خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
١٠
-البقرة

جواهر التفسير

ذكر العلامة ابن عاشور في تفسيره أن الآية استئناف محض لعدّ مساوئ المنافقين، وأجاز أن تكون استئنافا بيانيا لجواب سؤال متعجب مما سمع عن الأحوال التي وصفوا بها من قبل في قوله تعالى { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ }، فإن من يسمع أن طائفة تخادع الله وتخادع المؤمنين - وهم قوم عديدون - وتطمع أن خداعها يبلغها فيهم ما تريد، ولا تشعر بأن ضرر الخداع لاحق بها، يشعر بالعجب ويمتلئ بالاستغراب من شأن هذه الطائفة، وينشأ عن ذلك تساؤل منه كيف خطر ذلك بخواطرها؟ فجاء قوله في قلوبهم مرض بيانا منطويا على جواب هذا التساؤل، وهو أن قلوبهم انحرفت عن وضعها الطبيعي حتى بلغت إلى حد الأفن، ولهذا قدم الظرف وهو في قلوبهم، فإن في التقديم إيماء إلى الاهتمام وهي جديرة به، فإنها منشأ فكرة الخداع، ومن حيث أن المسؤول عنه ما نشأ عنها، كان انطواء الجواب على وصف حالها هو الأليق في مقام الخطاب.
والتعبير بالقلوب عن العقول معهود عند العرب كما تقدم، وتنكير مرض للدلالة على التعظيم.
والمرض: حالة تلم بالبدن فتخرجه عن اعتدال المزاج وصحة الأعضاء، وتؤدي بها إلى اختلال بعض وظائفها وأعمالها، وتعرض الألم لها، ويطلق على نفس الألم الذي هو أظهر آثاره، ويطلق على ما يلم بالنفس فيخل بكمالها ويخرج بها عن اعتدالها من الطبائع المذمومة والأخلاق الفاسدة، وهذا الاطلاق الأخير داخل في ضمن الاستعمال المجازي لهذا اللفظ بجامع أنه في استعماليه مؤد إلى الهلاك.
فالأمراض الجسمية مؤدية إلى هلاك الجسد وفوات المنفعة العاجلة، وهذا المرض النفسي مؤد إلى هلاك الروح وفوات المنفعة الآجلة، والبون بينهما كالبون بين قيمة الجسد والروح، وقدر الحياتين العاجلة والآجلة.
وفسر المرض هنا بالنفاق ابن عباس - رضي الله عنهما - كما رواه ابن جرير عنه. وأخرج عنه وعن ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم فسروه بالشك، وروى مثله عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد، وفي رواية عن عبدالرحمن قال هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد.
وهذه الأقوال وإن اختلفت ألفاظها فهي متحدة المعاني، فإن شأن المنافق أن يكون أسير شكه متخبطا في أوهامه، ولا ريب أن الشك ظلمة تخيم على العقل فتحيط به من جوانبه فلا ينفذ له نور إلى ما وراء المشاهدات المحسوسة، ولا يمتد له شعاع إلى ما خلف التكاليف من أسرار وحكم.
وإذا كانت العرب تطلق اسم المرض على الظلمة الحسية كما في قول الشاعر:

في ليلة مرضت من كل ناحية فما يحس بها نجم ولا قمر

فإن هذه الظلمة المعنوية التي تتراكم على العقل أجدر بهذا الاطلاق.
وإذا كانت للجسم وظائف لا يتوقف عنها إلا بإلمام المرض الجسدي به؛ فإن توقف العقل عن وظيفته التي هي اكتناه الحقائق، واكتشاف الأسرار من وراء المشاهدات لا ينتج إلا عن إلمام مرض خطير به، وهذا النوع من المرض لا يفقد العقل وظيفته فحسب، بل يجعل وظائف الحواس في حكم المعدوم أيضا لعدم الانتفاع بها، ولذلك يقول الله تعالى في المصابين بهذه الأمراض
{ { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } [الأعراف: 179].
ويرى الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده أن هذا النوع من المرض واقع فيه جميع أولئك الذين لا يتلقون العقيدة عن نظر وبصيرة، ولكن عن وراثة وتقليد، فإن إيمانهم لا يعدو أن يكون شكليا يجتثه أدنى ما يهب من العواصف، ويزلزله أقل ما يقع من الحركات، لأنه لم يطرق قلوبهم بقوة البرهان ولم يحل مذاقه منهم في الوجدان، فلا تصدر عنه تصرفاتهم في الأعمال لفقده قوة التأثير في نفوسهم.
وذكر أن علاج أمراض هؤلاء هو التمرن على الأعمال الصالحة عن فهم وإخلاص، حتى يحدث لقلوبهم الوجدان الصالح، وهذا لأن أهل اليقين يبعثهم يقينهم على العمل الصالح، وأهل التقليد يُلحقهم دؤوبُهم على صالحات الأعمال بأرباب اليقين في الانتفاع بإيمانهم، والفريق المعني بهذه الآيات، الموصوف بالكذب والخداع، قد فقد الأمرين معا، ولا صحة للقلوب إلا بهما، فمن فقدهما مرض، ولا يلبث مرضه أن يقتله.
ثم ذكر منشأ هذه العلة فقال: ولضعف العقل أسباب: منها ما هو فطري كما هو حال أهل البَلَه والعَتَه، وهو الذي لا يُكلَّف صاحبه ولا يلام.
ومنها ما يكون من فساد التربية العقلية كما هو حال المقلدين الذين لا يستعملون عقولهم، وإنما يكتفون بما عليه قومهم من التقاليد والعادات ولا يعتنون بما أمر الله به من تمزيق هذه الحجب، وإزالة هذه السحب للوقوف على ما وراءها من مخدرات العرفان، ونجوم الفرقان، وشموس الايمان، بل يكتفون بما حكى الله عنهم في قوله:
{ { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [الزخرف: 23]، حتى يجيء اليوم الذي يقولون فيه: { { رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ } [الأحزاب: 67].
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دلالة ظاهرة وتنبيه بيّن على خطورة هذا الصنف من المرض، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:
"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" ، فإن جميع منافع الجسد متوقفة على سلامة القلب من الأمراض، فإذا غشيته هذه الأدواء لم تلبث منافع البدن أن تتحول إلى مضار قاتلة، لأن الانحراف النفسي يأتي عليه فيحوله عن طبعه.
هذا وإذا كان جل المفسرين - من السلف والخلف - يرون أن هذا المرض معنوي، فإن طائفة خالفتهم في رأيهم هذا، حيث قالت: إنه كان مريضا حقيقيا ألّم بقلوب أولئك المنافقين مما يشاهدونه من انتشار الاسلام وسرعة أثره في النفوس، واكتساح تياره جميع العقائد الزائغة، والمبادىء الجاهلية الفاسدة، فكانت هذه المشاهدات تعتصر قلوبهم، وتضاعف همومهم، والحسد من شأنه أن يجر الأمراض إلى قلب صاحبه؛ لأن الحسود لا يقر له قرار، وقد كانوا يظنون بالاسلام أنه طفرة سوف تهدأ، وأن تياره عاصفة سوف تتوقف، وأن سوقه مهددة بالكساد، غير أن هذا الظن قد خاب عندما شاهدوه يحرز الانتصارات المتتابعة، ويلحق بأعدائه الهزائم المتلاحقة، ويغرز أعلام النصر في كل مكان، فكان ذلك منشأ ما ألّم بقلوبهم من الآلام.
وبعض المفسرين يرى أن جعل قلوبهم محل المرض من باب التعبير باسم المحل عن الحال، كما قال تعالى { واسأل القرية }، إذ المرض هو في معتقداتهم التي لابست عقولهم، ومازجت قلوبهم، فإنهم كانوا ينطوون على الشرك وإن أبدوا خلافه.
وذكر الامام ابن عاشور في تفسيره أن النفاق منشأ لثلاثة أنواع من أصول الأمراض النفسانية، وكل أصل منها تنشأ عنه مجموعة من الأمراض الفرعية.
أولها: الكذب القولي، والشاهد عليه من القرآن قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }، وقوله: { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }، وينشأ عنه الجهل، وإليه الاشارة بقوله تعالى: { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }، والغباوة، وإليه الاشارة بقوله { وما يشعرون }، ومن لازم هاتين العلتين قلة الذكاء، لأن الذكي يدرك أنه لو كذب على الناس فإن عقولهم لا تستسيغ كذبه، كما يعلم أن في الناس من هو مثله أو خير منه.
والكذب يعود فكر صاحبه الحقائق المحرفة، وإذا طال استرساله في ذلك اشتبهت عليه ولربما اعتقد ما اختلقه واقعا.
وينشأ كذلك عن هذين الداءين داء آخر وهو السَفَه، وهو خلل في الرأي وأفن في العقل، وإليه الاشارة بقوله تعالى { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ }.
كما يشير قوله سبحانه { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } إلى فساد الرأي الناتج عن السفه.
والجهل من نتائجه الكفر، وإليه الاشارة بقوله تعالى: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }.
والغباوة ينشأ عنها العجب والغرور ويشير إلى الأول قوله تعالى: { أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ }، وإلى الثاني قوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }.
ثانيها: الكذب الفعلي؛ وهو الخداع، والشاهد عليه قوله سبحانه: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا }، ويجر إلى أشياء، منها الفساد، وإليه الاشارة بقوله: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ }، وعداوة الناس، لأنهم عندما يشعرون بخداعه تتنكر له قلوبهم، وتستوحش منه نفوسهم، ومهما أظهر لهم من دلائل الاخلاص فإنهم لا ينفكون يتوجسون منه خيفة، وإلى ذلك يشير قوله تعالى حاكيا عنهم ما يلقون به شياطينهم: { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ }، وقوله في وصفهم: { لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ }، ومنها نكاية الناس به، لأن الفريقين يتفقان على التوقي منه والنكاية به، وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم }، وعاقبة ذلك كله أمران:
أحدهما: في الدنيا، وهو صيرورته هزأة للناس.
ثانيهما: في الآخرة، وهو العقاب، وإلى الأول الاشارة بقوله سبحانه: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ }؛ أي يجعلهم موضع الهزء، وإلى الثاني الاشارة بقوله: { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
ثالثها: الخوف؛ لأن الكذب والخداع إنما يصدران ممن يتوقى إظهار حقيقة أمره، وذلك لا يكون إلا لخوف ضر أو لخوف إخفاق سعي، وكلاهما مؤذن بقلة الشجاعة والثبات، والثقة بالنفس وبحسن السلوك، ويشير إلى هذه الخصلة قوله سبحانه فيهم:
{ { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ } [الحشر: 13].
وتتفرع عن الخوف أخلاق متنوعة منها اللؤم، ويشير إليه قوله تعالى: { ويقبضون أيديهم }، والعزلة عن الناس، وإليها الاشارة بخطابه تعالى لهم: { آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ }، والجبن؛ ويدل عليه قوله سبحانه فيهم: { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ }، وقوله: { لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ }، والتستر، وإليه الاشارة بقوله عز وجل: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ.. } (الآية).
ويتفرع عن اللؤم خون الأمانة والشاهد عليه قوله تعالى فيهم: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً }، ويتفرع عن العزلة جفاء الطبع، ويدل عليه قوله: { أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ }.
وتتفرع عن الجبن المذلة، وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى: { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }.
وينشأ عن التستر دوام الضلال وازدياد النقائص، ويشير الى الأول قوله تعالى: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }، وإلى الثاني قوله: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً }.
هذه أمراض النفاق التي استظهرها ابن عاشور ممن نزل في المنافقين من الآيات، وما اعتيد تلبسهم به من الصفات، وقد رتبها في جدول حسب ترتب نشوئها في رأيه - تقريبا لفهم المطالع وتيسيرا لاحاطة القارئ - مع ما قرنه بها من الآيات المومئة إليها، ولست أرتاب - كما لا يرتاب أحد - أن النفاق منطوٍ على هذه الأمراض كلها، بل وعلى أكثر منها، فهو مجمع كل رذيلة، ومنشأ كل فساد، وإنما أرى أن ابن عاشور تكلف في ترتيب نشوئها، فلو سردها سردا لكان أبعد عن التكلف.
كما أنني أرى أنه تجوز في حمل بعض الآيات على الاشارة إلى ما ذكره من هذه الأمراض، بل بعضها أقرب دلالة إلى ما لم يذكره من الصفات، فقوله تعالى - مثلا -: { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } أدل على البخل منه على اللؤم، وإنما دلالته على اللؤم من حيث أنه الأصل للبخل، إذ البخل لا ينشأ إلا عن لؤم الطبع وفساد الفطرة.
ومهما يكن فإن هذا الاستخراج مهم ومفيد في مجموعه، وبما أن النفاق يستر مساوئ صاحبه ويضفي عليها ثوبا مهلهلا من محاسن الأعمال والأقوال الظاهرة، كان مدعاة لنمو الرذائل وزيادة النقائص، لأنها تترعرع بعيدة عن أنظار المربين المصلحين، وتستمر في توالدها حتى تكون كل رذيلة منشأ لرذائل، وكل نقيصة محضنا لنقائص، فلذلك قال الله سبحانه: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً }.
النفاق سبب لزيادة المرض:
إن هذه الزيادة إنما هي نتيجة ما تلبسوا به من قبل، والشاهد عليه العطف بالفاء الموحية بالسببية، وإنما أسندت هذه الزيادة إلى الله لأنه خالق كل شيء، فالتوالد وأسبابه من مخلوقاته، وفي هذا الاسناد ما لا يخفى من التنبيه على خطورة الاسترسال في أعمال النفاق، والانطواء على أدواته الدفينة، فإن من شأن ذلك أن تزداد هذه الأمراض تمكنا في نفس المنافق حتى تستولي عليها وتكون كالشيء الجِبِلِّيِّ فيها، فلا يمكنه الفكاك عنها والتخلص منها.
ومن ناحية أخرى فإن أعمال المنافق داعية لغضب الله عليه وحرمانه من التوفيق ورميه بسهم الخذلان، فيظل بذلك منهمكا في غيّه، سادرا في غفلته، فيتعمق ضلاله ويستفحل داؤه، وفي ضمن هذا التنبيه على خطورة أدواء النفاق تحذير للمؤمنين من ملابسة المنافقين، ولعل في تنكير مرض في الموضعين ما يوحي بما تقدم، إذ ليس ببعيد أن يكون التنوين في الأول للاشعار بالتنويع والتكثير، وفي الثاني للاشعار باختلاف المرض المزيد على المزيد عليه.
وجملة { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } خبرية على الصحيح، معطوفة على قوله { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } حالّة محل الاستئناف للبيان، فلربما كان الحديث عنهم مدعاة للتساؤل عن سبب انهماكهم في الغي واسترسالهم في الفساد، وعدم إجداء الزواجر والنذر فيهم، فكان في هذه الجملة وفيما قبلها جواب عن ذلك يفيد أن حالتهم ناتجة عن مرض في قلوبهم يتضاعف بمرور الأيام تضاعفا مقدرا من الله فلا طمع في تخلصهم منه، وقيل هي جملة إنشائية أريد بها الدعاء عليهم نحو قول الشاعر:

تباعد عني فِطحَلٌ إذ دعوته أمين فزاد الله ما بيننا بعدا

والمراد بالدعاء هنا الايجاب، لأن الله القادر على كل شيء، المصرف لكل أمر يوجب ولا يدعو.
واعترض ذلك ابن عاشور بأنه خلاف الأصل في العطف بالفاء - يعني عطف الجملة الاعتراضية - وبأن تصدي القرآن لشتمهم ليس من دأبه، وبأن الدعاء عليهم بزيادة الغي ينافي ما عهد من الدعاء للضالّين بالهداية في نحو "اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون".
وللقائلين بأنها دعائية أن يدفعوا الاعتراض الأول بأن تصدير الجملة الاعتراضية بالفاء معهود عند العرب كما نص عليه صاحب التلويح، ومن شواهده قول الشاعر:

واعلم - فعلم المرءِ ينفعه - أن سوف يأتي كل ما قُدِّرَا

كما أن لهم أن يدفعوا الاعتراضين الأخيرين بقوله تعالى: { { ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم } [التوبة: 127]، وقد علمتَ أن الدعاء في كلام الله محمول على الايجاب فلا إشكال.
وفسر ابن مسعود وابن عباس وآخرون من الصحابة - رضوان الله عليهم - المرض الثاني بما فسروا به المرض الأول وهو الشك، وروي نحو ذلك عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة، وفسره عبدالرحمن بن زيد بن أسلم بالرجس، واستدل بقوله تعالى:
{ { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [التوبة: 125]، وفسر الرجس بالشر والضلالة، واستحسن تفسيره ابن كثير وعدّه من باب (الجزاء من جنس العمل)، ونظّره بقوله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [القتال: 17].
وهذا كله لا ينافي ما سبق تفصيله من الأمراض الخلقية الناشئة عن النفاق، فإنها جميعا من جنس الشر والضلالة ولا تتولد إلا في نفس خيّمت عليها ظلمات الشك، وقد ح مل ابن جرير تفسير السلف بزيادة الشك على ما يستجد من شكوكهم كلما نزلت آية، واستشهد له بقوله تعالى: { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }.
وأما على اعتبار المرض حقيقيا، فإن المراد بزيادته تضاعف همومهم، واكتظاظ صدورهم بالحسد الناشئ عن ظهور المؤمنين وارتفاع أعلام الدين وإقبال الناس عليه، وعلى هذا القول فإن إسناد الزيادة إلى الله حقيقي، لأنه هو الذي هيأ أسباب ظهور المؤمنين، ورفع مكانتهم بين العالمين، وأظهر دينهم على كل دين، فأمرض بذلك قلوب أعدائهم المنافقين.
وإنما قال سبحانه: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } ولم يقل "فزاد قلوبهم مرضا" مع قوله من قبل { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } الدال على أن القلوب هي وعاء هذا المرض، لأن مرض القلب مرض سائر الجسد كما يدل عليه حديث
"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله" ، أو لأن القلب من حيث إنه مصدر العواطف ومنبع الوجدان ومرتبط بالجنان كانت إنسانية الانسان لا تتحقق إلا به، فلذلك أعيد الضمير إليهم بدلا من إعادته إلى قلوبهم.
وبعد أن أخبر سبحانه بسوء حالهم في الدنيا بيّن شر مآلهم في الآخرة بقوله: { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }، وهو معطوف على قوله { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً }، وبهذا العطف تكمل فائدة البيان عنهم بما فيه من الاخبار عما ينتظرهم في الدار الآخرة نتيجة ما قدموه في الدنيا، وهل يحصد الانسان إلا ما زرع؟
وقد تقدم معنى العذاب، ووصفه هنا بأنه أليم لأجل تأكيد مدلوله، فإن العذاب لا يكون إلا أليما، ولكن يتفاوت ألمه بتفاوت قدره، والأليم بمعنى المؤلم كالبصير بمعنى المبصر، وزنة فعلهما جميعا أفعل، وذهب الزمخشري إلى أن { أليما } مأخوذ من أَلِمَ اللازم لا من آلم المتعدي، فهو فعيل بمعنى فاعل، وحمل وصف العذاب به على نحو تحية بينهم ضرب وجيع، وهذا على طريقة قولهم جدّ جِدّه، حيث أسند فيه الفعل إلى الجد - وهو مصدر - وحقيقته للجاد فإسناد الألم إلى العذاب وهو للمعذَّب، وإسناد الوجع إلى الضرب وهو للمضروب، كلاهما من هذا الباب، وتابع الزمخشري على رأيه هذا جماعة من المفسرين كالسيد الجرجاني وأبي السعود والقطب في الهيميان والتيسير.
والرأي الأول أبعد عن تكلف التأويل، على أنه حمل بعضهم (وجيع) في البيت على حقيقته وجعله بمعنى موجع على البناء للفاعل، ومجيء فعيل بمعنى مُفْعِل مشهور في كلام العرب، ومنه قول الشاعر:

أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع

وجاء في شعر ذي الرمة أليم بمعنى مؤلم في قوله:

ونرفع من صدور شمردلات يصك وجوهها وهج أليم

فإن كون الوهج أليما بمعنى مؤلم فيه مما لا يحتاج إلى بيان، وكذلك السميع بمعنى مُسمِع في البيت الذي قبله، إذ الداعي يوصف بأنه مُسمِع - على زنة اسم الفاعل - لا مُسمَع - على زنة اسم المفعول -، وبهذا يتضح لك أن إنكار الزمخشري في تفسير قوله تعالى { بَدِيعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ }، مجيء فعيل بمعنى مُفْعِل - على وزن اسم الفاعل - ليس بشيء، وقد تكلف تأويل بديع السماوات بمعنى مُبدَعة سماواته، وتابعه السيد وأبو السعود، إذ أحالا ما هنا على ما جاء في تفسير { بَدِيعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ }.
وأنت تدري أنه إذا جاز - ولو على بعد - حمل { بديع السماوات } على معنى مُبدَعة سماواته، فإن حمل حكيم على غير معنى مُحْكِم يكاد يكون متعذرا، وفي هذا ما يكفي دحضا لمقالة الزمخشري ومن تابعه بأن فعيلا لا يكون بمعنى مفعل بالكسر، وليت شعري ماذا عساهم يقولون في اتصاف الله بأنه بصير؟
ويؤيد الرأي الذي اخترته أنه قال به مفسرو السلف كالضحاك والربيع بن أنس، وعليه عول ابن جرير والقرطبي، وذكر ابن عاشور في تفسيره أن مجيء فعيل بمعنى مفعِل كثير في الكلام البليغ، وإنما اختلف في جواز القياس عليه، واختار أن منع القياس عليه للمولَّدين لم يُقصد منه إلا التباعد عن مخالفة القياس بدون داع لئلا يلتبس حال الجاهل بحال البليغ، وأنه لا مانع من تخريج الكلام الفصيح عليه.
وإذا كان هذا الوعيد هنا منصبا على المنافقين بسبب نفاقهم، فلا مانع أن يكونوا داخلين أيضا في عموم وعيد الكفار بقوله تعالى { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }، فإن المنافقين جمعوا بين الكبيرتين، الكفر وخداع المؤمنين، فكانوا أحرياء بالوعيدين، فلهم عذاب عظيم على كفرهم، ولهم عذاب أليم على خداعهم.
صحة قراءتي "يُكَذِّبون":
واختلف في قراءة "يكذبون" فحمزة والكسائي وعاصم قرأوها بالتخفيف من الكَذِبْ، ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر قرأوها بالتثقيل من التَّكذيب، وما أجدر المنافقين بوعيد الكاذبين والمكذبين لجمعهم بين صفتيهم واتصافهم بمساوئهم غير أن ابن جرير - كعادته في انتقاد ما لا يعجبه من القراءات - خطّأ قراءة التثقيل ظانّا أن الذين قرأوا بها لا يرون الكذب من غير تكذيب يوجب شيئا من العذاب فضلا عن كونه أليما، وأطال في الرد عليهم، واستدل لتصحيح قراءة التخفيف بأنها تتفق مع السياق، فإن قصة المنافقين صُدِّرت بقول الله عز وجل { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }، وهو دال على كذبهم، فالوعيد على ما سبق ذكره من الكذب أولى من أن يكون على التكذيب الذي لم يذكر، كما استدل لذلك بما وُصف به المنافقون من الكذب في غير هذه الآيات، كقوله سبحانه في سورتهم:
{ { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [المنافقون: 1 - 2]، وقوله في سورة المجادلة: { { ٱتَّخَذْوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [المجادلة: 16]، فإن ذلك كله يفيد اتصافهم بالكذب ووعيدهم عليه دون التكذيب.
ولا زلت أستغرب من جرأة ابن جرير على انتقاد ما تواتر من القراءات كأنها مجرد آراء لأصحابها، وليست روايات متواترة النقل عن المعصوم، على أن ابن جرير من أولي الخبرة في الروايات وما يتصل بها، فكيف سمحت له نفسه أن يخطّىء قراءة ثبت نقلها بالتواتر عن إمام الهداة وأفصح العرب وأعلم الخلق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس ما احتج به صالحا للاستناد عليه؟!
أما ما قاله من أن قراءة التثقيل لا تقتضي الوعيد إلا على التكذيب دون الكذب، فما هو إلا وهم اصطبغ به ذهنه فحال بينه وبين درك المراد، فإن الوعيد على الشيء لا يعني عدم الوعيد على غيره، والمنافقون متلبسون بالكذب والتكذيب، فلا غرو إذا تُوُعِدوا على الكذب تارة، وعلى التكذيب أخرى، وليس في وعيدهم على أحد الأمرين ما ينافي الوعيد على الآخر، وأنت إذا تدبرت لم تجد فارقا معنويا بين كذبهم وتكذيبهم، فإن دعواهم الايمان بألسنتهم محض كذب وخلو قلوبهم منه هو عين التكذيب بما يجب الايمان به.
وأما ما ذكره من اقتضاء السياق وعيدهم على الكذب الذي سبق ذكره لا على التكذيب الذي لم يكن له ذكر، وتعزيز ذلك بأن المنافقين وُصفوا بالكذب وتوعدوا عليه في سائر السور، فهو مدفوع بما علمت من أن كذبهم ينطوي على التكذيب، كيف والايمان نفسه أهم عناصر التصديق، بل هو حقيقته اللغوية؟ فقوله سبحانه { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }، يفيد أنهم من المكذبين، وكذلك رده عليهم في سورة المنافقون ما حكاه عنهم من قولهم { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ }، بقوله: { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }، يفيد أنهم مكذبون بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه، فأي غرابة مع ذلك إذا توعدوا على التكذيب.
وجوّز الزمخشري أن يكون المشدد دالا على ما يدل عليه المخفف مع المبالغة، كما يقال بيّن الشيء بمعنى بان، وصدّق بمعنى صدق، وموتت الإِبل بمعنى ماتت، كما جوّز أن يكون من كذّب الوحش إذا جرى ووقف لينظر ما وراءه، وتلك حالة المتحير كما هو شأن المنافق الذي دل عليه حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عند مسلم والنسائي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة" ، وزاد النسائي "لا تدري أيهما تتبع" ، ووافق الزمخشري على هذين التأويلين لقراءة التشديد السيد الجرجاني وأبو السعود والألوسي، ولست أرى ما يدعو إلى هذه التأويلات القاصية عن الأفهام مع وجود ما يغني عنها من المعنى القريب الذي يمكن أن تحمل عليه القراءة بدون تكلف.
عواقب الكذب وخيمة وهو مشتمل على الكفر:
ولعل تساؤلا يخطر لبعض الناس عن سبب توعدهم على الكذب دون الكفر مع أن الكفر بالله ورسله أكبر الكبائر، وأترك الإِجابة عنه لفيلسوف الإِسلام الإِمام محمد عبده حيث قال: "إن الكفر داخل في هذا الكذب، وإنما اختير لفظ الكذب في التعبير للتحذير عنه وبيان فظاعته وعظم جرمه، ولبيان أن الكفر من مشتملاته وينتهي إليه في غاياته، ولذلك حذر القرآن منه أشد التحذير، وتوعد عليه أسوأ الوعيد، وما فشا الكذب في قوم إلا فشت فيهم كل جريمة وكبيرة، لأنه ينشأ من دناءة النفس وضعف الحياء والمروءة، ومن كان كذلك لا يترك قبيحا إلا بالعجز عنه، نعوذ بالله تعالى من عمله ومنه".
وما أحرى الكذب بالوعيد، وما أجدره بالتحذير منه، فإنه عش الرذيلة، وسم الفضيلة، وديدن الأنذال، وشعار الفجار، ولذلك تجد التحذير منه والتنفير عنه في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم شديدا بالغا، من ذلك ما أخرجه الترمذي عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا كذب العبد تباعد عنه الملك ميلا من نتن ما جاء به" ، وأخرج أبو داود عن سفيان بن أسيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق وأنت له به كاذب" ، وأخرج مسلم وأبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع" ، وفي هذا ما لا يخفى على ذي بال من وجوب الحيطة في الحديث وعدم التسرع في نقل ما يسمع من الكلام؛ خشية الوقوف في الإِفك والإِسهام في نشره.
وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم مما يدور في مجالس التسلية عند عوام الناس من أحاديث لا أصل لها، لقصد الإِبداع في النكتة وإثارة استغراب السامعين وحملهم على الضحك، فقد أخرج أبو داود والترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"ويل للذي يحدّث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له" ، ونفى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المؤمن صفة الكذب، فقد أخرج مالك في الموطأ عن صفوان بن سليم - رضي الله عنه -، قال: "قلنا يا رسول الله؛ أيكون المؤمن جبانا؟ قال: نعم، قيل له: أيكون بخيلا؟ قال: نعم. قيل: أيكون كذابا؟ قال: لا" ، ذلك لأن الجبن خلقة جبلية في الجبان، فلذلك لم يناف الايمان، وحب المال أمر مركوز في نفس البخيل غير أن الإِيمان يُغَلِّبه على هذا الطبع، فلا يحول بينه وبين إيتاء الزكاة، وأداء سائر الواجبات المالية، أما الكذب فإنه ينشأ عن اختيار صاحبه، وتعويد لسانه عليه، فلذلك لم يكن يجامع الايمان، وجاء في حديث مرفوع عند أحمد وغيره "يُطبع المؤمن على جميع الخلال ليس الخيانة والكذب" ، وقد تقدم ما يدل على أن الكذب من خصال النفاق وصفات المنافق في الأحاديث التي أوردناها عن ابن مسعود وأبي هريرة وعبدالله بن عمرو بن العاص في علامة المنافق وخصال النفاق.
والكذب إذا اعتاده الانسان لم يلبث أن يتحول إلى سجية لا ينفك عنها، كما هو شأن الكذابين الذين خبرناهم وعرفنا عنهم الكثير من مساوئ الأعمال وقبائح الخصال، وهو الذي يعنيه حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - الذي رواه الشيخان من طريقه مرفوعا:
"إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صدّيقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا" .
وقد جاء وعيد الكذابين في أحاديث متعددة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حديث رؤيا منامه صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان الكذب لا ينشأ إلا عن فساد الفطرة، فإنه لا يجد له مناخا إلا في البيئة التي تسودها الرذيلة وتتقلص منها الفضيلة، وفي مثلها لا يكاد الانسان يثق بمحدث ولا يطمئن إلى حديث، بخلاف بيئة المؤمنين الصالحين، ففيها يطمئن الانسان إلى الحديث ويرتاح إليه، ويثق بمحدثه ويعول عليه.
تعريف الكذب:
وقبل أن أغادر هذا الموضوع أرى من الملائم أن أكمل الفائدة بذكر بعض ما قيل في تعريف الكذب:
فهو عند الجمهور الإِخبار عن الشيء بخلاف الواقع، وبناء على هذا الرأي فإن الكذب الملوم عليه هو ما صدر عن قصد ويمكن الخطأ فيه، وهو عند النظام الإِخبار عن الشيء بخلاف معتقد القائل فيه، وعند الجاحظ ما خالف الواقع والاعتقاد.
سبب إمهال الرسول صلى الله عليه وسلم المنافقين:
هذا وقد يتساءل من يسمع قصة المنافقين ومعاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم عن السبب في إمهالهم وترك قتلهم مع ظهور أمرهم وانكشاف سرهم بشواهد حالهم، وما كان ينزل فيهم من آيات القرآن شارحا لأحوالهم ومشيرا إلى ما يشخصهم من الصفات؟ وقد أجيب عن هذا التساؤل بأربعة أجوبة:
أولها: أن حالهم لم يكن مكشوفا لعامة الناس، وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده يعرف حقيقة أمرهم، وليس للحاكم أن يقتل بعلمه باتفاق، وإن أجاز له بعض العلماء الحكم بعلمه فيما دون القتل، واعترض هذا الجواب ابن العربي في أحكام القرآن بأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل الحارث بن سويد بن الصامت لقتله المجذر بن زياد غيلة يوم أحد لأن المجذر قتل أباه سويدا يوم بعاث، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بأمره فقتله به، ورد القرطبي هذا الاعتراض بأن الإِجماع إن ثبت لا يَنْقُضُهُ ما ذكر فإن انعقاد الإِجماع لا يكون إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، ولا يبعد أن تكون هذه القضية واقعة حال أو منسوخة بالإِجماع.
ثانيها: أن ترك قتلهم لأن الزنديق - وهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإِيمان - يستتاب ولا يقتل، أجاب به بعض أصحاب الشافعي، ووهّنه ابن العربي بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستتبهم إذ لم يرو ذلك أحد عنه، وكان يعرض عنهم ولا يتعرض لهم مع علمه بهم.
ثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم كف عنهم رعاية لمصلحة الأمة والدين، فقد كان يخشى لو تعرض لهم أن ينفر عنه قلوبا هو أحوج إلى تأليفها، وإلى ذلك يشير جوابه صلى الله عليه وسلم لعمر - رضي الله عنه - حيث قال له:
"معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي" رواه الشيخان. ومثل ذلك إعطاؤه صلى الله عليه وسلم للمؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم، ونسب هذه الاجابة القرطبي إلى علماء المالكية، وبمثله يوحي كلام ابن عطية، وذكر أنه ممن نص على ذلك من أصحاب مالك محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وابن الماجشون، واستُدِلّ لذلك بقوله تعالى: { { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } [الأحزاب: 60 - 61]، فإن ذلك منوط بإعلانهم النفاق كما قال قتادة.
وهذا ينافي ما روي عن مالك وبعض المالكية أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه، إذ لم يُشهد على المنافقين، وهذا يتفق مع الجواب الأول.
وذكر القاضي إسماعيل أن عبدالله بن أبيّ لم يشهد عليه إلا زيد بن أرقم، وكذلك لم يشهد على الجُلاس بن سويد إلا ربيبه عمير بن سعد، ولو شهد على أحدهما رجلان بكفره ونفاقه لقتل، وروي عن مالك: "النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم، فيُقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة" وهو أحد قولي الشافعي.
واحتج الشافعي للقول الآخر بأن السنة فيمن شُهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن الايمان وتبرأ من كل دين سوى الاسلام أن ذلك يمنع من إراقة دمه، فإن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين لما كانوا يظهرونه من الاسلام مع العلم بنفاقهم لأن ما يظهرونه يَجُبُّ ما قبله، وبهذا القول قال أصحاب الرأي وأحمد والطبري وآخرون.
ولا يُسلم للشافعي أن السنة فيمن شهد عليه بالنفاق فتبرأ مما نُسب إليه أن يمسك عن قتله لأن المنافقين في عهده صلى الله عليه وسلم كانوا محتاطين لأنفسهم فلا يبوحون بما يقطع بكفرهم عند من تقوم عليهم بهم الحجة من المؤمنين، وإن استُدل على طواياهم بفلتات ألسنتهم وقرائن أحوالهم، فليس في ذلك ما يعد بينة يصح بها القتل.
واستدل الطبري لما ذهبوا إليه بتكذيب الله تعالى ظواهر المنافقين في قوله: { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }، وتعقبه ابن عطيه بأن للمالكية أن ينفصلوا عما ألزموا بهذه الآية بأنها لم تعين أشخاصهم، وإنما توبيخها يشمل كل مغموص عليه بالنفاق، وبقي لكل واحد منهم أن يتخلص بدعوى أنه لم يُرَد بها وأنه مؤمن، ولو عُيِّن أحد لما جبّ كذبه شيئا، وتعقب القرطبي هذا التعقب بأن هذا الانفصال فيه نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أو يعلم كثيرا منهم بأسمائهم وأعيانهم بإعلام الله تعالى إياه، وكان حذيفة - رضي الله عنه - يعلم ذلك بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم له، حتى أن عمر - رضي الله تعالى عنه - كان يشفق أن يكون منهم، فيقول له: يا حذيفة؛ هل أنا منهم؟ فيقول له: لا.
هذا وقد سبق ما يدلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحيط علما بجميع المنافقين، وإنما يعرف بعضهم بإخبار الله عنهم أو بتشخيص الوحي لأحوالهم.
رابعها: أن ترك قتلهم للأمن من شرهم، فإن الله قد حفظ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من إفساد المنافقين دينهم، بخلاف الأجيال التي جاءت من بعدهم فلا يؤمن عليها من شر أهل النفاق ومكائدهم.
وفي هذا الجواب نظر لا يخفى على من أمعن في آي القرآن، ودرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكم حاول المنافقون أن يثبطوا المؤمنين عن الجهاد، ويشيعوا فيهم روح الهزيمة، كما هو واضح فيما نزل في غزوة أحد من سورة آل عمران، وما نزل في غزوة تبوك من سورة التوبة، وبهذا يتضح أن أولى الأجوبة بالصواب هو الجواب الأول، ولا يمنع ذلك أن تضم إليه حكمة مراعاة المصلحة بتأليف القلوب، وتجنب ما ينفرها كما ذكر في الجواب الثالث.