خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
٢
-البقرة

جواهر التفسير

{ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }
ذا من أسماء الإِشارة، يشار بها إلى القريب والبعيد، فإن كان المشار إليه قريبا جردت أو اقترنت بها المفيدة للتنبيه، وإن كان بعيدا اقترنت بالكاف الدالة على الخطاب، وتأتي تارة مع اللام في قولك (ذلك)، وأخرى بدونها في قولك (ذاك).
عِظَم قدر القرآن ودلالاته:
والمشار إليه هنا الكتاب المرموز إليه بـ { ألم } لأن هذه الكلمات - كما تقدم - تدل على بعض الحروف التي تركب منها، ومجيء الإِشارة بالصيغة الدالة على البعد مع قرب المشار إليه محمولة على التنويه به، وبعظم قدره وعلو شأنه، كما قال تعالى عن نفسه: { ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }، ومثله وارد في فصيح الكلام العربي كقول خفاف بن ندبة السلمي:

فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عين تيممت مالكا
أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكا

فإنه عدل عن قوله أنا هذا لما ذكرناه من النكتة وهي بيان رفعة شأنه وعلو قدره، ومن هنا قال ابن عباس وابن جريج ومجاهد وعكرمة والسدي - فيما رواه عنهم ابن جرير -: المراد بذلك الكتاب؛ هذا الكتاب. وروي مثله عن أبي عبيدة، وقال جماعة: لا داعي إلى هذا التأويل الذي يخرج بكلمة ذلك عن أصل مدلولها. واختلف هؤلاء في المشار إليه على أقوال:
أولها: أنه الكتاب الذي كتبه الله على خلقه، فيه ذكر سعادتهم وشقاوتهم وآجالهم وأرزاقهم، والمراد بكونه لا ريب فيه، لا مبدل له.
ثانيها: أنه الكتاب الذي كتبه الله على نفسه في الأزل، أن رحمته سبقت غضبه، كما جاء في حديث أبي هريرة عند مسلم، وهذان القولان من الضعف بمكان، وإخباره تعالى عن الكتاب بأنه هدى للمتقين كاف في إبطالهما.
ثالثها: أنه الكتاب الذي وعد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو المعني في حديث عياض بن حمار المجاشعي عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان . . إلى آخره" .
رابعها: أن المشار إليه ما نزل من القرآن بمكة؛ لأن البقرة أول القرآن نزولا بعد الهجرة.
خامسها: أنه القول الموعود به في قوله عز وجل:
{ { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [المزمل: 5] وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يستشرف لانزال هذا الوعد من ربه، فلما نزلت فاتحة البقرة بالمدينة كان المراد بذلك الكتاب ما وعد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم بمكة أن يوحيه إليه، وهذا القول والقول الثالث ينبعان من نبع واحد.
سادسها: أن الاشارة إلى ما في التوراة والانجيل و{ ألم } اسم للقرآن، والمراد أن هذا القرآن هو ذلك الكتاب الذي دلت عليه التوراة والانجيل، فهما يشهدان بصحته وهو يستغرق ما فيهما ويزيد عليهما.
سابعها: أن الاشارة إلى نفس التوراة والانجيل، والمراد ما ذكر من قبل أن القرآن مستوعب لما فيهما، فكأنه هو عينهما، وهو مروي عن عكرمة ورده الألوسي وما أحراه بالرد.
ثامنها: أن المشار إليه ما بقي في اللوح المحفوظ من القرآن غير نازل عند نزول الآية.
تاسعها: أنه الكتاب الذي وعد الله به أهل الكتاب أن ينزله على خاتم النبيين.
عاشرها: أنه الكتاب الذي كانوا يستفتحون به على الذين كفروا.
وذكر أبو حيان عن شيخه أبي جعفر بن إبراهيم بن الزبير أنه كان يقول: ذلك إشارة إلى الصراط في قوله: { اهدنا الصراط } كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب، ثم قال أبو حيان إثر ذلك وبهذا الذي ذكره الأستاذ تبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد. وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره لا إلى شيء لم يجر له ذكر. اهـ.
وما أبعد هذا القول عن التحقيق، وأدناه إلى الهذيان، وإذا تأملت هذه الأقوال الاحدى عشر المبنية على أن المشار إليه بذلك بعيد، وجدتها جميعا ملتبسة بأنواع التكلفات التي يجدر بالمفسر أن لا يحمل عليها أفصح الكلام وأبلغه، وإن تعجب فعجب أن يأبى هؤلاء إخراج { ذلك } عن الاشارة بها إلى البعيد واللجوء إلى مثل هذه التأويلات التي لا تستند إلى حجة، على أن تعاقب أداتي الاشارة إلى القريب وإلى البعيد لا يخفى على من تأمل آيات الكتاب وتتبع الفصيح من كلام العرب، وثم وجه آخر وهو أن الكلام الذي تقضى له حكم البعيد وإن قرب عهده، كما حرره صاحب الكشاف، وبما أن فاتحة السورة وصلت من المرسل إلى المرسل إليه، كان لها حكم البعد، فصح أن تقع إشارته عليها، ونحوه قوله عز وجل:
{ { لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ } [البقرة: 68] فالاشارة إلى فارض وبكر، وإنما أُشير إليهما بصيغة البعد لتقضي ذكرهما، ومثله { { ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ } [يوسف: 37].
وذُكِّر اسم الاشارة مراعاة لتذكير الكتاب سواء كان الكتاب خبرا أم بدلا، فإن اعتبر خبرا فهذه المراعاة واضحة لشيوع اعتبار أحوال الأخبار في التذكير والتأنيث والافراد والجمع، كقول امرىء القيس:

وبدلت قرحا داميا بعد صحة فيالك من نعمى تحولن أبؤسا

فالضمير في تحولن عائد إلى نعمى، وإنما جمع مراعاة للخبر وهو أبؤس، وإن عد بدلا فالتذكير أوضح لأن الاشارة واقعة على الكتاب.
وعلى الأول فالتعريف للجنس، ويستفاد من التركيب قصر حقيقة الكتاب على القرآن لما فيه من تعريف المسند والمسند إليه، وهو داخل فيما يسمى بالقصر الإِدعائي، ويراد أنه الكتاب الجامع للصفات الكمالية في جنس الكتب، حتى صار ما عداه بجانبه في حكم العدم، ومثله شائع في الكلام العربي كقولهم: محمد هو الرجل. ويراد به أنه اجتمعت فيه صفات الرجولة حتى كأن من عداه لم يَعُد لهم شيء منها، ومن هذا الباب قول الشاعر:

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد

وما أجدر هذا الكتاب - الذي جمع ما تفرق من الهدايات، وتجددت في كل عصر آياته، وتجلت في كل طور مزاياه، وبقي دون غيره محفوظا من أيدي العابثين، وكيد المغرضين - أن يُعَد وحده الحقيق باسم الكتاب، لا سيما وأن الرجوع إلى غيره من الكتب لا يصح بعد إنزاله، فقد اختفت مشاعلها جميعا ببزوغ شمسه، وانطوت آياتها بانتشار آيته، مع ما أصيبت به من تحريف الأيدي العابثة، وإدخال أصحاب الأهواء والأغراض ما أرادوا فيها.
وعلى الثاني؛ فالتعريف للعهد ويراد به الكتاب المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، المرموز إليه بفاتحة هذه السورة، ولا يضير كونه لم يكتمل إنزاله عند ما نزلت الآية لأن للبعض حكم الكل، وما نزل قبلها جانب عظيم منه، فإن أغلبه كان نزوله بمكة، ومع ذلك يمكن أن تكون في هذا التعبير إشارة لطيفة إلى أن الله تعالى سينجز وعده لرسول الله صلى الله عليه وسلم بإنزال جميع الكتاب عليه.
والكتاب بمعنى المكتوب، وهذا الوزن شائع فيما هو بمعنى المفعول، كلباس بمعنى الملبوس، وإله بمعنى المألوه، وعماد بمعنى المعمود به، وحروفه دالة على الجمع والضم، ومنه الكتيبة فإنها تجمع شتات المقاتلين، والكتاب يجمع حروفا وكلمات، والقرآن الكريم جامع لسور، وسوره جامعة لآيات وجمل ومفردات وحروف، فمن ثم صدق عليه معنى الكتاب، وفي هذه التسمية إيماء إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته، وهو موحٍ بوجوب تدوينه لحفظه من الذهاب، وصونه عن النسيان، ولأجل هذا قال العلماء: إن كتابة القرآن فرض كفاية على المسلمين.
و(الريب): الشك. روي ذلك عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه عنه ابن جرير والحاكم وصححه، وأخرج مثله ابن اسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وروى أحمد في الزهد وابن أبي حاتم نحوه عن أبي الدرداء، ومثله عن قتادة عند عبد بن حميد وعن مجاهد وعطاء والسدي والربيع بن أنس عند ابن جرير، ويعضده إطلاق العرب الريب على الشك كقول عبدالله بن الزَّبَعْرَى:

ليس في الحق يا أميمة ريب إنما الريب ما يقول الجهول

ويطلقونه على التهمة كقول جميل:

بثينة قالت يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب

وأصله القلق واضطراب النفس، فإن الشك من لازمة الاضطراب وعدم الارتياح، ومنه حديث "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ، وقيل إن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة، فإن الأمر متى كان مشكوكا فيه كان مصدرا للقلق وعدم الاستقرار، ومتى كان صدقا ظاهرا اطمأنت إليه النفس وسكنت، ولأجل ذلك قيل: ريب الزمان في نوائبه، لأنها مزعجة للنفس مقلقة للقلب.
ومن العلماء من يفرق بين الريب والشك، فبعضهم يقول: الريب هو الشك مع التهمة، وهو يعني أن الريب أعمق من الشك. وقال الراغب: إن الشك وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر، والريب التوهم في الشيء، ثم انكشافه عما توهم فيه، وأضاف إلى ذلك التفرقة بينهما وبين المرية، فقال عن المرية: هي التردد في المتقابلين. وطلب الامارة مأخوذة من مرى الضرع إذا مسحه للدر. وقال الجولي: الشك ما استوى فيه الاعتقادان أو لم يستويا، ولكن لم ينته أحدهما لدرجة الظهور الذي تنبني عليه الأمور، والريب ما لم يبلغ درجة اليقين وإن ظهر نوع ظهور.
مقاصد القرآن الكريم:
والكتاب العزيز ليس موضعا لريب، فإن مقاصده ظاهرة، ومعانيه ناصعة، وآياته ساطعة، فلا يخامر العقل السليم شك في أنه من عند الله، وأنه مصدر هداية الناس، ومنبع سعادتهم، وبهذا يندفع ما عسى أن يقال إن كثيرا من الناس مرتابون فيه غير مطمئنين إلى صدقه، فكيف ينفى الريب عنه لا سيما وأن المكذبين به والمعرضين عنه أكثر من الذين صدقوا به واتبعوه؟ ويؤكد ما ذكرناه في المراد بنفي الريب أن الله عز وجل وجه الخطاب إلى المرتابين فيه بقوله:
{ { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [البقرة: 23]، حيث أتى بإن الشرطية المستعملة في الشك دون إذا المستعملة في اليقين، وذلك أن الكتاب ليس مظنة للريب، فلو خامرهم منه شيء لضعف عقولهم وغلبة الهوى عليها فعليهم أن يستعرضوا ملكاتهم البيانية ويختبروا طاقاتهم، هل بإمكانهم أن يأتوا بسورة من مثله؟ ولو استنفدوا قواهم واستظهروا بنصرائهم، مع كونهم فرسان البيان الذين لا يركب في أثرهم، وقد أنزل القرآن على أمي نشأ بين ظهرانيهم، وقد اكتشفوا عاداته، ودرسوا سيرته، واكتشفوا سريرته، ولم يعرفوا منه في عنفوان شبابه طموحا إلى الظهور وتطلعا إلى مباراتهم في مضمار البيان.
وهذا التركيب يفيد نفي الريب عن القرآن من غير تعرض لإِثباته أو نفيه عن غيره، فلذلك لم يقل: لا فيه ريب كما قال في خمر الجنة:
{ { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [الصافات: 47] تعريضا بخمور الدنيا التي تغتال العقول، أفاد ذلك الزمخشري وهو واضح لمن درس قواعد البلاغة وفهم مقاصد البلغاء وإن أنكره أبو حيان.
والجمهور قرأوا بنصب ريب بلا النافية للجنس، وهي قراءة تنص على نفي كل فرد من أفراد الريب، ولذلك قالوا إنها توجب الاستغراق، وذكر عن أبي الشعثاء سليم بن أسود المحاربي أنه قرأ بالرفع، وهي محتملة لنفي الجنس، أو نفي فرد من أفراده، فلذلك قالوا إنها تجوِّز الاستغراق، وقراءة الجمهور أبلغ، وعليها الاعتماد في الصلاة وغيرها بخلاف الأخرى لشذوذها.
والوقف على { فيه } لا على { ريب } عند الأكثر، لارتباط فيه بالجملة، وروي عن نافع وعاصم أنهما وقفا على { لا ريب } وربطا { فيه } بالجملة الثانية، وقراءتهما تقتضي تقدير خبر لِلاَ كما في قوله تعالى:
{ { قَالُواْ لاَ ضَيْرَ } [الشعراء: 50]، وقول العرب لا بأس، وتقديره فيه. { فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }، واعتمد ذلك القرطبي حيث فصل { فيه } عن جملة لا ريب وربطها بقوله { هدى للمتقين } وأبى ذلك أكثر المفسرين، لأن اعتبار الكتاب بأن نفسه هدى أبلغ من اعتباره منطويا على الهدى، كما أن ما في سورة السجدة وهو قوله تعالى: { { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [السجدة: 6] يتفق مع قراءة الجمهور وتفسيرهم.
{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }
القرآن هداية للمتقين:
بدأ سبحانه بنفي الريب عن كتابه ليكون ذلك كالتقعيد لإِثبات هدايته، لأن ما حام حوله الريب لا يصلح لأن يكون هاديا، وثنى على ذلك بإثبات أنه هدى للمتقين، وهو من باب قولهم التخلية قبل التحلية، وما جانبه الريب جدير أن يكون هدى، إذ الهدى لظهوره ونصوع دلالته لا يبقى معه شيء من الريب، وهو مصدر هَدَى، كالسرى والتقى والبكى بالقصر في لغة، وقد سبق في تفسير الفاتحة تفصيل معناه وشرح أقسامه، وبقي أن أضيف إلى ما تقدم أنه لا خلاف في كون هذه الكلمة تفيد الدلالة، وإنما الخلاف في كون هذه الدلالة موصِّلة إلى البغية أولا، فالزمخشري يرى أنها موصِّلة ويستدل لذلك بثلاثة أوجه:
أولها: وقوع الضلال مقابلا للهدى في قوله تعالى:
{ { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [البقرة: 16]، وقوله: { { لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [سبأ: 24]، والضلالة هي الخيبة وعدم الوصول إلى المطلوب، فلو لم يعتبر الوصول في الهدى لم يجز التقابل بينهما لإِمكان اجتماعهما.
ثانيها: أن كلمة مهدي تفيد المدح كالمهتدي، ولا يوصف بالاهتداء إلا الواصل إلى البغية المطلوبة بالهداية.
ثالثها: أن اهتدى مطاوع هدى ولا يختلف مفهوم المطاوع عن مفهوم أصله؛ ككسرته فانكسر وجبرته فانجبر.
ووافق الزمخشري على رأيه هذا البيضاوي والجرجاني، وقد أخذ الجرجاني - في حاشية الكشاف - يدفع عن كلام الزمخشري كل ما أورد عليه، وخالفه قطب الأئمة في هميانه، والفخر الرازي في مفاتيح الغيب، وأبو السعود والألوسي في تفسيريهما، وأطال أبو السعود في نقض كل ما تعلق به الزمخشري، وأخذ يحلل مفهوم الهداية المتعدية واللازمة تحليلا فلسفيا، وانتهى - بعد تطوافه الطويل بين المعالم اللغوية والفلسفية - إلى أن اللازمة لا تكون لازمة للمتعدية وإن كانت أثرا من آثارها.
أنواع الهداية:
وإذا رجعت إلى ما تقدم تحريره في الفاتحة الشريفة، أدركت أن الهداية تختلف باختلاف نوعها، فإن كانت هداية توفيق - وهي لا تكون إلا من الله - فهي موصِّلة إلى البغية قطعا، وإن كانت هداية بيان فهي توصل إليها إن اقترنت بتوفيق الله للمهدي، أما إذا لم تقترن به فلا تؤدي إليها، بدليل قوله تعالى:
{ { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [فصلت: 17] وهذه الهداية تسند إلى الله كما في هذه الآية، وإلى غيره كما في قوله: { { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [السجدة: 24]، ومقابلة الهدى بالضلال في قوله: { لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } لا يستدل بها على الإِيصال، لأن الهدى فيه بمعنى الاهتداء، وهو لازم، والاختلاف إنما هو في المتعدي ويقابله الاضلال لا الضلال، كما لا يدل مجيء اهتدى مطاوعا لهدى أن فعل الهداية موصل إلى البغية، لأن الفعل المتعدي لا يستلزم وقوع المطاوعة في مقابله، ولذلك جاز نفي المطاوعة، في نحو أمرته فلم يأتمر، ونهيته فلم ينته، وعلمته فلم يتعلم، وهذبته فلم يتهذب، وبهذا تعلم عدم امتناع قول القائل: هديته فلم يهتد، وإطلاق المهدي في موضع المدح لأن الهداية سبب للاهتداء، مع حصول التوفيق، ويمكن أن يكون الخلاف اعتباريا، فمن نظر إلى اقتران الهداية بالتوفيق اعتبرها موصِّلة، ومن قطع النظر عن ذلك جوَّز أن تكون موصلة وغير موصلة، وقد مر بكم في تفسير الفاتحة أن الهداية تكون تكوينية، وهي هداية الفطرة والحواس والعقل، ولا غموض في أن الهداية الفطرية والهداية الحسية موصلتان إلى البغية، وكذلك هداية العقل لمن وُفق لاستخدامه، وإذا ما رجعتم إلى ما ذكرته هناك كملت لكم الفائدة وانجلى عنكم اللبس.
وبهذا التحرير يمكنكم فهم وجه تخصيص هدى الكتاب بالمتقين هنا وبالمؤمنين في قوله تعالى:
{ { هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } [النمل: 2]، وقوله: { { هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ } [لقمان: 3]، مع قوله في آيات الصوم من هذه السورة { { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ } [البقرة: 185]، وقوله: { { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [القلم: 52]، ذلك لأن المؤمنين - وهم المتقون والمحسنون - هم المنتفعون بهداية القرآن، إذ لم يلبثوا عندما أشرق لهم نوره فأبصروا الحق أن اتبعوه، أما غيرهم فقد أخلدوا إلى الباطل وتصامموا عن حجج القرآن وتعاموا عن حقائقه، ذلك لأنهم استحكم في نفوسهم التقليد الأعمى، فكان حاجزا حديديا بينهم وبين الانتفاع بهداه، وإن كان منشورا لجميع الناس ليس بينه وبينهم حائل إلا هذا العتو والاستكبار، وذلك معنى قول الحق تعالى: { { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } [الاسراء: 82]، فهو شفاء لنفوس أهل الإِيمان من أمراض الجهل والمعصية ورحمة لهم، لأنهم اتبعوه في الدنيا فاقتادهم إلى مواطن السلامة وبحبوحة السعادة، أما غيرهم من الذين أصروا واستكبروا استكبارا، فإنهم لم يزدادوا به إلا خسارا، لأنهم بتكذيبهم إياه، وإعراضهم عنه - بعد انبلاج حجته - ازدادوا كفرا إلى كفرهم، وضلالا مع ضلالهم، وذلك المراد من قوله تعالى: { { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [فصلت: 44]. فالهدى هنا هو هدى التوفيق، بخلافه في نحو قوله تعالى: { هدى للناس } فهو محمول على هدى البيان.
معنى التقوى ومجالاتها:
و{ المتقون } جمع متق، وهو دال على الاجتناب، لأنه مأخوذ من وقاه يقيه فاتقاه؛ بمعنى: جنَّبه يجنِّبه فاجتنبه
واستخدم مجازا في اجتناب ما يسخط الله، وقد تكرر كثيرا في القرآن نحو: { وإياي فاتقون }، { واتقوا الله }، { وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }. فإنه ليس من المعقول أن يراد باتقاء الله اجتناب ذاته تعالى لاستحالة ذلك، وإنما يراد به اتقاء عذابه الذي يوجبه التهاون بأوامره وارتكاب نواهيه.
وإنما أضيفت التقوى إلى الله لتعظيم شأن مخالفته، وتهويل ما يترتب عليها من عقاب.
وذكر اللغويون أن الوقاية فرط الصيانة، ومن هذا المعنى أخذ علماء الشريعة تعريف التقوى فقالوا: إنها صيانة الإِنسان نفسه مما يوجب العقوبة من فعل أو ترك، وقسموها إلى مراتب:
أولها: توقي الشرك.
ثانيها: توقي الكبائر، ومنها الإِصرار على الصغائر.
ثالثها: ما أشار إليها حديث عطية السعدي عند أحمد وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، والترمذي وحسنه، وابن ماجة، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس" .
وذكر بعض العلماء أن الرتبة الأولى هي تقوى العوام، والثانية هي تقوى الخواص، والثالثة هي تقوى خواص الخواص.
وبما أن أصدق ما يفسر به القرآن القرآن نفسه، فإن علينا - ونحن بصدد بيان ما يراد بالمتقين - أن نستلهم حقيقة التقوى مما وصف الله به المتقين في كتابه، كقوله هنا في وصفهم:
{ { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [البقرة: 3]. وقوله بعد بيان أركان البر الاعتقادية والعملية والخلقية في هذه السورة: { { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } [البقرة: 177] وقوله في سورة آل عمران: { { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلْقَانِتِينَ وَٱلْمُنْفِقِينَ وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ } [آل عمران: 15 - 17]. وقوله فيها: { { وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران: 133 - 135].
وما روي من أقوال المفسرين من الصحابة والتابعين في التقوى والمتقين، فهو مقتبس من هذه الآيات ونظائرها، وهو متحد في معناه وإن اختلفت عباراتهم عنه، من ذلك ما أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في قوله { هدى للمتقين }: أي الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء منه. وأخرج ابن أبي حاتم عن معاذ - رضي الله عنه - أنه قيل له: من المتقون؟ فقال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة. وأخرج أحمد في "الزهد" عن أبي الدرداء قال: تمام التقوى أن يتقي الله العبدُ حتى يتقيَ من مثقال ذرة حين يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما، يكون حجابا بينه وبين الحرام. وروي مثله عن جماعة من التابعين، وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة أن رجلا قال له: ما التقوى؟ قال: هل وجدت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم. قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنده أو جاوزته أو قصرت عنه. قال: ذاك التقوى.
وذكر القرطبي أن عمر سأل أُبَيًّا - رضي الله عنهما - عن التقوى فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم. قال: فما صنعت فيه؟ قال: تشمرت وحذرت. قال: فذاك التقوى. ونظم معنى هذه الإِجابة ابن المعتز في قوله:

خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى

وذكر أبو السعود عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أن التقوى ترك ما حرم الله وأداء ما فرض. وعن شهر ابن حوشب: المتقي من يترك ما لا بأس به حذرا من الوقوع فيما فيه بأس. وعن أبي يزيد أن التقوى هو التورع عن كل ما فيه شبهة. وعن محمد بن حنيف: أنه مجانبة كل ما يبعدك عن الله تعالى. وعن سهل: المتقي من تبرأ من حوله وقدرته. وقال بعضهم: التقوى ألا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك. وقال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح، والسلطان الجائر. وقال بعض الحكماء: لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلا أن يكون لو جُعل ما في قلبه في طبق فطيف به في السوق لم يستحي ممن ينظر إليه. وقيل: التقوى أن تزين سرك للحق كما تزين علانيتك للخلق. وهذه الأقوال كلها صادرة من أصل واحد، فهي متحدة المضمون وإن اختلفت بحسب اختلاف نظر أصحابها إلى مراتب التقوى ومقامات المتقين، فمنهم من نظر إلى أصل التقوى أو إلى زاوية من زواياه، ومنهم من نظر إلى ذروته وسنامه أو إلى قاعدته الكلية المستجمعة لجميع جزئياته.
ومما ذكرناه من المعنى اللغوي للتقوى يستفاد أن أصله دال على السلب، لأنه بمعنى التجنب والترك، ولكن بالرجوع إلى الآيات التي أسلفنا ذكرها وأمثالها، وإلى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف الصالح، يتضح أن للتقوى في الشرع شقين؛ شقا سلبيا وهو ترك ما نهى الله عنه، وآخر إيجابيا وهو فعل ما أمر به، ولا بد من الجمع بينهما للاتصاف بحقيقة التقوى الشرعية، وقد جمعت كلمة التقوى في الشرع بين السلب والإِيجاب - مع أن حقيقتها الوضعية للسلب - لأجل ما في فعل الطاعات واجتناب المعاصي من توقي سخط الله المؤدي إلى عقابه.
هذا ويرى العلامة السيد رشيد رضا أن العقاب الإِلهي الذي يجب على الناس اتقاؤه قسمان؛ دنيوي وأخروي، وكل منهما يتقى باتقاء أسبابه، وهي نوعان؛ مخالفة دين الله وشرعه، ومخالفة سننه في نظام خلقه، فأما عقاب الآخرة فيتقى بالإِيمان الصحيح، والتوحيد الخالص، والعمل الصالح، واجتناب ما ينافي ذلك من الشرك والكفر والمعاصي والرذائل، وذلك مبين في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأفضل ما يستعان به على فهمهما واتباعهما سيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأولين من آل الرسول صلى الله عليه وسلم وعلماء الأمصار، وأما عقاب الدنيا فيجب أن يستعان على اتقائه بالعلم بسنن الله تعالى في هذا العالم ولا سيما سنن اعتدال المزاج، وصحة الأبدان وأمثلتها ظاهرة، وسنن الاجتماع البشري، فاتقاء الفشل والخذلان في القتال يتوقف على معرفة نظام الحرب وفنونها، وإتقان آلاتها وأسلحتها التي ارتقت في هذا العصر ارتقاء عجيبا وهو المشار إليه بقوله تعالى:
{ { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ.. } [الأنفال: 60].
كما يتوقف على أسباب القوة المعنوية من اجتماع الكلمة واتحاد الأمة والصبر والثبات والتوكل على الله، واحتساب الأجر عنده،
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } [الأنفال: 45 - 46]. وما ذكره يؤكد شمول مفهوم التقوى لجميع أعمال الخير سواء كانت فائدتها عاجلة أم آجلة.
والانسان مطالب باستصحاب التقوى من بداية طريق حياته إلى نهايتها، لأنها محفوفة بالمخاطر، مفروشة بالأشواك، فإن كل خطوة يخطوها الإِنسان مهددة بكمين، إما من غرائزه وشهواته، وإما من عواطفه ونزعاته، وإما من مطامعه ومطامحه، وإما من خوفه ورجائه، وهي طبائع موجودة في كل أحد وكل منها صالح لاستخدامه في الخير والشر، فلذا كان كل واحد منها سلاحا ذا حدين، وكان الإِنسان على أي حال مطالبا بضبطها وتوجيهها إلى الخير والصلاح والبناء، والتقوى هي العامل الوحيد لضبطها وعدم إرسال العنان لها، والباعث على استخدامها فيما يعود بالمصلحة على صاحبها وعلى مجتمعه وأمته، وناهيك أن التقوى تستلزم تجريد النفس من كل خوف ورجاء إلا خوف خالقها ورجاءه، وبهذا يتضح لك أن الحركات النفسية داخلة في مدلول التقوى، وهو الذي يقتضيه قوله تعالى:
{ { وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ } [الحج: 32]، وقوله: { { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ } [الحجرات: 3]. وقد صرح بذلك صلى الله عليه وسلم في قوله: "التقوى ها هنا" وأشار إلى قلبه.
وتدخل في ضمن التقوى أقوال الخير كما تدخل أعماله، بدليل قوله تعالى:
{ { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } [الفتح: 26].
وليس قوله صلى الله عليه وسلم:
"التقوى ها هنا" بمقتض حصر التقوى في صفات القلب، وإنما يشير إلى أن صلاح القلب هو أساس لصلاح الأعمال، لأنه سلطان الجوارح الذي يوجهها، إما إلى الخير وإما إلى الشر، كما جاء في حديث النعمان بن بشير عند الشيخين: ".. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" .
ولأهمية التقوى وكونها مصدر كل صلاح ومنبع كل فضيلة وأساس كل خير، تكرر الأمر بها في الكتاب العزيز، وتكرر الثناء على المتقين، ولا تكاد تجد أمرا مكررا في القرآن كالأمر بالتقوى سواء كان صريحا أو في معرض الثناء على المتقين، وتجد ذلك مقرونا بالأوامر والنواهي، والتبشير والانذار، والقصص والأمثال، والامتنان والاخبار، فاقرأ مثلا قول الله عز وجل: { { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [البقرة: 223] تجد الأمر بالتقوى يتوسط التشريع والانذار والتبشير، وتأمل قوله عز وجل في تقرير تمتيع المطلقات { { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 241]. وقوله تعالى بعد ذكر طائفة من أحكام الدَّيْن في آيته الأولى: { { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ } [البقرة: 282]، وبعد ذكر جانب من أحكامه والأمر بأداء الأمانة في آيته الثانية: { { وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ } [البقرة: 283]، وقوله في سورة الطلاق في معرض تبيان أحكامه: { { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ.. } [الطلاق: 1]، تدرك أن تقوى الله سبحانه هو الفلك الذي يدور فيه تشريعه الحكيم.
واقرأ في باب الامتنان قول الله تعالى:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } [النساء: 1]، وقوله: { { وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِيۤ أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } [الشعراء: 132 - 134].
واقرأ في باب التبشير والانذار قوله تعالى:
{ { وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ } [النحل: 30 - 31]، وقوله: { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ } [الحج: 1 - 2]، وقوله سبحانه: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [الحشر: 18]، وغيرها من آيات الوعد والوعيد، تدرك قيمة التقوى عند الله وأهميتها في الحياة.
التقوى جماع الخير في الدنيا والآخرة:
ولما للتقوى من قيمة كانت ميزان التفاضل عند الله، كما قال سبحانه:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13]، وجعلت هي الغاية من العبادة، كما في قوله عز وجل: { { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 21]، وكما جاء ذكرها مقرونا بمطلق العبادة، جاء في معرض العبادات المفصلة، ومنه قوله تعالى في الصوم: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183]، وقوله في الحج: { { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [البقرة: 197]، وقوله: { { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [البقرة: 203]، وقوله: { { وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ } [الحج: 32].
وفي معنى ذلك قوله تعالى في الصلاة:
{ { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [العنكبوت: 45]، وتلك هي حقيقة التقوى، وفي معناه أيضا قوله في الزكاة: { { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة: 103].
وقد وعد الله بمعيته المتقين من عباده في قوله:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } [النحل: 128]. وجعل ولايته لمن جمع بين الايمان والتقوى، ووعد هؤلاء بالبشارة في الحياة الدنيا والآخرة، وعدم خوفهم وحزنهم يوم الفزع الأكبر وذلك في قوله: { { أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ.. } [يونس: 62 - 64]، كما وعد سبحانه المتقين بحسن العاقبة في الدارين، أما في الدنيا فالبعز والنصر، وأما في الآخرة فبالسعادة والفلاح، وذلك في قوله: { { ..وَٱلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ } [طه: 132]، وقوله: { { ..وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف: 128].
ويكفي ما ذكرته من الآيات شاهدا ودليلا على أن التقوى هي منبع السعادة والفوز في الآخرة، ومنشأ العز والكرامة في الدنيا، وهي مع ذلك سبيل النجاة من الشدائد، ومفتاح لباب الرزق والخير، كما يدل عى ذلك قوله تعالى:
{ { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ آمَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [الأعراف: 96]. وقوله: { { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 2 - 3]. جعلنا الله من عباده المتقين وحزبه المفلحين.
ولربما تساءل بعض الناس: هل المتقون بحاجة إلى الهداية مع تسنمهم ذروة التقوى وبلوغهم منتهى الصلاح؟ والجواب: أن العبد مهما بلغ من مراتب التقوى وقطع من مراحل الاهتداء لا يزال بحاجة إلى مزيد عناية من الله تنفحه بروح الهداية، ولطف المواهب، ومن هذا الباب قوله عز وجل في سورة الفاتحة تعليما لعباده المتقين: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }، وقد سبق الكلام على ذلك، وليس ببعيد أن يكون المراد هدى للذين علم الله صيرورتهم إلى التقوى، لجواز أن يطلق على الشيء اسم ما يصير إليه، ومن هذا الباب قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
"من قتل قتيلا فله سلبه" فإنه عندما وقع عليه القتل لم يكن قتيلا. وروي من طريق ابن عباس - رضي الله عنهما -: "إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض وتضل الضالة" . وقد حكى الله عن نوح - عليه السلام - أنه قال في دعائه على قومه: { { وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [نوح: 27] يعني صائرا إلى الفجور والكفر، ولو روعي ما كانوا عليه من الضلال عند بداية نزول القرآن فقيل: "هدى للضالين" لم يستقم المعنى، لأن من الضالين من ختم الله على قلوبهم وسمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فلا يهتدون بأسباب الهداية، ولذا قال تعالى عنهم في هذه السورة: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 6]، وقال عنهم: { { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ.. } [يس: 7 - 10]، فلا يصح اعتبار القرآن هدى لهم لأنهم لا ينتفعون بهدايته، وإنما المنتفع فريق كان على الضلال فلما تجلت له حقائق التنزيل ونارت لعقله دلائله، بارح الضلالة إلى الهدى، وفارق الجاهلية إلى الإِسلام، ولو أريدت الترجمة الدقيقة المعبرة عن جميع هذه الأحوال، لقيل هدى للذين تحولوا عن الفجور إلى التقوى، وخرجوا من الكفر إلى الإِيمان، ولكن بجانب ما في هذه العبارة من الطول فإن عبارة القرآن سادّة مسدَّها ومغنية عنها مع تميزها برقة الأسلوب.
والمراد بالمتقين الذين نعتوا من بعد بما في الآيات اللاحقة، وهم الذين وفقوا للتخلص من علائق الكفر، والتطهر من أدران الجاهلية، سواء كانوا من قبل من الوثنيين أو من أهل الكتاب، وهو الذي يستفاد من كلام جمهور المفسرين، وللأستاذ الامام الشيخ محمد عبده رأي آخر فيهم لَخَّصه السيد رشيد رضا فيما يلي:
كان من الجاهليين من مقت عبادة الأصنام وأدرك أن فاطر السماوات والأرض لا يرضيه الخضوع لها، وأن الإِله الحق يحب الخير ويبغض الشر، فكان منهم من اعتزل الناس لذلك، وكانوا لا يعرفون من عبادة الله إلا الالتجاء والابتهال وتعظيم جانب الربوبية - وذلك ما كان يسمى صلاة في لسانهم - وبعض الخيرات التي يهتدي إليها العقل في معاملة الخلق، وكان من أهل الكتاب من وصفهم الله تعالى بمثل قوله:
{ { ..مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ٱللَّهِ آنَآءَ ٱللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـٰئِكَ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [آل عمران: 113 - 114]، وبقوله: { { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } [المائدة: 82 - 83]
فأمثال هؤلاء من الفريقين هم المراد بالمتقين، ولا حاجة إلى تخصيص ما جاء في وصفهم بالمؤمنين منهم بعد الإِسلام، أو بالمسلمين، بل أولئك هم الذين كان في قلوبهم اشمئزاز مما عليه أقوامهم، وفي نفوسهم شيء من التشوق إلى هداية يهتدون بها، ويشعرون باستعداد لها، إذا جاءهم شيء من عند الله تعالى، فالمتقون في هذه الآية إذاً هم الذين سلمت فطرتهم فأصابت عقولهم ضربا من الرشاد، ووجد في أنفسهم شيء من الاستعداد لتلقي نور الحق يحملهم على توقي سخط الله تعالى والسعي في مرضاته بحسب ما وصل إليه علمهم، وأداهم إليه نظرهم واجتهادهم.
وبنى الأستاذ على رأيه هذا تفسيره ما يأتي من نعوت المتقين، وكلامه ككلام غيره قابل للنقاش، وسوف تأتي إن شاء الله مناقشته في المكان المناسب من الآيات الناعتة للمتقين.