستقل عبادته بجانب ما لله تعالى من منة أسبغها عليه وحق يجب له تعالى على العبد، فيجدر به أن يخاطبه مع غيره وأن يوجه عبادته إليه مختلطة بعبادة العابدين.
ثانيها: أن الإِنسان مع خضوعه لأهل الدنيا وطلبه منهم ما يجدر طلبه من الله إن قال بمفرده إياك أعبد وإياك أستعين كان كاذبا، أما إن وجه الخطاب بصيغة الجمع الدالة على اشتراكه مع العابدين والمستعينين كان أبعد عن الكذب، لوجود من أخلص له العبادة وقصر الاستعانة عليه من بينهم.
ثالثها: أن صيغة الجمع أدعى إلى القبول والاستجابة من صيغة الإِفراد لأن المخاطب يحشر نفسه في زمرة المخاطبين، ولا يعتد بخطابه بنفسه، وذكروا أنّه مما يرشد إلى ذلك ما حكاه الله عن الذبيح إسماعيل عليه السلام من قوله:
{ { سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } [الصافات: 102] وما حكاه عن الكليم عليه السلام من قوله: { سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً } [الكهف: 69] وقد صبر الذبيح لتواضعه بعد نفسه واحداً من جمع، ولم يصبر الكليم لإِفراده نفسه مع أنهما قالا جميعا "إن شاء الله".
رابعها: أن الإِسلام دين وحدة واجتماع، وليس بدين تشتت وافتراق، ولأجل ذلك شرعت بعض العبادات تؤدي بطريقة جماعية لا على الانفراد، وفي المجيء بصيغة الجمع هنا في هذه السورة التي يجب على المسلم أن يكررها في كل ركعة من ركعات الصلاة التي هي أهم عبادة في الإِسلام تذكير بواجب الترابط بين المسلمين وإيقاظ لمشاعر الأخوة والمودة بينهم.
الرابع:- في تكرار { إِيَّاكَ } وفيه آراء:-
أولها: أنه للتنصيص على أن طلب العون منه تعالى فإنه لو قال: { إياك نعبد ونستعين } لاحتمل أن يكون إخبارا عن طلب العون من غير تعيين للجهة المطلوب منها.
ثانيها: أن العبادة هي قربة إلى الله تعالى ولو لم تكن مقرونة بالاستعانة، والاستعانة كذلك ولو لم تكن في حال العبادة، ولو أفرد ذكر الضمير لأوهم أنه لا يتقرب إليه إلا بالجمع بينهما.
ثالثها: أن في التكرار تعليما للناس بأن يجددوا ذكر الله عند كل حاجة تعن.
الخامس: في إطلاق الاستعانة وعدم تقييدها بمستعان فيه معين، وقد ذكروا لذلك نكته وهي قصد العموم لاحتمال دخول كل ما يستعان عليه، والفعل المثبت وإن كان له حكم الإِطلاق المخالف لحكم العموم في عدم احتوائه جميع أفراد مدلولات لفظه دفعة واحدة، فإنه بعدم تقييده يقضي باحتمال قصد أي فرد من أفراد تلك المدلولات، ومن جهابذة المفسرين من يرى أن الاستعانة هنا ليست على إطلاقها وإنما هي محصورة في العبادة، وممن جنح إلى هذه العلامة الزمخشري في كشافه حيث جعل الاستعانة مبهمة أوضحها قول الله تعالى فيما بعد: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فكأنما المستعينون سُئلوا من قبل العلي الأعلى: كيف أعينكم؟ فقالوا: إهدنا الصراط المستقيم.
واللائق بعقيدة التوحيد عموم الاستعانة في كل ما يطلب العون فيه وهذا لا يمنع أن تكون العبادات داخلة من باب الأولوية فيما يستعان فيه، وقد أسلفنا حديث ابن عباس رضي الله عنهما الدال على الاستعانة بالله شاملة لكل ما يُطلب فيه العون، وقد نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على طلب العون من الله في أداء العبادة، فقد أخذ يوما بيد معاذ رضى الله عنه وقال:
"والله إني لأحبك أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" .