خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٢٨
هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٢٩
-البقرة

جواهر التفسير

الآيتان مرتبطتان بما قبلهما ارتباطا وثيقا، وإنما جاء الكلام فيهما على أسلوب الإِلتفات من الغيبة إلى الخطاب، لما في مواجهة الذين كفروا - بعد تعداد مثالبهم وتقرير كفرهم - بالتوبيخ والتقريع على ما صدر منهم من الكفر مع توفر دواعي الايمان من أثر على نفوسهم، فإن للخطاب تأثيرا في نفس المخاطب أعمق وأبلغ من تأثير حديث الغيبة على الغائب، فلعل هذه النفوس المخاطبة تنزجر عن قبائحها وترتفع عن غيها، هذا بجانب الحكمة العامة في الإِلتفات وهي تجديد النشاط بتطرية الكلام، ونقله من أسلوب إلى آخر.
وذهب ابن عاشور إلى أن الخطاب هنا للناس الذين خوطبوا من قبل بقوله: { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ }، وعد الجمل من قوله: { وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ .. } إلى قوله: { .. الخاسرون } معترضات بين هذا الخطاب، وأنكر أن يكون تناسب بين قوله هنا: { كيف تكفرون } وقوله من قبل: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى .. } إلى آخره، وبنى عليه إنكار تخريج هذا الخطاب على أسلوب الإِلتفات وإنما رأى الرابط بين الخطابين مناسبة اتحاد الغرض بعد استيفاء ما تخلل واعترض، وذكر من بديع المناسبة وفائق التفنن في ضروب الانتقالات في المخاطبات اتحاد العلل التي قرن الله بها الأمر بعبادته في قوله: { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ .. } إلى آخره، وقرن بها إنكار ضد العبادة وهو الكفر في قوله هنا: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ } حيث قال هناك: { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً .. } (الآية)، وقال هنا: { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ .. } (الآية). وبالغ في إنكار أن يكون اليهود هم المخاطبين هنا نظرا إلى أنهم لم يكفروا بالله ولم ينكروا الإِحياء الثاني، ولذلك رأى تعين أن يكون الخطاب للناس وهم قريش.
ولم يتضح لي وجه قوله، فإن عود الخطاب في قوله: { كيف تكفرون } إلى الناس المخاطبين في قوله: { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } بعد العديد من الآيات التي خرجت عن الموضوع لا يتلاءم مع ما عُهد من انسجام عبارات القرآن، وترتب كلماته وتناسب آياته، وما الداعي للمصير إليه مع إمكان خلافه، فإن التقريع موجه إلى الكفار في الآية بعد ما ذكر عنهم من إنكار ضرب المثل، والتسجيل عليهم بالفسوق، ووصفهم بنقض عهد الله من بعد ميثاقه، وقطع الصلات التي أمر بها، والإِفساد في الأرض، وكل من ذلك ناشئ عن كفرهم بالله واليوم الآخر، فكيف يستغرب إذا وبخوا بعد تعداد هذه المثالب على الكفر، أوَليسوا هم المكذبين بما أنزل الله، والمناوئين لمن أرسل، والناكثين لعهده؟ وقد سجل عليهم بالكفر بصريح العبارة في قوله { .. وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ولا معنى لما يقوله ابن عاشور من أن اليهود لا يكفرون بالله ولا بالمعاد، وإني لأعجب كيف ينفي عنهم الكفر بالله مع وصفهم له سبحانه بما لا يليق بعظمة الربوبية وجلالها، وأي كفر أعظم من قولهم:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [آل عمران: 181]، وقولهم: { { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } [المائدة: 64]، وقولهم: { { نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ } [المائدة: 18]، وهم وإن آمنوا باليوم الآخر فإنهم يعتقدونه حسب تصوراتهم الخاطئة التي لا تتفق مع ما وصفه الله به، وقد قال الله فيهم: { { قَدْ يَئِسُواْ مِنَ ٱلآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ ٱلْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْقُبُورِ } [الممتحنة: 13].
وقد علمتم مما سبق أن الخطاب في { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ .. } موجه إلى عموم الطوائف الثلاث المذكورة من قبل، وهي المؤمنون والكفار والمنافقون، وهذا هو الذي درج عليه ابن عاشور نفسه، كما علمتم أن الصحيح أن المنكرين للمثل هم كل الذين كفروا بما أنزل الله، ولم يكن ذلك محصورا في اليهود كما ذهب إليه ابن عاشور، مستدلا بوصفهم أنهم ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه إلى آخره. لأن هذا الوصف ينطبق على جميع الكفار، فقد وصف الله به قريشا في سورة الرعد حيث قال:
{ { وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ } [الرعد: 25].
أما مناسبة اتحاد العلل التي اقترن بها الأمر بالعبادة في قوله: { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } وإنكار ضدها وهو الكفر في قوله هنا { كيف تكفرون } فهي لا تدل على ترابط الخطابين لأن هذه العلل صالحة لأن يقرن بها كل كلام يدعو إلى العبادة والإِيمان، أو يحذر من الكفر والعصيان.
و{ كيف } موضوعة للإِستفهام وهو طلب الفهم غير أنه هنا متعذر لأن العليم بخفيات الأمور ليس من شأنه الإِستفهام، وإنما هي بمعنى الإِنكار والتوبيخ والتعجيب، وذلك أن المنكر عندما يطلب الجواب من المنكر عليه في أمر بيّن فساده إنما يريد بذلك قطع عذره، وكثير من المفسرين تسامحوا فقالوا إنها هنا بمعنى التعجب، وحقيقة التعجب مستحيلة على الله تعالى لأنه لا ينشأ إلا عن الجهل، واللائق بالتأدب مع الله أن يقال إنها للتعجيب؛ أي لحمل السامعين على التعجب، اللهم إلا إن قصدوا بالتعجب التعجيب لما يكون أحيانا من التعاقب بين التفعل والتفعيل لما بينهما من رباط السببية.
والأصل في الإِستفهام بكيف أن يكون عن الحال، وكذا إن استعملت في الإِنكار ونحوه إلا أن إنكار الحال يقتضي إنكار ما تلبس بها بطريق البرهان، فالمنكَرُ هنا نفس الكفر لأنه لا بد أن يكون على حال من الأحوال، وهو منكَر على أي حال، لأن الدواعي متضافرة على خلافه، وقد سبق الحديث عنه وعن نقيضه - الإِيمان - فلا داعي إلى التكرار.
نعم الله توجب شكره:
وقد أثير الاستغراب من كفر هؤلاء بالله تعالى مع تضافر الأدلة على وحدانيته، وتوفر الدواعي إلى شكره، وأبرز ذلك إخراج الإِنسان من العدم إلى الوجود، ونقله من الموت إلى الحياة، فقد كان ميتا لأن عناصره كانت منبثة في طبقات الأرض الجامدة والسائلة والغازية، ثم أخذت تتدرج في الأطوار، وتتنقل إلى أن كوّن الله منها الغذاء الذي تكون منه الدم فحول الله منه ما يشاء إلى مني دافق يتدرج هو أيضا بعد استقراره في الرحم من طور إلى آخر حتى يخرج منه هذا الكائن الذي نفخ الله فيه من روحه، وأفاض عليه من نعمه، وأكمل حواسه ومشاعره، وبوّأه - بما اختصه به من مزية العقل والعلم - مكان الخلافة في الأرض والسيادة في الكون، فإن تفكيره في أمره داع إلى الإِيمان والشكر، فجدير بالإِستغراب منه إخلاده إلى الكفر واتباعه مسالك الضلال، وهو معنى ما رواه ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وآخرين من الصحابة - رضوان الله عليهم - أنهم قالوا في تفسير الآية: { كنتم أمواتا } أي ترابا قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم، فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور، فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه حياة أخرى.
وقالوا مثل ذلك في قوله تعالى: { رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ } وهو مروي عن أبي العالية والحسن ومجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني.
وإطلاق الموت على ما لم تسبق له الحياة قيل هو حقيقة، وقيل مجاز، وفرق آخرون بين ما كان من شأنه الحياة كالحيوان والنبات، وما كان بخلاف ذلك كالجماد، وعلى هذا الإِختلاف يتخرج الاختلاف هنا. وللحكماء في تفسير الموت نظريات عول عليها بعض المفسرين، ولا أرى التعويل عليها لأن الله هو الذي خلق الموت والحياة، وهما من أسرار غيبه التي لم يُعرِّفنا بها، ولم يكن قول الحكماء صادرا عن قواعد ثابتة، وإنما عولوا على مجرد أنظار تخطئ وتصيب.
واختلف في ترتيب هاتين الموتتين، وهاتين الحياتين، وقد علمت ما قاله المفسران الصحابيان الجليلان وتابعهما عليه جماعة من مفسري التابعين فمَن بَعدَهم، وروى ابن جرير عن زيد بن أسلم أن المراد بالإِحياء الأول إخراجهم من ظهر آدم كأمثال الذر حين أخْذِه الميثاق منهم، ثم أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة - وهو كما قال ابن جرير - يلزمه تكرر كل من الإِحياء والإِماتة ثلاث مرات مع أن المنصوص عليه مرتان، وروي عن ابن عباس: كنتم أمواتا فأحياكم؛ أمواتا في أصلاب آبائكم لم تكونوا شيئا حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق، ثم يحييكم حين يبعثكم، وذهب بعضهم إلى أن الموتة الأولى هي عبارة عن انفصال النطفة من أجسام الآباء لأن ما انفصل من حي فهو ميت، وذهب جماعة إلى أن الموت هنا عبارة عن الغفلة، والحياة هي النباهة بعدها، أي كنتم غافلين فنبهكم، وهو مردود لأمرين: أولهما أن المخاطبين لم ينفكوا عن غفلتهم ما داموا لم يبرحوا كفرهم.
ثانيهما: أنهم وعدوا بالإِماتة والإِحياء كرة أخرى، وهو شاهد على أن الحياة والموت المذكورين حسيان وليسا بعقليين، وقيل: إن الحياة الثانية هي حياة القبر عندما يُحيَى الميت لسؤال الملكين.
والصحيح من هذه الأقوال أولها، وهو الذي صححه كل من ابن جرير وابن كثير، وجنح إليه جم غفير من المفسرين، وهو لا ينافي سؤال الملكين في القبر، فإن تلك حياة تختلف عن التي سبقتها في الدنيا والتي تليها في الآخرة، كما لا ينافي ذلك تكرار الإِحياء والإِماتة في بعض الناس أكثر من ذلك كالسبعين الذين اصطحبهم موسى إلى الميقات، والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فأماته الله مائة عام ثم بعثه، والذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، فإن الخطاب للعامة ولهؤلاء حكم خاص، ومن ناحية أخرى فإن هؤلاء كانوا قبل نزول الآية، والمخاطبون فيها هم المعاصرون لنزولها، والذين يأتون من بعدهم.
والعطف بالفاء في قوله { فأحياكم } لعدم الفاصل بين كونهم أمواتا وإحيائهم، أما العطف بثم بعد ذلك فللمهلة بين الإِحياء والإِماتة بعده، وبين الإِماتة والإِحياء الثاني.
والمراد بالرجوع إما الاجتماع في الموقف، أو الاستقرار في إحدى الدارين، لأن في كلا الأمرين رجوعاً إلى الله تعالى، وكل ما ذكر هنا شاهد على عظمة الخالق وقدرته، وإحاطته بكل شيء، فهو حقيق بأن يُعْبَد ولا يكفر، وأن يطاع ولا يُعصى.
ولا يقال إن مشركي العرب كانوا ينكرون البعث، فكيف يحتج عليهم بما ينكرون لأن توفر الدلائل وقيام الشواهد - من خلق الناس أنفسهم وخلق الكون - على إمكان النشأة الثانية - إذ ليست أعجب من النشأة الأولى - كاف في دحض الشبه التي يتشبثون بها في إنكار البعث.
وجملة { كنتم أمواتا } حال من تكفرون، وقدر بعضهم "قد" قبلها لتسويغ حاليتها، ولم ير ذلك الزمخشري، لأن الواو لم تدخل على { كنتم أمواتا } وحده، وإنما دخلت عليه وعلى ما بعده إلى قوله: { .. ترجعون } كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وهذه قصتكم، ثم بحث في كون بعض القصة ماضيا وهو كونهم أمواتا وإحياؤهم، وبعضها مستقبلا، وهو إماتتهم وما بعده، والماضي والمستقبل منافيان للحالية، وأجاب بأن الإِنكار عليهم إنما كان مع علمهم بهذه القصة، والعلم حالي ليس ماضيا ولا مستقبلا، ويكفي في كونهم عالمين وجود الدلائل على ما يتجاهلونه من ذلك بحيث تمكنهم أن لو أرادوا من الوصول إلى العلم.
ولا أرى داعيا إلى تقدير العلم، فإن كون هذه هي قصتهم أمر لا ينفكون عنه مع قطع النظر عن تقدم بعض القصة وتأخر بعضها.
الإِنسان سيد الأكوان وخليفة في الأرض:
وبعد تقرير مبدأ الإِنسان ومصيره، ينتقل السياق إلى بيان منزلته وإعلان قيمته في موازين الله تعالى، فهو بمقتضاها ليس عبدا للمادة، بل هو سيد لها، لأنها خلقت له وسُخرت لمصالحه، ومن هنا تختلف قيمته في الإِسلام عن قيمته بحسب معايير العالم المادي؛ شرقِيِّه وغربِيِّه، وبموجب نظاميه الرأسمالي والإِشتراكي، إذ قيمته بحسب النظرة المادية قيمة هابطة ليس له فيها أدنى تكريم، كيف وعجلة تطوره مربوطة بالتطور المادي، فلا يقاس تقدمه أو تأخره، ولا رقيه أو انحطاطه إلا بالمقاييس الترابية المضطربة، فهو بموجب ذلك لا يختلف عن الآلات الصماء التي إذا استهلكت ألقيت مع الحطام والنفايات.
والإِسلام في نظرته إلى الإِنسان لا يختلف مع النظرة المادية إليه من هذه الناحية فحسب، بل يرفع قدره فوق ذلك كله؛ باعتباره خليفة في الأرض وسيدا في الكون، ولذلك خُصّ بأن خلق الله له ما في الأرض وسخر له ما في الوجود، وذكر هذه النعم عليه في هاتين الآيتين هو توطئة لما تأتي به الآيات من بعدها من قصة هذا الاستخلاف.
وفصل هذه الآية عن التي قبلها إما لأنها أُريد بها تأكيد ما تقدم، والتوكيد لا يعطف على المؤكد، وذلك باعتبار أن خلق ما في الأرض لهم هو إكمال لإِيجادهم المعبر عنه بـ { أحياكم } لضرورتهم إلى ما يكون مددا لهذه الحياة، وإما أن يكون امتنانا عليهم بالنعم لدمج التسجيل عليهم بكفر النعمة مع سرد الأدلة الداحضة لكفرهم بالله تعالى.
وقد سبق معنى الخلق وحمله بعض المفسرين هنا على التسخير، وهو الذي أخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة، وأخرجاه مع عبدالرزاق وابن أبي حاتم عن مجاهد.
وخلق جميع ما في الأرض للناس، أي لينتفعوا به إما منفعة عاجلة وإما منفعة آجلة، ولله تعالى أسرار في تكوين الأشياء حتى التي تتبادر إلى الأذهان مضرتها؛ فإنها قد تنطوي على منافع تتكشف للناس ولو بعد حين، ولو لم تكن منها منفعة عاجلة فبحسبها منفعة ما يترتب على الاعتبار بها من تذكر عذاب الآخرة المؤدي إلى الإِزدجار عن معاصي الله، والمسابقة إلى طاعته، وفي كل شيء عبرة لمن اعتبر، وموعظة لمن ادَّكر.
هذا وقد أخذت أسرار هذا البيان الإِلهي تتجلى للناس حينا بعد آخر، إذ أخذت تتكشف لهم - مع التطورات العلمية - منافع جمة في مخلوقات شتى لم يكونوا يتصورون إلا مضرتها، فهذه الجراثيم أصبحت في عداد المنافع بعد أن كان الناس لا يتصورون منها نفعا، فقد استعين بها في كثير من ضرورات الحياة المعاصرة كاستخدامها وقودا للآلات، وإصلاحا للأغذية وهي - لا ريب - منافع هامة داخلة في عموم ما في الأرض، وقبل بضع سنين ألقيت في أحد المساجد درسا حول الجراثيم ومنافعها، واعتبرت هذه المنافع المكتشفة فيها من دلائل الإِعجاز العلمي في القرآن بدخولها في مدلول هذه الآية الكريمة.
واستدل بهذه الآية على حكم مسألة مهمة شغلت بال الأصوليين والفقهاء، وهي الأصل في الانتفاع بالأشياء حسب ما يلائم طبيعتها، هل هو معدود قبل ورود الشرع في حكم المباح أو غيره؟ فالقائلون بالإِباحة استندوا - فيما استندوا إليه - إلى هذه الآية الكريمة لأن الله لم يكن ليخلق الأشياء للناس ثم يعاقبهم على استعمالها فيما يتلاءم مع طبيعتها، وهذا هو الذي ذهب إليه جل أئمة المذهب، ونص عليه قطب الأئمة -رحمه الله - في تفسيريه الهيميان والتيسير، وبه قال الزمخشري والرازي والبيضاوي، ونُسب إلى الشافعي وجماعة من الشافعية والحنفية، كما نُسب إلى المعتزلة، وذهب آخرون إلى أن الأصل فيها الحظر حتى يرد الشرع بإباحتها، وعليه عوّل قطب الأئمة - حسب حفظي - في شرحه على شرح البدر الشماخي على مختصر العدل، ونُسب إلى بعض أهل الحديث وبعض المعتزلة، وذهب آخرون إلى الوقف، وهو المحكي عن أبي الحسن الأشعري وعن المالكية وجمهور الحنفية والمعتزلة حسب نقل ابن عرفة، وهو الذي يقتضيه كلام ابن العربي في أحكامه، والقرطبي في تفسيره.
وأصحاب القولين الأخيرين يرون أن الآية الكريمة لم ترد لتشريع حكم، وإنما نزلت للإِمتنان وبيان تكريم الله تعالى للإِنسان، وأنت تدري أن الإِمتنان بما تعود مغبته بالمضرة على الممتن عليه لا يكون من الحكيم تعالى، لأن عقوبة الحرام لا يوازيها الإِنتفاع به.
واستدل فريق من العلماء بالآية على تحريم أكل الطين لأن الله لم يقل أنه خلق لنا الأرض، بل قال: { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ } وهو استدلال في منتهى السفسطة، فإن الخلق ليس هو لأجل الانتفاع بالأكل فقط، وإنما هو لأجل المنافع المتنوعة، فمن المخلوقات ما يكون صالحا للأكل، ومنها ما يكون صالحا للبس، ومنها ما يكون صالحا للتداوي، ومنها ما يكون صالحا للركوب، ومنها ما يصلح للبناء به، إلى غير ذلك من المنافع المتنوعة التي لا يكاد الإِنسان يحصيها، ولو كانت المنافع محصورة في الأكل لما كانت نعمة في اللباس، ولا في الافتراش ولا في غيرهما، وهل يبني الناس مساكنهم، ويغرسون بساتينهم، ويحرثون زروعهم إلا على ظهر الأرض؟ أوَليس في ذلك كله نعمة بها على الإِنسان؟ وأعظم منه تهيئة الأرض لأن تكون قرارا للناس. والعجب من هؤلاء كيف يتصاممون ويتعامون عن قوله تعالى: { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً }؟ وقد يكون الشيء نافعا في أمر ضارا في غيره؛ فتحل منفعته وتحرم مضرته، ويكفي من منفعة الطين كونه مادة البناء غالبا في كل العصور، أما تحريم أكله فهو بدلائل أخرى، وقد رويت فيه أحاديث، ومضرته كافية في التحريم.
وجوّز الزمخشري أن يكون المراد بالأرض الجهة السفلية كما تطلق السماء على الجهة العلوية، فتدخل الكرة الأرضية نفسها فيما خلق للناس، ووافقه على ذلك جماعة، منهم أبو السعود، والألوسي، وقطب الأئمة، وصاحب المنار، واستبعده ابن عاشور من وجهين:
أحدهما: أن الأرض لم تطلق قط على غير الكرة الأرضية إلا مجازا كما قال الشاعر:

الناس أرض بكل أرض وأنت من فوقهم سماء

أما السماء فقد أطلقت على كل ما علا فأظل، والفرق بينهما أن الأرض شيء مشاهَد، والسماء لا يُتعقل إلا بكونه شيئا مرتفعا.
ثانيهما: لو سلم هذا القياس فإن السماء لم تطلق على الجهة العليا نفسها حتى يصح إطلاق الأرض على الجهة السفلى، وإنما تطلق السماء على شيء عال.
والذي دعاهم إلى هذا التأويل حرصهم على اعتبار الأرض مما خلق للناس، وأنتم تدرون أن ما فيها كله إذا كان مخلوقا لهم فأحرى أن تكون الأرض كذلك لأن المظروف لا يستقل عن ظرفه، وفي هذا غِنىً عن قول من قال إن كل جزء من الأرض هو معدود مما فيها، فتكون ذات الأرض داخلة في عموم "ما"، وقول آخرين: "إن الامتنان بخلق الأرض سابق في قوله تعالى: { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً }، والامتنان هنا إنما هو بخلق محتوياتها من منافع الناس فيها.
والتعبير بما في الأرض يصدق على ما كان فوقها من الأشجار والتراب والأحجار والبحار والأنهار، وعلى ما كان داخل بطنها سواء كان من الجوامد كأنواع المعادن، أو من السوائل كالنفط، كما تدخل في ذلك أنواع الغاز، فهي جميعها مخلوقة لمنافع البشر، ومهيأة للانتفاع بها.
ولم يقف تكريم الله لهذا الإِنسان عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى تسخير منافع الكون لأجله، كما يدل عليه قوله تعالى:
{ { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } [الجاثية: 13]، وإذا كان كتاب ربنا الذي بأيدي المسلمين ينادي بهذا التكريم، ويعلن هذا الإِمتنان، فإن المسلمين - وهم أبناء هذا القرآن - أحق الناس بتقبل هذا التكريم، وذلك باستغلال هذه المنافع واستخدامها في طاعة الله مستشعرين نعمة الله عليهم، وهذا لا يتم إلا بوسائل العلم، لذلك كانت دراسة العلوم المؤدية إلى استغلال ثروات الطبيعة فرضا كفائيا على المسلمين، لما يترتب عليها من قوام شأن الأمة الإِسلامية، واستغنائها عن الآخرين، واستغلالها في أمورها المعاشية، وإنما انحراف الأمة عن طريق القرآن واستهانتهم بهذا الواجب هو الذي أدى بهم إلى التفريط وما تبعه من الذل والهوان، ولو أنهم أخذوا بتعاليم دينهم ومراشد كتابهم لكانوا أسبق الأمم في ميادين العلم والعمل.
ودخول ما ذكرته من منافع الأرض في مدلول الآية حاصل من لفظة "ما" لأنها من أدوات العموم كما تقرر في الأصول.
وأصل الإِستواء الاستقامة، وهو مطاوع للتسوية، يقال سوّاه فاستوى، وأطلق على القصد إلى الشيء بسرعة كأنه يسير إليه من غير أن ينحرف أو يلوي على أمر، وهو إطلاق مجازي، واستواء الله إلى السماء تعلق إرادته التنجيزي بإيجادها وتسويتها، و"إلى" قرينة التجوز.
وقد عرضت هنا مشكلة لعلماء التفسير؛ وهي ما يدل عليه ظاهر هذه الآية وظاهر قوله تعالى في سورة فصلت:
{ { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً.. } [فصلت: 9] إلى قوله: { { .. ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت: 11]، من أن خلق الأرض سابق على خلق السماء، بينما يدل ظاهر قوله في النازعات: { { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ.. } [النازعات: 27] إلى قوله: { { .. وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات: 30]، على سبق خلق السماء على خلق الأرض، فلذا احتاجوا إلى الجمع بين هذين الظاهرين، وقد اختلفوا في طريقة الجمع، فذهب فريق إلى أن الأرض مخلوقة قبل السماء، وسويت السماوات من بعدها، غير أن دَحْي الأرض متأخر على خلق السماوات، وذلك أنها عندما خلقت قبل السماوات لم تكن مدحوة صالحة للإِستقرار عليها حتى تم ذلك بعد تسوية السماوات السبع، وذهب فريق آخر إلى عدم القَبْلِيَّة والبَعْدِيّة على تقدم الزمان أو تأخره، وإنما هما حسب التفاوت المعنوي المشبه بالبعد المكاني أو الزماني، ومنه قوله تعالى: { { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } [القلم: 10 - 13]، فإن كونه عتلا وزنيما أسبق وجودا مما تقدمهما من الصفات، وقد ذكر إثر كلمة بعد لأجل لفت الانتباه إلى معناهما، ونحوه قوله سبحانه: { { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [التحريم: 4]، وهذا يأتي فيما يستدعي استحضاره ودرك أبعاده استجماع الفكر، فكأن الفكر يقطع مسافة من المعنى السابق إليه لما بينهما من التفاوت كما علمت، ونحوه في العطف بثم، فإنها في الأصل موضوعة للمهلة الزمنية غير أنها تستخدم في المهلة المعنوية للتفاوت الرتبي بين المعطوف بها والمعطوف عليه، فكأن العقل يتمهل في الانتقال من المعنى السابق إلى المعنى اللاحق، ولا يراعى في ذلك الترتيب الزمني، فقد يكون المعطوف أسبق زمنا من المعطوف عليه، ومنه قوله تعالى: { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ.. } إلى قوله: { .. ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ .. } (الآية)، وهو يقتضي أن المعطوف آكد وأهم مما تقدمه، وهذا شائع في كلام العرب، ومنه قول طرفة بن العبد:

جنوح رفاق عندل ثم أفرعت لها كتفاها في معالى مصعد

وقول الآخر:

لا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها

ويسمى هذا بالترتيب الرتبي وبترتب الإِخبار، ولأجل شيوعه صار كالحقيقة حتى قال من قال بأنه هو الأصل في عطف الجمل بثم، ومن الذين اعتمدوا على هذه القاعدة في الجمع بين ظواهر هذه الآيات المذكورة الإِمام ابن عاشور، وقد أطال في تحريرها وإيضاح مبهمها، وتفصيل مجملها بما لم يُسبق إليه، ومن يرد إحراز هذه الفوائد فليرجع إلى تفسيره.
وبالجملة فإن العطف بثم في هذه الآية إما لأن المعطوف عليه أجدر بعناية السامع، فإن تسوية السماوات على عظمها أعظم من خلق الأرض، فإنها لو قيست بسعة الفضاء الفسيح وما يسبح في خضمه من الأجرام الهائلة لما كانت إلا كالذرة المهينة العائمة في عباب الهواء، وإما للانتقال من التذكير بنعمة معلومة بدهيا، وآية شاهدة للعيان، وهي خلق الأرض لنا إلى نعمة وآية يحتاج العقل إلى التدبر فيها حتى يدرك قبح الكفر بالخالق العظيم، فإن الإِنسان يدرك بدون أي تفكير حاجته إلى الأرض واضطراره إلى ما أوجد فيها من المنافع لقوام حياته وسد ضروراته، أما ضرورته إلى ما في الكون الأعلى من مخلوقات الله فتتوقف معرفته بها على الإِمعان والنظر حتى يتوصل إلى إدراك الإِرتباط بين الأجرام الفضائية وبين الأرض التي هي قراره بسنة الجاذبية التي جعلها الله تعالى سببا للاستقرار على هذه الأرض وإمكان الحياة فيها.
ومما يؤكد أن "ثُم" هنا لا تدل على المهلة الزمنية - حتى يستدل بالآية على أن الأرض مخلوقة قبل السماء - عدم عطف خلق السماوات على خلق الأرض، وإنما عطفت خلق السماوات على خلق ما في الأرض، ومن المعلوم أن خلق المنافع الأرضية يتجدد دائما ولا يتوقف في وقت من الأوقات، فمن الضرورة أن يكون خلقها مسبوقا بخلق السماوات، وإن قيل بتقدم خلق الأرض قبل خلق السماوات.
والذي أختاره عدم الجزم بشيء في ذلك أو ترجيح رأي على آخر لعدم توفر دليل سمعي على صحة أي رأي - كما علمت - أما النظريات الحديثة فلا وجه للإِستناد عليها في مثل هذه الأمور لما يعتريها من الاضطراب، ويدخل عليها من التناسخ حتى لم تعد منها نظرية مستقرة، وإنما بإمكاننا أن نقول إن الأرض والأجرام السماوية كانت متصلا بعضها ببعض حتى تم الانفصال بينها؛ كما يدل عليه قوله تعالى:
{ { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } [الأنبياء: 30]، ولا أستطيع أن أقول إن الأرض انفصلت عن الشمس ذاتها أو عن المجموعة الشمسية ثم تقلبت في مدرجات الأطوار حتى وصلت إلى وضعها الحالي، لأن هذه النظرية معارَضَة بغيرها، وهي أن هذه الأجرام كانت كلها سديما ثم انفصلت وتطورت حتى استقرت على ما هي عليه، ولعل هذه النظرية أقرب إلى مدلول قول الله تعالى { وهي دخان }.
وقد أجاد الأستاذ الشهيد سيد قطب في قوله: "ويكثر المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق الأرض والسماء، يتحدثون عن القبلية والبعدية، ويتحدثون عن الاستواء والتسوية، وينسون أن قبل وبعد اصطلاحان بشريان لا مدلول لهما بالقياس إلى الله تعالى، وينسون أن الإِستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقربان إلى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود ولا يزيدان، وما كان الجدل الكلامي الذي ثار بين علماء المسلمين حول هذه التعبيرات القرآنية إلا آفة من آفات الفلسفة الإِغريقية والمباحث اللاهوتية عند اليهود والنصارى، عند مخالطتها للعقلية العربية الصافية، وللعقلية الإِسلامية الناصعة، وما كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة فنفسد جمال العقيدة وجمال القرآن بقضايا علم الكلام".
والسماء مأخوذ من السمو بمعنى الإِرتفاع، ولذا يطلق على كل مرتفع، وقد مر ذلك، وإذا أريد به الجنس فهو السماوات السبع، ولذا جاز عود الضمير إليه مجموعا عند بعض المفسرين في قوله: { فسواهن }، وقال بعضهم هو اسم جنس جمعي واحِدُه سماءة، وذهب الزمخشري إلى أن المراد بالسماء هنا جهة العلو، وأن الضمير مبهم فسره من بعد سبع سماوات، كما يقال ربه رجلا، وتعقبه أبو حيان بأن ذلك ليس من المواضع التي يجوز فيها عود الضمير على المتأخر، وقال فريق بأن سبع حال من الضمير، وذهب آخرون إلى أنه تمييز.
والذي يتجه لي أن { سبع سماوات } مفعول ثان لسوى، والضمير راجع إلى السماء، وإنما جُمع لرعاية ما تبعه من الجمع المخبر به عن مرجع الضمير، كما في قول امرئ القيس:

وبُدِّلت قرحا داميا بعد صحة فيالك من نعمى تحولن أبؤسا

والقول بانتصاب سبع على الحالية هو أضعف الأقوال؛ لأن الحال لا تكون إلا مشتقة أو مؤوّلة بمشتق.
وقد أخبر الله في هذه الآية - وفي كثير من الآي - أن السماوات سبع، ولا محيص لنا عن التسليم لما أخبر به العليم الخبير، غير أن من شأن الإِنسان حب الإِطلاع، واكتناه ما لم يصل إليه علمه، فلذا أطلق المفسرون لأفكارهم العنان في البحث عن المراد بالسماوات السبع، وقد هاموا في ذلك، وكثير منهم عول على أكاذيب أهل الكتاب فجاءت كتب التفسير مشحونة بما يجب أن ينزه كلام الله عن تبيانه به، خصوصا بعد اتضاح الدلائل وقيام الشواهد على كذب تلك الروايات التي عوّلوا عليها، والمرتبطون منهم بعلم الفلك - في القديم والحديث - فسروا السماوات السبع بما وصلوا إليه من علم الهيئة الكونية، وياللأسف فإنهم ضيّعوا مدلولها بما لا يتفق مع مراد الله سبحانه من بيان آياته للناس في عظائم مخلوقاته، فنجد المتقدمين منهم زعموا أن المراد بالسماء الأولى القمر، وبالثانية عطارد، وبالثالثة الزهرة، وبالرابعة الشمس، وبالخامسة المريخ، وبالسادسة المشترى، وبالسابعة زحل، ويفهم من ذلك أنهم يعنون أن السماوات هي المجموعة الشمسية، ومن حيث إن بعض هذه المجموعة لم يكن منكشفا لهم، وما عرفوه منها لم يصل إلى هذا العدد ضموا إليها القمر - وهو تابع للأرض - وضموا إليها الشمس نفسها لتكون سبعا، وممن نحا هذا المنحى الفخر الرازي، وقد أطال في الاستدلال لهذا القول بما كان معروفا عند علماء الهيأة في عصره.
ونجد المتأخرين يوافقون أسلافهم في تفسير السماوات بالمجموعة الشمسية السيارة غير أنهم يخالفونهم في عد الشمس والقمر منها، أما القمر فمن حيث كونه تابعا للأرض وليس مستقلا، وأما الشمس فلأجل كونها المركز الذي تدور حوله المجموعة، وعوّضوا عنهما السيارين المكتشفين من بعد؛ وهما أورانوس ونبتون، وعدوا اكتشافهما بعد اثني عشر قرنا من نزول القرآن من معالم إعجازه حيث عد السماوات سبعا، ولاحظ بعضهم وصف السماء الدنيا في القرآن بأنها مزينة بمصابيح، وذلك في قوله تعالى:
{ { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } [الملك: 5]، ومثله قوله: { { إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ } [الصافات: 6]، فحمل ذلك على المجموعة التابعة لأقرب سيار من الأرض - وهو عطارد - وهذا يعني أن السماوات هي هذه السيارات مع مجاميعها التابعة لها، والمتقدمون والمتأخرون متفقون على إخراج الأرض من هذا العدد، وذلك لأن المخاطبين مستقرون عليها، ومنها ينظرون إلى بقية السيارات.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالسماوات السبع السبعة الأفلاك، ورُد بأنها خطوط فرضية تجري فيها السيارات، وليست لها حقيقة قائمة.
وأرى هذه الأقوال كلها ليست في شيء من الصواب، وإنما أجنح إلى التعويل في معرفة السماوات على مدلول لفظها اللغوي، وما تحقق اكتشافه بالوسائل العلمية، فالسماء لغة كل عال، وقد ثبت علميا أن المجموعة الشمسية ليست إلا واحدة من المجاميع التي لا تُحصى في هذه المجرة التي تنتسب إليها هذه المجموعة، ويقدر قطر هذه المجرة بمائة ألف سنة ضوئية، وهي واحدة من سبع عشرة مجرة متآخية يقدر قطرها بمليوني سنة ضوئية، وهي تشتمل على ما لا يحصى عددا من الأجرام الفلكية، وإنما يُقدر بالتعادل النسبي مع ما في كل المجرات مائة مليار نجم في كل مجرة، وجميع المجرات المكتشفة إلى الآن خمسمائة مليون مجرة مضروبة في خمسين ألف مليار من الملايين - وقد سبق ذلك في الإِعجاز العلمي - فيبعد جدا أن ينوه القرآن دائما بالمجموعة الشمسية وحدها دون سائر ما في هذا الكون الفسيح لا سيما وأن مجموعتنا الشمسية - بما فيها الأرض - مرتبطة ارتباطا وثيقا بسائر الأجرام الفلكية في جميع المجرات برباط الجاذبية التي تتوقف على الدقة المحكمة في مقاييس هذه الأجرام بحسب أحجامها وحركاتها وطبائعها، وفي كل ذلك نعم جُلى من الله أسبغها على هذا الإِنسان المستخلف في الأرض.
ومن المعلوم أن خطاب القرآن ليس قاصرا على جيل معين، بل هو موجه إلى جميع الأجيال المتعاقبة على عمارة الأرض منذ نزوله مع اختلاف أطوارها العلمية، وقد علم الله أنه سيكشف لعباده هذه الأسرار الكونية، بل وعدهم بذلك في كتابه وجعله من دلائل كونه الحق، وذلك في قوله:
{ { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [فصلت: 52 - 53]، كما أشار إلى انطواء القرآن على أسرار الكون في قوله: { { قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الفرقان: 6]، فليس من المعقول مع ذلك كله أن يسكت القرآن عما عدا المجموعة الشمسية
من هنا يتضح أن السماء كل ما كان أعلانا من الفضاء المشتمل على هذه المجرات الهائلة التي تعوم فيها هذه الأجرام، وعلينا أن نؤمن بأنها سبع طباق كما أخبرنا تعالى، ولا يلزم أن نكون محيطين بكيفية انقسامها إلى سبع، فإن ذلك مما لم يجعله الله تعالى في حيطة علم الناس، اللهم إلا أن يخص به أحدا من رسله المصطفين الأخيار، على أني لا أستبعد أن تكون هذه المجرات المذكورة - مع كل ما فيها من أجرام - هي في طبقة السماء الدنيا، وأن تكون نجومها هي المرادة بالمصابيح في قوله تعالى: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ }، وبالكواكب في قوله: { إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ }.
فإن قيل ما للأرض وذكرها بجانب السماوات إن كانت السماوات كما وصفت من العظم؟ فإن الأرض لا تعد بجانبها إلا شيئا تافها. كيف وقد قيل إن الشمس أكبر منها بنحو مليون ضعف، وفي النجوم ما هو أكبر من الشمس بأضعاف مضاعفة؟
فالجواب أن الأرض ليست شيئا تافها لأنها مركز استقرار الإِنسان الذي كرمه الله وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا، وفوق ذلك فهي مقر النبوات، ومهبط الرسالات، فلا غرو إن حصلت لها هذه العناية في كلام الله، ومن ناحية أخرى فإن القرآن إنما يخاطب البشر، فلا ينبغي أن يخلو من تذكيرهم بنعمة الله تعالى عليهم بها وبما فيها، وفتح أبصارهم على آياته العظام التي تتجلى في كل شيء منها أو عليها، كيف وهي أول ما يفتحون عليه أبصارهم من آياته تعالى.
وذهب بعض المفسرين إلى أنه لا مفهوم للعدد وأن المقصود بالسبع المبالغة، وهو تفسير مرفوض تأباه شواهد القرآن في وصف السماوات.
بدائع الكون دليل القدرة والعلم:
وبما أن هذا الخلق البديع وترتيبه المحكم دليل قاطع على الصانع الخبير الذي نظم دقائقه بما يتلاءم مع الحكمة البالغة، ذيلت هذه الآية بقوله سبحانه: { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }، ولفظة شيء هي أعم العمومات لإِطلاقها على كل ما يُخبر عنه كما قال سيبويه وغيره، وما أدل هذا الكون الفسيح، ونظامه الرتيب، وجماله الباهر على علم موجده بكل شيء، وقدرته على ما يشاء، وما على الإِنسان - وهو جزء من هذا الكون - إلا أن يقرأ في صفحات هذا الوجود آيات الله الناطقة بإحاطة علمه وسعة قدرته، وعظم شأنه، وجلال سلطانه، لا إله إلا هو خالق كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء، منه المبدأ وإليه الرجعى وله الحمد في الآخرة والأولى، سبحانه عما يقول الظالمون، وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.