خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
٣
-البقرة

جواهر التفسير

معنى الإِيمان وأثره:
الإِيمان هو أساس الهداية، ومصدر التقوى وينبوع الفضائل، وأصله التصديق نحو قوله عز وجل:
{ { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا.. } [يوسف: 17]، ومأخذه من الأمن، لأن المصدق آمن مُحدثه التكذيب، والإِيمان بالغيب هو نقطة الافتراق بين أصحاب الفطر السليمة والنفوس الزكية والعقول الراسخة والأفكار الواعية، الذين يتصلون بما وراء هذا العالم المحسوس، ويدركون أنه محاط بقوة تقهره وإرادة تدبره، وأن الوجود لا ينحصر فيما تدرك الحواس، وأن الحياة ليست مقيدة بهذه الرحلة العابرة على ظهر الأرض، وبين الذين تكدرت فطرهم، وأظلمت نفوسهم، واضطربت عقولهم، وانغلقت أفكارهم، فلم يفهموا تفسيرا للوجود إلا ما وقعت عليه حواسهم المحدودة، ولا معنى للحياة إلا هذه الرحلة التي يقطعونها على ظهر الأرض، وهم الماديون المنحبسون في مضائق المادة؛ الذين سدوا على أنفسهم منافذ التفكير، وحالوا بين عقولهم ومسارح الاعتبار، فلا يتجاوزون حدود الحواس إلا في محيط الاكتشافات بالأجهزة التي هي في حقيقتها امتداد للحواس.
ويتضح بهذا الفارق بين الطائفتين، فالمؤمنون بالغيب ينطلقون بأرواحهم وعقولهم وقلوبهم في فسيح ملكوت الله الواسع، ويرون أن هدف الحياة أسمى من أن يكون من أجل شهوات الدنيا والتنافس على حطامها والتناحر على منافعها، بينما الذين يكذبون بالغيب لا يعرفون هدفا في الحياة إلا إرضاء العواطف المضطربة، وإشباع الغرائز المنهومة، ومن هنا يختلف سلوك الطائفتين، وتختلف موازين الأمور بينهما، فالمؤمنون بالغيب يلمحون في كل شيء المبدأ والمصير، فيحرصون على أن تكون أعمالهم كلها خالصة لِمُبْدِئِهم تعالى، ومنطبقة على المقاييس التي أنزلها، ومؤمنة لمصيرهم في الدار الآخرة.
ومن ثم كان الإِيمان بالغيب القاعدة الأساسية التي يقوم عليها العمل الاسلامي وينطلق منها المسلم في اتجاهه إلى ربه في جميع مجالات الحياة.
فالأنظمة كلها في الإِسلام يجب أن يكون بناؤها على هذه القاعدة، سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية. كما أن جميع التصورات والأفكار الإِسلامية لا تنشأ إلا عنها، ولا ترتكز إلا عليها، وبهذا تعلمون سبب تصدير صفات المتقين في هذه الآية بالإِيمان بالغيب، ولا ينبغي أن يفوتنا الحديث عن وضع كل من كلمتي الإِيمان والغيب:
أما الإِيمان؛ فقد ذكرت لكم في أول هذا الحديث أنه مأخوذ من معناه اللغوي وهو التصديق، ولوحظ هذا المعنى في الحقيقة الشرعية لهذه الكلمة، غير أن الشرع قد يطلقها على العقيدة وحدها، كما يستفاد من حديث جبريل - عليه السلام - في أركان الإِيمان، وهو:
"أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله" ، وعلى هذا المعنى يحمل الإِيمان عندما يعطف عليه العمل الصالح، وقد يطلقها عليها وعلى ما تستلزمه من صالح العمل، وتدل على ذلك صفات المؤمنين المبينة في القرآن كقوله تعالى في فاتحة سورتهم: { { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [المؤمنون: 1 - 11].
وقوله في سورة الأنفال:
{ { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الأنفال: 2 - 4].
وقوله في سورة الحجرات:
{ { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } [الحجرات: 15]. إلى غيرها من الآيات الواصفة للمؤمنين الكاشفة لخصال الإِيمان، وهي تدل على أن الإِيمان الصحيح هو ما اقترن به العمل الصالح، واجتناب المحرمات، ويؤكد هذا إطلاق إسم الإِيمان على بعض الأعمال كما في قوله تعالى: { { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [البقرة: 143] أي صلاتكم.
وروى الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"الإِيمان بضع وستون شعبة أعلاها كلمة لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" .
ومن أمعن في أصول الإِيمان وأركانه التي أتى بها حديث جبريل، يجدها تقتضي الاستقامة في الدين باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه والاقتصار على ما أباحه ومراقبة النفس مع ذلك مراقبة دقيقة لئلا تزل عن هذا المنهج السوي، ذلك لأن الإِيمان بالله وبصفاته وبأفعاله يستلزم حبه على ما أنعم، ورجاء بره وفضله، وخشية عقوبته ومكره، وهي كلها حوافز إلى طاعته، واجتناب معصيته، والإِيمان بملائكته يقتضي استشعار أعمالهم ووظائفهم، ومنها مراقبة الإِنسان وتسجيل أعماله وأقواله، { { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18]، { { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الانفطار: 10 - 12].
ومن شأن ذلك التيقظ والمراقبة الدقيقة للنفس حذرا من تورطها، وتسجيل السيئات عليها، وحرصا على الأعمال الصالحة التي ينقلب بها الملائكة الى ربهم وهم يشهدون بها.
والإِيمان بالكتب يفضي إلى اتباع هداها، والانتفاع بمراشدها. والإِيمان بالرسل يؤدي إلى حسن الاقتداء، وجميل التأسي بهم. والإِيمان باليوم الآخر أكبر داع إلى توطين النفس على الخير لتزوده لذلك اليوم؛ الذي يكون فيه كل أحد رهين عمله. والإِيمان بقضاء الله وقدره من مقتضياته تعلق النفس بالله وحده، وتوطنها على ما يصيبها من مكاره الدنيا.
من ذلك تجد الجم الغفير من علماء السلف يقولون إن الايمان ليس محصورا في الاعتقاد وإنما يصدق عليه مع ما يقتضيه من صادق القول وصالح العمل. وهذا القول هو الذي درج عليه أصحابنا ونقله عبد الرزاق في مصنفه عن سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وابن جريج ومعمر وغيرهم، ونقله أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة عن الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم، وروي بإسناد صحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإِيمان قول وعمل. وذكر ابن كثير في تفسيره أن الشافعي وأحمد بن حنبل وأبا عبيدة وغير واحد حكوا الإِجماع عليه وهذا هو الإِيمان المطلوب شرعا، وهو الذي يترتب عليه الفوز بنعيم الآخرة والنجاة من عقابها. وذلك معنى الفلاح في قوله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ }، ولا ينافي ما ذكرنا أنه يقصد بالإِيمان تارة الاعتقاد وحده، فإن الاعتقاد هو منشأ العمل كما ذكرت، ومن هنا كان الاقتران بينهما في كثير من الآيات وفيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاية في الدلالة على حقيقة الإِيمان الشرعي المطلوب، من ذلك ما أخرجه الشيخان عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ، فإن في هذا الحديث ما لا يخفى من كون الانصاف من النفس للغير من جوهر الإِيمان، وهو يقتضي استقامة التعايش الاجتماعي بين المؤمنين.
وفي حديث أنس أيضا عند الشيخين:
"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإِيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" ، وفي الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده" ، ورواه عن أنس - رضي الله عنه - في الصحيح مرفوعا بلفظ: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" ، ومن البدهي أن المحبة تستلزم متابعة المحبوب في أمره ونهيه، فمحبة الله ومحبة رسول صلى الله عليه وسلم لا تتحققان إلا بامتثال أمرهما والانتهاء عن نهيهما، وإذا كانت ثم أقوال لأصحاب الفرق في جوهر الإِيمان تخالف ما ذكرته، فإن المعول في فهم معناه وتجلية حقيقته على نصوص الكتاب والسنة، ثم على أقوال أسلاف الأمة الذين كانوا أغزر علما وأعمق فهما، وأقرب عهدا بزمن الرسالة. وفيما ذكرته من ذلك غني عن الاطالة.
وبناء على ما سلف من أن الايمان الشرعي يطلق على الاعتقاد الصحيح، ويطلق عليه مع اقترانه بصادق القول وصالح العمل، اختلف المفسرون في المراد بالإِيمان هنا، فعن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - أن المراد بيؤمنون؛ يصدقون. أخرجه ابن جرير عنهما. وروي عن الربيع بن أنس أن المراد به يخشون. وعن الزهري أن المراد به العمل. وأتبع ذلك ابن جرير قوله: "الإِيمان كلمة جامعة للإِقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإِقرار بالفعل. وإذا كان ذلك كذلك فالذي هو أولى بتأويل الآية وأشبه بصفة القول أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغيب قولا واعتقادا وعملا".
وحكى ابن كثير عن بعض المفسرين أن المراد بإيمانهم بالغيب تساوي غيبهم وشهادتهم في الإِيمان بخلاف المنافقين الذين أخبر الله عنهم بقوله:
{ { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [البقرة: 14]، وقوله: { { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [المنافقون: 1].
وعليه فقوله بالغيب حال من الضمير في يؤمنون، وهو يتفق مع تفسير الايمان بالخشية أو العمل وتفسيره بالخشية مستوحى من قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ } [الملك: 12]، وقوله: { { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } [ق: 33].
مفهوم الغيب وأثره:
وأما الغيب فما غاب عن علمك، واختلف المفسرون في كونه هنا صفة للمؤمن أو المؤمن به. وعلى الأول فقوله بالغيب حال من الضمير في يؤمنون - كما سبق - أي يؤمنون غائبين ومتعلق الإِيمان غير مذكور لعلمه من سائر الأدلة، واستدل له الزمخشري في كشّافه بما أخرجه سفيان بن عيينة وسعيد بن منصور وأحمد بن منيع في مسنده وابن أبي حاتم وابن الضباري والحاكم وصححه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: إن أمر محمد كان بينا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ.. إلى قوله .. ٱلْمُفْلِحُونَ }، ومن هذا الباب قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز:
{ { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } [يوسف: 52].
وعلى الثاني فالغيب هو متعلق الإِيمان، واختلف فيه، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه ما جاء منه - أي من الله جل ثناؤه -. أخرجه عنه ابن جرير وأخرج عنه وعن ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن الغيب ما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار، وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن لم يكن تصديقهم بذلك من قِبَل أصل كتاب أو علم كان عندهم، وهذا مبني على أن هذا الوصف خاص بمؤمني العرب كما سيأتي.
وأخرج ابن جرير أيضا عن زر بن حبيش قال: الغيب؛ القرآن، والظاهر أنه يعني بذلك ما حواه القرآن من أمور غيبية. وعن قتادة أن المراد به الجنة والنار والبعث بعد الموت ويوم القيامة. وعن الربيع بن أنس أنه قال: الذين يؤمنون بالغيب آمنوا بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه وآمنوا بالحياة بعد الموت. وقيل: الغيب؛ القضاء والقدر. وقيل: كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار. وقيل: هو الله سبحانه، وضعّفه ابن العربي.
وأنت تدري أن مفهوم الغيب يصدق على كل ما غاب عن الحواس، سواء اهتدى إليه الإِنسان بعقله أو دله عليه دليل الوحي، فيدخل في ذلك كل ما ذكره المفسرون، كما يدخل فيه كل ما دل عليه القرآن أو تواترت به السنة من أخبار الأمم البائدة، وأحوال الأحداث المستقبلة، فإن الإِيمان به إيمان بغير محسوس، بل يدخل فيه التصديق بالعبادات المشروعة المعلومة من طرق الأخبار الثابتة والعمل بها، بدليل ما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم عن تويلة بنت أسلم قالت:
"صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيليا فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت، فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أولئك قوم آمنوا بالغيب" .
وما أخرجه البزار وأبو يعلى والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب، قال: "كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنبئوني بأفضل أهل الإِيمان إيمانا، فقالوا: يا رسول الله؛ الملائكة، قال: هم كذلك ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها، قالوا: يا رسول الله؛ الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالته والنبوة. قال: هم كذلك ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها. قالوا: يا رسول الله؛ الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء. قال: هم كذلك، وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة. قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني، ويصدقوني ولم يروني، يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإِيمان إيمانا" .
وبما أن الإِيمان بالغيب المطلوب هو الإِيمان العميق الأثر، القوي التأثير، الذي يقود صاحبه إلى مناهج الخير والصلاح، ويبعد به عن مسالك الشر والفساد، وليس الايمان التقليدي الذي لا أثر له في سلوك صاحبه، ولا تأثير له على وجدانه ومشاعره، وصف الله سبحانه هؤلاء المؤمنين بصفات تدل على التزامهم موجب الإِيمان، وتكييف حياتهم بمقتضاه، وذلك بتصديق الإِيمان بالعمل.
إقام الصلاة أول صفات المؤمن:
وأول ما وصفوا به من الأعمال التي يلتزمونها تصديقا لايمانهم: إقام الصلاة، لأن الصلاة هي عمود الدين وإمام الواجبات العملية، والمحافظة عليها ركن من أركان الاسلام، ولأجل ذلك تتابع التأكيد عليها في القرآن حتى في أوائل السور نزولا، واقترنت بالترغيب والترهيب. ففي سورة العلق - وهي أول ما أنزل - يقول تعالى:
{ { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ } [العلق: 9 - 10]، وأمر بها سبحانه في سورة المزمل التي كان نزولها في أوائل العهد المكي، وذلك في قوله: { { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [المزمل: 20]. وبيّن أن المهتدين بالكتاب أول صفاتهم العملية وأبرزها إقام الصلاة كما في هذه السورة، وفي سورة النمل في قوله: { { هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } [النمل: 2 - 3]، ومثل ذلك في سورة لقمان في قوله: { { هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } [لقمان: 3 - 4].
وبيّن تعالى صفات نصرة الله من العبد التي تؤدي إلى نصرة الله للعبد، وصدَّرها بإقام الصلاة في قوله:
{ { ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَـاةَ } [الحج: 41] (الآية). وذكر إسماعيل - عليه السلام - فوصفه بقوله: { { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِٱلصَّـلاَةِ وَٱلزَّكَـاةِ } [مريم: 55]. وذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال: { { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ ٱلْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلاَة وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَـاةِ } [الأنبياء: 73]. وعندما وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف في الأرض في قوله: { { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ.. } [النور: 55] (الآية)، أتبع ذلك قوله: { { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [النور: 56]، تنبيها على أن أول أسباب النصر على الأعداء والاستخلاف في الأرض؛ إقام الصلاة، وفي سورة "المؤمنون" صدرت صفاتهم بالخشوع في الصلاة، واختتمت بالمحافظة عليها، في قوله تعالى: { { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } [المؤمنون: 1 - 2] - إلى قوله - { { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } [المؤمنون: 9].
وذكر تعالى المؤمنين أيضا في سورة الأنفال، فكان أول ما ذكر من صفاتهم العملية إقام الصلاة، وذلك في قوله:
{ { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [الأنفال: 2 - 3].
وشرط في تحقق الأخوة الدينية إقام الصلاة، حيث قال:
{ { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ } [التوبة: 11].
وفيه أيضا دليل على أن توبة الكافر مشروطة بإقام الصلاة، لأن الاسلام يتحقق بها، وكذلك مسالمة المؤمنين، كما يدل على ذلك قوله سبحانه:
{ { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [التوبة: 5]، وعلى ذلك نص حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عند الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإِسلام وحسابهم على الله" .
وإذا كانت صفات المؤمنين تبدأ غالبا بإقام الصلاة فإن صفات المشركين والمنافقين تصدر بتضييعها، كما في قوله تعالى: { { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلاَةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [مريم: 59]. وقوله في ذكر ما يكون من تساؤل بين أهل الجنة وأهل النار: { { فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ } [المدثر: 40 - 47]، فانظر كيف ذكروا أول ما ذكروا من أعمالهم التي سلكتهم في سقر، تركهم الصلاة، وقدموا ذلك على تكذيبهم بالدين، ففي هذا ما يكفي لأن يكون رادعا عن التهاون بالصلاة وباعثا على المحافظة عليها، وبجانب هذه الآيات المبينة لشأن الصلاة وقدرها في الاسلام وأثرها في النفس والمجتمع، وما تضمنته من وعد على إقامتها ووعيد على التفريط فيها، تضافرت كذلك روايات جمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تتعلق بالصلاة وأدائها، منها حديث ابن عمر الذي مر آنفا، وحديث في أركان الاسلام عند أحمد والشيخين، وحديث عائشة - رضي الله عنها - عند الربيع -رحمه الله - مرفوعا: "لكل شيء عمود وعمود الدين الصلاة وعمود الصلاة الخشوع" .
وأخرج الربيع عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا إيمان لمن لا صلاة له .." ، وروى الربيع عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس بين العبد والكفر إلا تركه الصلاة" ، ورواه الجماعة إلا البخاري والنسائي عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعا بلفظ: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" ، وروى أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم وصححه النسائي والعراقي عن بريدة قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر" ، وروى أحمد بإسناد رجاله ثقات، والطبراني في الكبير والأوسط عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة يوما فقال: "من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأُبَيْ بن خلف" . وذكر بعض العلماء مناسبة لذكر هؤلاء الأربعة دون غيرهم من الكفار، وهي أن مضيع الصلاة إما أن يكون ملكا فيشغله عنها ملكه، أو غنيا فيشغله عنها ماله، أو وزيرا فتشغله عنها وزارته، أو تاجرا فتشغله عنها تجارته، فإن كان ملكا حشر مع فرعون، وإن كان غنيا حشر مع قارون، وإن كان وزيرا حشر مع هامان، وإن كان تاجرا حشر مع أُبي بن خلف - وهو أحد تجار مكة الذين حاربوا الله ورسوله وقاوموا دينه وصدوا عن سبيله -.
وروى الربيع بن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخير الصلاة فقال:
"تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم يتحدث حتى إذا اصفرت الشمس وكانت بين قرني الشيطان ثم يقوم فينقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا" ، وأخرج الجماعة إلا البخاري وابن ماجة معناه عن أنس أيضا، وفي حديث أنس كذلك عن الربيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؛ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلك الرباط" قالها ثلاثا.
أثر الصلاة في تهذيب النفوس:
وإذا كانت العبادات المتنوعة التي شرعت في الإِسلام ذات أثر عميق في الإِصلاح النفسي والاجتماعي، وتنوير الفكر، وتهذيب الأخلاق، وإمداد العقيدة بالطاقات التي تمكنها من الهيمنة على العقل والقلب والروح والجسم والعواطف والغرائز، فإن الصلاة أعمق أثرا وأغزر عطاء، ولذلك شرعت متكررة في كل يوم دون غيرها، وهي بهذا التكرار تسد جانبا مهما من الفراغ الروحي، ذلك لأن للروح مطالب كمطالب الجسم، وقد هيأ الله سبحانه لكل منهما مطالبه بحسب مقتضى ضرورته إليها، فالجسم الحي أحوج ما يكون إلى الهواء فالماء فالطعام فالدواء، وكل ما كانت الحاجة إليه أدعى كان أيسر من غيره، فالهواء أيسر من الماء، والماء أيسر من الطعام، والطعام أيسر من الدواء، وذلك مثل مطالب الروح، وهي العبادات المشروعة، فما كانت الضرورة إليه أبلغ كانت ممارسته أيسر، ومن هنا كرر وجوب الصلاة في اليوم، وجعلت أيسر من سائر العبادات كالصيام والزكاة والحج.
حكمة مشروعية الصلاة:
ومعرفة حكمة مشروعية الصلاة موقوفة على إخبار الشارع الحكيم تعالى عنها، وفي كتاب الله المبين وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يغنينا عن التخمين في ذلك، فإذا تأملنا آي الذكر الحكيم وطالعنا مدونات السنة النبوية خرجنا بدليل قاطع على أن الصلاة إنما شرعت لذكر الله تعالى الذي يترتب عليه محق السيئات وتثبيط العزائم عنها، وتقوية عزائم الخير، وتواصل قلوب المؤمنين برباط الايمان، وذلك فيما إذا حافظ عليها العبد وأداها على النهج المشروع، ومن الآيات الواضحة في ذلك قوله تعالى:
{ { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [العنكبوت: 45]، وقوله: { { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } [طه: 14]، وقوله: { { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } [المعارج: 19 - 23]، وفي هذه الآيات الأخيرة بيان أن الصلاة بما لها من سلطان روحي وأثر نفسي تأتي على خصال جبلية مذمومة فتجتثها من نفس مَن داوم عليها، وهي وإن كانت مشتركة مع سائر أعمال البر في ذلك، كما يشهد به عطف هذه الأعمال عليها فهي أبعد أثرا منها، بدليل تقديمها عليها والتنويه بها مرة أخرى في نهاية سردها في قوله عز وجل: { { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } [المؤمنون: 9]، بل يشير ذلك إلى أنها سور للأعمال الصالحة جميعا. وفي سورة الماعون شاهد على أن التهاون بالصلاة منشأ لأعمال الشر، ذلك أن الله عز وجل ذكر فيها التكذيب بالدين ودّع اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين، ثم أتبع ذلك قوله: { { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } [الماعون: 4 - 5]، والسياق يقتضي أن يقول فويل لهم ولكن عدل عن ذلك فأتى بالاسم الظاهر مكان الضمير، وكان هذا المظهر المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، للدلالة على أن السهو عن الصلاة هو باب هذه الموبقات كلها، ويشهد لذلك العطف بالفاء التي تقتضي ربط ما بعدها بما قبلها، ورب قائل يقول: إذا كانت الصلاة مشروعة لتزكية النفس - حسب ما قلت - فما بال كثير من الناس يحافظون عليها في مواقيتها ويؤدونها مع الجماعات كما أمر بها، ومع ذلك ليس لها أي أثر نفسي عليهم فلا تردعهم عن المنكرات، ولا تمنعهم من الدنايا، ولا تبعثهم إلى الصالحات؟ والجواب عن هذا التساؤل أن الصلاة المؤثرة هي الصلاة المؤداة بحسب ما شرعت روحا وشكلا بحيث تشعر القلب عظمة الخالق المعبود وعظم منته وإحاطة علمه وقدرته، وشدة بطشه ونقمته، وسعة ثوابه ورحمته، فيستشعر بها المصلي افتقاره إلى المعبود، واستغناء المعبود عنه، وذلك داع إلى تحري مرضاته فيما يصدر عنه فعلا وتركا، أما الصلاة الخالية من هذه الروح فهي صلاة ميتة بعيدة عن هذه المزايا، لا يحصل منها أي أثر نفسي أو اجتماعي. وقد أجاد الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده إذ قسم الصلاة إلى عادة وعبادة، فالعادة هي صلاة أكثر العوام، فإن أحدهم وهو في طور الرشد والعقل إذا قام يصلي لم تختلف صلاته عنها في طور طفولته عندما كان يحاكي أباه فيها، والعبادة هي هيكل وروح، فالهيكل ما شرع من الأقوال والأفعال الظاهرة فيها المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، فهي لا تعدو أن تكون بمثابة الجسم الميت الذي لا حراك له ولا جدوى منه ما لم تقترن بروحها، وروحها الخشوع الذي يوصل القلب والعقل بالله عز وجل.
الخشوع روح الصلاة:
ومن ثم كان الفلاح منوطا بالخشوع كما في قوله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ }، وقد نص حديث عائشة - رضي الله عنها - السالف الذكر على أن الخشوع هو عمودها.
ولكون المحافظة على الصلاة الشرعية المستكملة لأركانها الظاهرة والباطنة هو من أعظم الواجبات الدينية، تضافرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتشنيع والوعيد على من يفرط في أي شيء من واجبات الصلاة، كأولئك الذين يحولون أبصارهم فيها تارة إلى الميمنة وأخرى إلى الميسرة، ويرفعون رؤوسهم إلى الأعلى مرة ويطأطئونها أخرى غير مبالين بآداب المناجاة التي يقتضيها المقام واستغناء المناجى وافتقار المناجي، وأولئك الذي يختلسون منها الركوع والسجود والطمأنينة، ويبدلون هيآتها، ومما ورد في ذلك حديث أبي هريرة، قال:
"نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث؛ عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب" . وروى أحمد ومسلم وأبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، وكان إذا ركع لم يرفع رأسه ولم يصوبه وكان بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما، وإذا رفع رأسه من السجود لم يسجد حتى يستوي جالسا، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عقب الشيطان، وكان ينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختتم الصلاة بالتسليم.
وروى الربيع عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنه نهى المصلي أن يقعي في صلاته إقعاء الكلب، وأن ينقر فيها نقر الديك أو يلتفت فيها التفات الثعلب أو يقعد فيها قعود القرد. قال الربيع: إقعاء الكلب أن يفرش ذراعيه ولا ينصبهما، وقعود القرد أن يقعد على عقبيه وينصب قدميه، قال: ومن فعل شيئا من هذه الوجوه الأربعة فعليه إعادة الصلاة. وروى أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود
"عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلفت في الصلاة، قال: اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد" . وروى الترمذي وصححه عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة هلكة .." (الحديث). وروى أحمد والنسائي وأبو داود عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرف وجهه انصرف عنه" .
وروى الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لينتهين أقوام عن رفع رؤوسهم في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم" ، وروى من طريقه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة - واشتد ذلك عليه حتى قال - لينتَهُنَّ عن ذلك أو لتُخْطَفَنَّ أبصارهم" ، "وروى أحمد والشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ارجع فصَلِّ فإنك لم تصل، فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبّر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" . وروى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده" ، وروى أحمد وابن ماجة عن علي بن شيبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الركوع والسجود" ، وروى أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي عن أبي مسعود الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجزىء صلاة لا يقيم فيها الرجل صلبه في الركوع والسجود" ، وروى أحمد والبخاري عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته دعاه، فقال له حذيفة: ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم.
صفة الصلاة الصحيحة:
وبالجملة فإن الأدلة متضافرة على أن الصلاة الصحيحة المقبولة عند الله هي الصلاة المصحوبة بالطمأنينة والسكينة، المقترنة بروحها ومصدر سلطانها - وهو الخشوع - وبدون ذلك لا يكون لها على النفس سلطان ولا في الحياة أثر، فإنها تُعد ميتة لا تغني شيئا ولا تحيي قلبا، وأذا أردت أن تعرف حقيقة ذلك فأمعن فكرك فيما تقوله في صلاتك مستحضرا معانيه، مستشعرا عظمة الله المعبود الذي أنت واقف بين يديه، تجد كل كلمة تلفظ بها دافقة بمعنى حيوي يسري في نفسك كما تسري الروح في جسمك، وأول ما تنطق به التكبير، وبه تدخل في صلاتك، وهو يسكب في نفسك شعورا بأن كل ما في الوجود - وإن عظم شأنه وعلا قدره عند الخلق - هو صغير حقير بجانب كبرياء الله تعالى وعظمته، إذ ليس من المعقول أن يقارن بين الخالق والمخلوق، وبين القديم والحادث، وبين الباقي والفاني، فالمخلوق مهما أوتي من قوة أو سلطان فهو نسبي في حدوده لا يوازي شيئا بجانب قوة الله المطلقة، وسلطانه المهيمن على الوجود، وإذا استشعرت هذه الحقيقة كان لها أثر نفسي عليك؛ لأنك إما أن تكون من ذوي القدر والمكانة عند الناس بمنصبك، أو مالك، أو جاهك ووجاهتك، وإما أن تكون من الذين تتجاوزهم الأنظار ولا زنة لك عند الناس لضعفك المادي، ولضعة قدرك بينهم، فإن كنت من الصنف الأول، كان نطقك بتكبير الله عز وجل كافيا في تنبيه قلبك الغافل، وإيقاظ بصيرتك النائمة بأنك لا مزية لك على غيرك من الناس، فأنتم جميعا متساوون في الضعف، والفقر، والذلة والمسكنة أمام الله، وليس ما أوتيته - مما تظنه أو يظنه غيرك مزية وعلوا لقدرك - إلا ابتلاء من الله تعالى مالك الملك ذي الطَّول والحول الذي يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، ويهب النعمة من يشاء، ويسلبها ممن يشاء، وله ما آتى وما نزع، وبيده ما وهب وما سلب، فيكون لك من ذلك دواء لغرورك، وكبح لشرورك، لأنك تستشف بهذا الشعور عيوبك المتنوعة، سواء ما كان خاصا بك أو كان مشتركا بينك وبين الناس، وتدرك أنك واحد من العباد المفتقرين إلى الله لا مزية لك بينهم، ولا فضل لك عليهم إلا بقدر ما تتقي ربك، وتتقرب إليه بالتذلل والخضوع والخشية والخشوع، وذلك ينافي ما أنت فيه من الغرور والاستكبار والتطاول على الناس بما ابتلاك الله به.
وإن كنت من الصنف الثاني كان شعورك بما يوحيه التكبير كافيا لأن يرفع من قدرك، فلا ترضى أن تنزل منزلة المهانة والذلة بين الناس بسبب فقرك أو ضعفك، فإنهم مثلك، وكلكم في الضعف سواء، ولئن كان بعضهم أوتي ما لم تؤته من أسباب القوة ووسائل النعيم في الحياة الدنيا؛ فإن ذلك لا يعدو أن يكون ظلا زائلا، وخيالا عابرا، وإذا أنت تقربت إلى الله بصالح الأعمال، واستمسكت بعروة التقوى كنت أجدر منهم بالعزة، وأولى منهم بالكرامة، وهذا الشعور نفسه كفيل بتحرير نفسك من الذل لغير الله وجعلك تقصر خضوعك على مقام الربوبية، فما أعظم هذه التربية النفسية للمصلين، سواء كانوا من الفريق الأول أو الثاني.
وإذا شرعت في التلاوة وافتتحتها بالاستعاذة عملا بقول الله تعالى:
{ { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } [النحل: 98]، شعرت أنك تلجأ إلى حمى الله المنيع هروبا من الشيطان ووساوسه ومكائده، وفي ذلك ما يوقظ نفسك لما يريد بك الشيطان من سوء، وما يقصدك به من إضلال، فهو عدوك الذي لا ينفك عن الكيد لك؛ حتى يرديك في الجحيم إن لم يتداركك الله بلطفه، ويعصمك منه بحوله، وهذا يقتضي أن لا يكون لجوؤك إلى الله لجوءا قوليا فحسب، بل لجوءا قلبيا وعمليا بحيث تُستنفَد طاقتك في مقاومة مكائد إبليس بالطاعات التي تؤهلك للدخول في حمى الله، أما إذا قلت ذلك بلسانك فحسب، وكان قلبك وجوارحك في قبضة الشيطان، لم يغنك هذا القول شيئا، وإنما يكون مثلك مثل الأسير في قبضة عدوه لا يستطيع الانفلات منه، وهو مع ذلك يدعي بلسانه أنه هارب من ذلك الأسر، ولاجىء إلى حمى أحد الملوك، وكيف يكون لمثله اللجوء وقد أحاطت به حبال الأسر، ومنعته من قصده قيود القهر.
فإذا نطقت بالبسملة استشعرت عظمة الموقف الذي أنت واقفه، وقدر العمل الذي أنت عامله، فإنك واقف بين يدي الله، وعامل باسمه، ومن شأن ذلك أن يوحي إليك أنه لا اعتداد بشيء ما لم يكن لله تعالى خالصا، فإذا قلت { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } شعرت بفيض من نعم الله تعالى يغمر جوانبك ويملأ وجودك ووجود كل شيء، فإن كون الحمد محصورا في الله سبحانه دليل على أنه مصدر كل نعمة، وهذا داع إلى قطع حبال التعلق بغيره تعالى؛ لأجل تحقيق منفعة أو دفع مضرة، ويؤكد ذلك وصفه بأنه رب العالمين، فهو مشعر بخضوع كل ما في الوجود لعزه وسلطانه، وافتقار كل كائن إلى فضله وإحسانه، فما من ذرة في الكون إلا وهي واقعة تحت حيطة قدرته، معلنة بلسان حالها افتقارها إلى فضله ومنته، وشعورك بذلك يقوي صلتك به تعالى بحيث لا ترى غيره أهلا لأن يرجى أو يتقى، كما يستدعي أن تكون في أحوالك المتقلبة، وتصرفاتك المتنوعة تتحرى مرضاته، وتجانب سخطه، ولا ريب أن قلبك - في مثل هذا الموقف الذي تتجلى فيه آيات توحيده تعالى، وتشاهد شواهد عظمته وجلاله - تغمره الدهشة وتمتلكه الهيبة، غير أنك إذا قلت { الرحمن الرحيم } أحسست بالسكينة تسري في نفسك، وتمتزج بدهشتك، وبالطمأنينة تزاحم الهيبة في قلبك، فتتعادل فيه كفتا الخوف والرجاء، لأنك تستشعر أن ربوبيته تعالى - مع جلاله الباهر وسلطانه القاهر - هي ربوبية رحمة وإنعام وفضل وإحسان، ويقوي هذا التعادل إذا ما قلت: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } واستشعرت خطورة ذلك الموقف الذي تَمْثُل فيه بين يدي رب العالمين، وقد تجردت من كل ما خولته في الدنيا، وقطعت جميع علائقك بأحبابك ونصرائك فيها، لتعرض عليك أعمالك السيئة والحسنة فلا يخفى منها خافية، وأنت بين الجنة والنار، أولاهما عن يمينك والثانية عن شمالك، لا تدري إلى إيهما منقلبك والله بك محيط لا مهرب لك عنه، ولا نصير لك دونه، وفي شعورك بهذا تقوية لعزائم الخير في نفسك، وكبح لعزائم الشر التي يمليها عليك هواك. فإذا قلت { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، أحسست بتضاعف الهيبة، لأنك انتقلت إلى خطاب الله تعالى خطاب الحاضر، ومضمون الخطاب نفسه يستلزم منتهى الخضوع والوصول إلى أقصى حد في التواضع، لأن معنى خطابك تقديم عبادتك إليه تعالى وهو غني عنك وعنها، وإنما هي وظيفتك التي لأجلها خلقك، ورفع قدرك بما بسط لك من نعمه وسخر لك من خلقه، فقيامك بها إنما هو شرف لنفسك ومنفعته عائدة إليك.
وهذا الخطاب منك يقتضي عدة أمور، منها: صدق المقال، وإخلاص السريرة، وتعظيم المقام، والاستمرار على الخضوع المطلق للمعبود، وطاعته الدائبة، والعطف والرحمة بعباده. فإن الله علمك في هذا الخطاب أن تشرك نفسك مع غيرك من عباده العابدين، ولم يعلمك أن تخاطبه بصيغة فردية، التي تقتضي استقلالك عنهم، وفي هذا ما يقتضي وحدة الأمة المؤمنة القائمة بعبادة ربها، وحدة عامة في الشعور والإِحساس، وفي القول والعمل، وفي المبادىء والأهداف، وفي الآلام والآمال. فإذا قلت: { وإياك نستعين } شعرت بقيمتك عند خالقك، إذ لم يجعل بينك وبينه وسائط تستعين بها في طلب محبوب أو اتقاء مخوف، كما أنه لم يجعل بينك وبينه وسائط تعبدها دونه، فالعبادة والاستعانة خاصتان به تعالى وذلك فيما لم يجعل الله التعاون فيه بين الناس من سنن كونهم ونواميس حياتهم - كما تقدم تفصيله في تفسير الفاتحة الشريفة - وفي شعورك بهذا تخليص لك من التشبث بالأوهام، كالضراعة إلى الموتى في القبور، أو الى الأشجار والأحجار، أو العيون والأنهار، أو الجن والشياطين، في طلب فكاك من معضلة أو وصول إلى هدف. فإذا قلت: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }، شعرت أنك أمام طريقين:
طريق الهداية والاستقامة المؤدي إلى نعمة الله تعالى بالتوفيق والفوز بالرضوان، وهو الذي وفق الله لسلوكه عباده الصالحين من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحُسن أولئك رفيقا.
وطريق الضلال والانحراف المؤدي إلى غضب الله وعقوبته، وتتشعب منه مسالك لا تحصى كلها ملتوية مطموسة المعالم، وهو طريق الفريق الآخر الذي نكب عن صراط الحق، وتعرض لغضب الخالق سبحانه.
وفي هذا الشعور ما يدعو إلى التبصر في مسالك الحياة والدؤوب على اتباع الحق، واجتناب الباطل، ويدعو إلى الترابط المديد بين أهل الحق، أسلافهم وأخلافهم، فلا تخرج أجيالهم عن كونها حلقات متواصلة في سلسلة واحدة.
وهكذا شأن الخاشع في صلاته في كل ما يتلوه من القرآن وما يكرره من تكبير وتسبيح وتعظيم، وجميع حركاته من قيام وقعود وركوع وسجود.
فإذا أدى صلاته على هذا النحو خرج منها طاهر الروح، زكي النفس، نقي الوجدان، مرهف الحس، مهذب الأخلاق.
فإذا خاض من بعد غمار الحياة وكاد يتلوث من جديد بدخانها وغبارها، عاد إلى هذا المعين الفياض فارتمى فيه وتطهر من أوضاره وتخلص من أكداره، وهكذا تتكرر العملية في اليوم والليلة خمس مرات، فضلا عن الرواتب والنوافل.
وقد صور رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأثر النفسي للصلاة وتطهيرها باطن الانسان من الأرجاس المعنوية في صورة المحسوس المألوف - وهو الطهارة الحسية - حيث قال صلى الله عليه وسلم:
"أرأيتم لو أن على باب أحدكم نهرا جاريا غمرا ينغمس فيه كل يوم وليلة خمس مرات أيبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس" ، وهو مثل أراد به صلى الله عليه وسلم إفهام العقول وتقريب المعاني، فإن النفس آلَفُ للمحسوس وأدرك لحقيقته، وإلا فشتان بين نقاء الظاهر ونقاء الباطن، وطهارة الجسم وطهارة الروح.
معنى الإِقامة ومغزاه:
والذي يلاحظ أن الأمر بالصلاة في القرآن لم يأت بلفظ صلوا، وكذلك الثناء لم يكن للمصلين من غير اقتران بذكر إقامة الصلاة، أو المحافظة والمداومة عليها، بل نجد أن الأمر أكثر ما يكون بإقامة الصلاة، وقد يأتي بلفظ المحافظة عليها كما في قوله عز من قائل:
{ { حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَاتِ وٱلصَّلاَةِ ٱلْوُسْطَىٰ.. } [البقرة: 238]، وكذلك الثناء يختص بالمقيمي الصلاة والمحافظين عليها، والمراد بكل من إقامة الصلاة والمحافظة عليها؛ الإِتيان بها مستكملة جميع أركانها وهيئاتها وآدابها الظاهرة والباطنة، بل مدلولهما الحقيقي توفية الصلاة حقها والقيام بكل لوازمها. والدليل على أن ذلك هو المراد بالإِقامة قوله تعالى: { { يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } [المائدة: 68] أي حتى توفوهما حقهما من العلم والعمل، وقوله تعالى: { { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [المائدة: 66]، وفي هذا ما يكفي دليلا على أن الصلاة التي أُمر بها الناس، والتي أثنى الله بها على عباده المؤمنين؛ هي الصلاة التامة الأركان، المستوفية الشروط، المعتدلة الهيئات، الممتزجة بروحها وهي الخشوع.
وذكر أئمة التفسير وجوها في معنى الإِقامة غايتها واحدة، وإن اختلفت ألفاظها باختلاف أنظار قائليها.
أحدها: أن المراد بها الإِتيان بها مستوية، كالجسم القائم الذي لا انحناء فيه.
ثانيها: أنها بمعنى المداومة عليها؛ من قولهم قام على الشيء إذا داوم عليه، واستدل له بقوله تعالى:
{ { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } [المعارج: 23]، وقوله: { { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } [المؤمنون: 9].
ثالثها: أنها مأخوذة من إقامة السوق؛ إذا أعد لها الإِعداد التام، حتى تصير رائجة الزبائن؛ لأنها بالمحافظة التامة عليها تكون كالبضاعة النافقة التي تتجه إليها الأنظار ويتنافس فيها التجار، بخلاف ما إذا أهملت، ومنه قول الشاعر:

وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا حتى تقيم الخيل سوق طعان

وقول آخر:

أقامت غزالة سوق الطعان لأهل العراقَين حولا قميطا

وقول غيره:

أقمنا لأهل العراقين سوق الضـ ـراب فخاسوا وولوا جميعا

رابعها: أن إقامتها عبارة عن استجماع الهمة وتحريك العزيمة لأدائها؛ من قولهم قام بالشيء إذا اشتدت به همته، وبالغ بالعناية بإتمامه، ويقال في الضد: قعد عن الشيء أو نام عنه، إذا استخف به، ولم يتمم لوازمه، ومن المعلوم أن القيام في العمل لا يكون إلا لداعي الاهتمام به، كقيام الخطيب في خطبته فإنه دليل على اهتمامه بما يتحدث به وحرصه على وصوله إلى مسامع الحاضرين، وولوجه إلى أذهانهم، وامتزاجه بأفهامهم، وكذلك قيام الصانع في صنعته، وهكذا، ويدل كذلك على صعوبة ما يمارسه القائم من القول أو العمل.
وثَم وجه آخر؛ وهو أن ذكر الإِقامة جاء تنويها بالقيام في الصلاة، لأنه ركن من أركانها، وجزء مهم من أعمالها، ولاحظ عليه قطب الأئمة -رحمه الله - في الهيميان بأن الجزء الذي يذكر عن الكل يلزم أن يكون جزءا مهما، وكل من الركوع والسجود أدل على الخضوع وأقرب إلى الخشوع من القيام، فكيف يذكر دونهما مع قصد الصلاة نفسها، وأجاب عن هذه الملاحظة بأن للقيام في الصلاة أهمية لا تقل عن أهمية الركوع والسجود، لأنه يدل على غاية الامتثال ومنتهى التذلل. ومثله فيها مثل ما يكون من المحكومين أمام الحاكمين، والمرؤوسين أمام الرؤساء، ومن هنا أمر الله تعالى بالقيام بين يديه في قوله:
{ { قُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } [البقرة: 238] وذلك في الصلاة قطعا.
وما ذكرته أولا من تفسير إقام الصلاة معناه محكي عن بعض السلف، فقد أخرج ابن جرير عن عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: المراد "بيقيمون الصلاة" أنهم يقيمونها بفروضها، وروي عنه من طريق الضحاك أنه قال: إقام الصلاة تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع، والإِقبال عليها فيها، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة: أن إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، ولا يعد هذا اختلافا بينهم لأنه ناشىء عن اختلاف مقامات السؤال بحسب أنظار المجيبين إلى أحوال السائلين، أو إلى الظروف الملابسة لسؤالهم، وقد تقدم أن مثل هذا لا يعد خلافا.
وأكثر المفسرين على أن المراد بالصلاة هنا الصلوات المفروضة لأنها هي التي يتوقف عليها الفلاح، كما في حديث الأعرابي:
"أفلح إن صدق" ، ونسب ذلك ابن جرير إلى الضحاك، ونسب أيضا إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - ولا مانع من دخول صلاة النفل فيها تبعا، نظرا إلى أن من صفات المتقين المسابقة إلى كل ما يقربهم إلى الله كما شأنهم، وكما يدل عليه وصفهم في القرآن.
معنى الصلاة لغة واصطلاحا:
وأصل الصلاة عند العرب الدعاء، ومنه قول الشاعر:

تقول بنتي وقد قربت مرتحلا يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوما فإن لجنب المرء مضطجعا

وقول غيره:

وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم

وقول الأعشى:

لها حارس لا يبرح الدهر بيتها وإن ذبحت صلى عليها وزمزما

ويرى ابن جرير أن الصلاة نقلت من هذا المعنى اللغوي إلى معناها الشرعي - وهو العبادة المخصوصة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، المشتملة على القيام والقعود والركوع والسجود مع التلاوة والتسبيح والتعظيم - لأن المصلي متعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله لعمله مع ما يسأل ربه فيها من حاجاته؛ تعرض الداعي بدعائه ربه لاستنجاح حاجاته وسؤله.
وذهب بعض المفسرين إلى أنها مأخوذة من اللزوم من قولهم: صليَ النار. ومنه قوله تعالى:
{ { تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً } [الغاشية: 4] وذلك لأن المصلي يلازم العبادة حسب ما أمره الله، وقيل: هي مأخوذة من تصلية العود بالنار لأجل تقويمه وتليينه، لأن المصلي يقوِّم نفسه بخشوعه وخضوعه في الصلاة، وذهب الزمخشري إلى أنه مأخوذ من الصلا وهو عرق في الظهر يفترق عند عجم الذنب فيكتنف جانباه الوركين، ويسميان الصلوين، وهذا لأن المصلي يحرك صلويه في ركوعه وسجوده، وتابعه على رأيه جم غفير، غير أن الفخر الرازي بالغ في انتقاد قول الزمخشري، مدعيا أن كلامه يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة، وذلك لأن لفظ الصلاة من أعظم الألفاظ شهرة، وأكثرها دورانا على ألسنة المسلمين، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء عن الاشتهار فيما بين أهل النقل، ولو جوز أن يكون ذلك أصل مسمى الصلاة، ثم خفي واندرس حتى صار لا يعرف إلا عند الآحاد، لكان مثله جائزا في سائر الألفاظ، ولو جوز مثل ذلك لما جاز القطع بأن مراد الله تعالى من هذه الألفاظ يتبادر إلى الأذهان من المعاني، لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول ذات معان أخر، وهي المرادة منها، ولما بطل ذلك بالإِجماع بطل الاشتقاق الذي ادعاه الزمخشري.
وتعقبه ابن عاشور بأنه لا مانع من أن يكون لفظ المشهور منقولا من معنى خفي لأن العبرة في الشيوع بالاستعمال، وأما الاشتقاق فبحث علمي، وعضد ذلك بقول البيضاوي واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله منه وأيد ابن عاشور قول الزمخشري بأن الصلاة مأخوذة من الصلا بما معناه أن كتابة الصلاة في المصاحف بالواو تشير إلى اشتقاقها من الصلا، إذ لو لم تقصد الاشارة إلى ذلك لما كان وجه لكتابته بالواو، وإنما ذلك نظير صنيعهم في كتابة الزكاة والربا والحياة بالواو إشارة إلى أصلها، وانتقد ابن عاشور توجيه الزمخشري في كشافه كتابتها بالواو بأنها ورادة على لفظ المفخم، أي لغة تفخيم اللام من حيث لم يصنع مثل ذلك في غيرها من اللامات المفخمة.
وقيل: هي مأخوذة من المصلي في حلبة السباق، وهو يأتي بعد المجلي، وقد روعي في هذا الأخذ مجيئها تالية للركن الأول من أركان الاسلام، والمجلي هو الأول من الخيل في حلبة السباق، والمصلي الذي يليه، لأنه يأتي ورأسه بين صلوي سابقه.
ولا يتبادر من هذه الآراء إلا الأول وهو أنها مأخوذة من الصلاة التي هي الدعاء، لأن كلا من الداعي والمصلي لاجىء إلى الله عز وجل، راج منه الفوز بالمطلوب والوصول إلى المحبوب، وأرى أن سائر الأقوال لا تخلو من تكلف، وإذا كانت كتابة الصلاة في المصاحف بالواو تشير - حسبما يقول ابن عاشور - إلى أصل اشتقاقها فإن هذا لا يدل على صحة هذا الاشتقاق بحيث لا ينازع فيه، فإن الكتابة لا تعدو أن تكون اصطلاحا ناشئا عن اجتهاد بعض السابقين، وقد تابعهم عليه من جاء بعدهم، وذلك لا يقتضي أن ما اصطلحوا عليه حجة قاطعة في بيان أصول الاشتقاق، ولو كان الأمر كذلك لاتفقت كلمة مفسري السلف على ما تقتضيه هذه الاشارة المزعومة من أن الصلاة من الصلا، وقد علمت مما تقدم أن آراءهم تخالف ذلك، ولعل الزمخشري لم يسبق إلى المذهب الذي اختاره، فكيف يكون أمر اصطلحوا عليه دليلا على خلاف ما ذهبوا إليه؟
وقد أجاد الأستاذ الإِمام في قوله: الصلاة إظهار الحاجة والافتقار إلى المعبود بالقول أو العمل، وهو المراد بقولهم: الصلاة معناها الدعاء، لأن إظهار الحاجة إلى العظيم الكريم ولو بالفعل فقط، التماس للحاجة واستدرار للنعمة أو طلب لدفع النقمة، أرأيتم أولئك الذين يقفون بين أيدي الملوك ناكسي رؤوسهم حاني ظهورهم، وتارة يقعون على أقدامهم يقبلونها، أليس الباعث على هذا العمل إما خوف من عقوبة يطلبون به دفعها وإما حذر على نعمة يتقون سلبها ورفعها فيلتمسون بقاءها ويرجون زيادتها ونماءها؟ هذه الصلاة كانت توجد عند بعض الجاهليين وهم الذين كانوا يعرفون بالحنيفيين والحنفاء، وعند بعض أهل الكتاب - ثم قال - والصلاة بالمعنى الذي ذكرناه قد ظهر في الإِسلام في أفضل أشكاله، وهو تلك الصلاة التي فرضها الله على المسلمين، فإن هذه الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم على النحو الذي جاءت به السنة المتواترة من أفضل ما يعبر به عن الإِحساس بالحاجة إلى المعبود، وشعور الأنفس بعظمته لو أقامها المصلون وأتوا بها على وجهها.
ومما ذكره تتضح لك المناسبة بين الصلاة التي هي الدعاء والصلاة التي هي العبادة المعروفة، ولذلك أطلق عليها اسمها.
والصلاة مصدر صلَّى، والأصل في نحوه مما جاء على وزن (فعَّل) وهو معتل اللام أن يكون مصدره على وزن تفعلة، كزكّى تزكية، ونمى تنمية، ولكن خولف هذا الأصل هنا لئلا تلتبس هذه العبادة المقدسة بالتصلية بالنار إن جاءت على لفظها، حتى أن بعض كبراء أئمة اللغة زعم أنه لم يستعمل في كلام العرب لفظ التصلية بمعنى الصلاة، وليس كذلك، فقد نقل بعضهم استعماله بهذا المعنى وهو نادر، ومنه قول الشاعر:

تركت القيان وعزف القيان وأدمنت تصلية وابتهالا

وفي نقل الصلاة وأمثالها من الحقائق الشرعية عن أصولها اللغوية مجال واسع لمناقشات علماء أصول الفقه وغيرهم، فمن أراد الاطلاع على ذلك فليرجع إلى الكتب الخاصة بهذه الفنون.
الإِنفاق ركيزة من ركائز الإِيمان:
وبعد تثنية وصف المتقين بإقام الصلاة ثلّث بالإِنفاق من رزق الله، وقد تتابعت هذه الصفات حسب أهميتها وترتبها الواقعي، فالايمان بالغيب - كما سبق - هو القاعدة الأساسية التي تقوم عليها الأعمال الصالحة وتنبثق منها الفضائل، وهو صفة لازمة للمتقين لا تنفك عنهم في جميع الأحوال، والصلاة هي إمام الأعمال البدنية، وأقواها في تهذيب النفس وتقويم السلوك، وأجداها في إمداد العقيدة لما فيها من التذكير بالله وسلطانه وإحسانه - كما تقدم تفصيله - وهي أكثر الوظائف اليومية للمسلم تكررا.
والإِنفاق من رزق الله هو الركن المالي الاجتماعي من أركان هذا الدين، وبه يتم تماسك المجتمع وترابط الأمة، لأن الله تعالى اقتضت حكمته أن لا يستقل أحد من الناس بمصالحه الحيوية، مهما أوتي من بسطة في الجسم وسعة في الرزق ونبوغ في التفكير، وبالانفاق من رزق الله من عباده الأغنياء على إخوانهم الفقراء يحصل بينهم التعاون الذي يترتب عليه التعايش السلمي والاستقرار النفسي والاجتماعي، وقبل حديثي عن الانفاق يحسن أن أتحدث عن الرزق من حيث مفهومه اللغوي والديني.
معنى الرزق لغة واصطلاحا:
الرزق مأخوذ من رزق يرزق رَزْقا - بالفتح - إذا أعطى، وهو بالكسر إسم للشيء الذي يرزق ويحصل به الانتفاع، وقيل: هو مصدر أيضا وهو عند أهل اللغة بمعنى النصيب أو الحظ كما في قوله تعالى:
{ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ .. } [الواقعة: 82] أي حظكم التكذيب، وروى ابن السكيت عن أزد شنؤه أنه بمعنى الشكر وحمل عليه الآية، وروي عن بعضهم أن الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل.
وأبطله الفخر نظرا إلى أن الله أمر عباده أن ينفقوا مما رزقهم في قوله:
{ { أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم } [البقرة: 254] فلو كان الرزق هو المأكول لما أمكن إنفاقه، وحكى الفخر عن جماعة بأن الرزق هو ما يُملّك، وأبطله أيضا لجواز أن يقول الانسان اللهم ارزقني ولدا صالحا، وامرأة صالحة، وعقلا يسوسني إلى الخير، مع أنه ليس من المعقول أن يملك أحد عقله، كما أنه ليس من المشروع أن يملك ولده أو امرأته.
وفيما قاله نظر، لأن من الظاهر أن المراد من قول القائل أن الرزق هو ما يؤكل ويستعمل، ما جرت العادة بأكله واستعماله، ولا يلزم أن يكون المرزوق هو الذي يأكله أو يستعمله، وإنما يكفي في اعتباره مرزوقا إياه؛ تمكنه من أكله أو استعماله.
وقول القائل اللهم ارزقني ولدا صالحا أو امرأة صالحة أو عقلا أعيش به، لا ينافي أن يكون المرزوق مالكا لرزقه، لأن الملك إما أن يكون ملك عين، أو ملك منفعة، ولا يشك أحد أن الانسان مالك للمنفعة التي تحصل له من ولده أو امرأته أو عقله.
نعم يصح أن يعترض بجواز ما ذكره على القول السابق، واختلف علماء الشرع في تعريف الرزق، فقال أبو الحسين البصري: هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء، والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به.
وذهب بعض الأشاعرة إلى أنه؛ ما ساقه الله تعالى إلى الحيوان فانتفع به، سواء كان حلالا أو حراما من المطعومات أو المشروبات أو الملبوسات أو غير ذلك.
وقيل: هو اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان ليتغذى به، وعلى هذا فالرزق قاصر على ما يطعم دون سائر المنافع.
والأقرب شمول الرزق لكل ما ينتفع به، بدليل جواز قول القائل: اللهم ارزقني ولدا صالحا أو امرأة صالحة أو مسكنا واسعا. وحصر الرزق في المطعومات مما لم يقم عليه دليل، بل الدليل قائم على خلافه، فإن الله قال في قارون:
{ { وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ } [القصص: 76] ثم حكى الحوار الذي كان في شأنه بين الذين أوتوا العلم والذين يريدون الحياة الدنيا، وقفى ذلك حكاية قولهم بعد هلاكه: { { وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } [القصص: 82] وهم يشيرون بذلك إلى ما أوتيه قارون من الكنوز.
وعندما ذكر الله تعالى أحكام المواريث في سورة النساء قال:
{ { وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ مِّنْهُ } [النساء: 8] مع أن المقسوم لا يلزم أن يكون مما يتغذى به. وقال تعالى: { { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ } [الطلاق: 7]، والنفقة غير محصورة في صنوف الأغذية، وقال تعالى: { { ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } [الرعد: 26]، وقال: { { وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ } [الشورى: 27] ومن الظاهر أن البسط لا يكون في المطعومات وحدها.
وظاهر كلام ابن عاشور أن الرزق مخصوص بالإِنسان دون غيره من أنواع الحيوان، ويتضح ذلك من تعريفه للرزق حيث قال:
والرزق ما يناله الإِنسان من موجودات هذا العالم التي يسد بها ضروراته، وحاجاته، وينال بها ملائمه. وقد زاد ذلك وضوحا قوله من بعد: وأما إطلاقه على ما يتناوله الحيوان من المرعى والماء، فهو على المجاز كما في قوله تعالى:
{ { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } [هود: 6] وقوله: { { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } [آل عمران: 37] وقوله: { { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } [يوسف: 37].
وإن تعجب فعجب إدراجه الآيتين الأخيرتين فيما مثل له من إطلاق الرزق - مجازا حسب قوله - على غير ما أوتيه الجنس البشري، فإن الضمير في قوله تعالى: { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } عائد إلى مريم - عليها السلام - والخطاب في قوله: { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } إنما هو لصاحبي السجن اللذين دخلاه مع يوسف الصديق - عليه السلام -، والجميع من الجنس البشري.
ونحن لا نسلم لهذه المجازية التي يدعيها في هاتين الآيتين وفيما قبلهما، فإن حمل الألفاظ على المجاز لا يكون إلا مع القرائن الصارفة لها عن حقائقها. وإذا عرفت أن الغاية من الرزق هي المنفعة أدركت أن الحيوان مرزوق حقيقة لأنه ينتفع برزقه، على أن قوله سبحانه: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا }، يدخل في عموم مدلوله الإِنسان؛ لصدق مفهوم الدابة لغة على كل ما يدب على الأرض، وإذا كان إطلاق الرزق على منافع الانسان حقيقة وعلى منافع الحيوان مجازا، لزم أن يكون لفظه في الآية حقيقة ومجازا في آن واحد، وهو مردود عند أهل التحقيق، ويؤكد أن الرزق ليس من اختصاص الإِنسان قوله تعالى:
{ { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } [العنكبوت: 60].
ومذهبنا ومذهب الأشاعرة وجمهور الأمة أن الرزق يشمل الحلال والحرام، كما تقدم ذكره في التعريف المنسوب إلى بعض الأشاعرة، وهذا لأن الحل والحرمة إنما هما بالنظر إلى العبد المرزوق لا إلى الرب الرازق، وخالفهم المعتزلة؛ فزعموا أن الرزق لا يكون إلا حلالا محضا، وهو مبني على قاعدتهم في وجوب مراعاة الصلاحية والأصلحية على الله - تعالى الله عن ذلك - ولعل ابتناء قولهم هذا على هذه القاعدة الفاسدة هو الذي شجع خصومهم على التشنيع عليهم في هذه المسألة.
ورأي الامام ابن أبي نبهان - رحمهما الله - أنها ليست من مسائل الأصول، فلا تشنيع عنده على المخالف فيها، والظاهر أنه لم يلتفت إلى تلك القاعدة التي قامت عليها، واحتجت المعتزلة لقولها بدلائل من الكتاب والسنة، ومدلول الكلمة نفسها.
أما الكتاب فقد استدلوا منه بقوله تعالى: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وهو مدح لعباده المتقين بإنفاقهم من رزقه، وهو لا يمدحهم بإنفاق الحرام، وبقوله عز وعلا: { أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم } ولا يأمر بالإِنفاق من الحرام، وبقوله سبحانه:
{ { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ } [يونس: 59].
وأما السنة فقد استدلوا بما أخرجه ابن ماجة وأبو نعيم والديلمي من حديث صفوان ابن أمية، قال:
"جاء عمرو بن قرة فقال: يا رسول الله؛ إن الله قد كتب عليّ الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي، فأذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال صلى الله عليه وسلم: لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أي عدو الله، لقد رزقك الله تعالى رزقا حلالا طيبا فاخترت ما حرم الله تعالى عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله" .
وأما مدلول الكلمة فمن حيث إن الله عز وجل منع عباده من الحرام وتوعدهم عليه وأمر بزجرهم عنه، لا يصح أن يقال إنه رزقهم إياه كما لا يقال رزق السلطان جنده مالا وقد منعهم من أخذه، وأجيب عن تمسكهم بالآيات بأن الاسم قد يخص ببعض أفراد مدلولاته في الاستعمال لأجل التنويه والتشريف كما في قوله تعالى: { { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [الحجر: 42]، وقوله: { { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } [الانسان: 6]، فقد خص لفظ العباد في الآيتين بالمتقين، وإن كان بحسب مدلوله يشمل المتقين والفجار فإن الكل عباده عز وجل، وإنما خص بالمتقين في الآيتين تشريفا لهم وتنويها بقدرهم، وكذلك إطلاق الرزق في الآيات التي تعلق بها المعتزلة على الحلال وحده، إنما هو من هذا الباب ومنه قول الداعي: يا خالق العرش والكرسي والشمس والقمر، دون يا خالق الخنازير والكلاب، مع أن الكل من خلقه تعالى. وأما الحديث فهو أدل على خلاف ما ذهبوا إليه، لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه" دليل على دخول الحرام في ضمن الرزق. وأجيب عما استدلوا به من مدلول الكلمة اللغوي بأن المفاهيم اللغوية لا تخضع للمقاييس العقلية، فلا دخل لأدلة العقل في التسميات.
هذا وقد استدل أصحابنا والجمهور لما ذهبوا إليه بقوله عز وجل: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا }. مع تصور إمكان أن يعيش الانسان على الحرام طيلة حياته، وذلك بأن ينشأ طفلا مع اللصوص وقطاع الطرق يطعمونه مما ينهبون، حتى إذا بلغ الحُلم ودخل في دور التكليف صنع صنيعهم وعاش عيشتهم إلى أن لقي الله فإنه يلزم على مذهب المعتزلة أن يكون مثل هذا لم يصب من رزق الله شيئا، وهو مما تبطله الآية.
ويرى الإِمام الألوسي أن هذا الاستدلال ليس بشيء، وأن للمعتزلة أن ينفكوا عن هذا اللزوم باعتبار أن الرزق غير قاصر على الغذاء، بل يشمله ويشمل غيره من المنافع الجسدية والروحية، مع استحالة أن يعيش الانسان من غير أن يصيب منفعة محللة منذ ولادته إلى موته، لا مصّة ثدي ولا رشفة ماء ولا نسمة هواء، ولا نظرة سارة ولا وصولا إلى بغية، ولو قدر وقوع ذلك لساغ أن يقال إن ذلك مباح في حقه لقوله تعالى:
{ { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } [البقرة: 173].
وللمعتزلة أن يعترضوا غيرهم بمن عاش يوما ثم مات قبل أن يتناول حلالا أو حراما وما يتوجه إليه من جواب يمكنهم أن يجيبوا به أيضا على أن الآية الكريمة لا تدل على أن الله يوصل إلى كل أحد ما ينتفع به، فإن الواقع يدل على خلافه، بل تدل على أنه عز وجل يسوق الرزق ويمكن من الانتفاع به، فإذا حصل إعراض من أحد عن الحلال إلى الحرام، لم يكن ذلك قادحا في تحقق كون الله رازقا له، ولقائل أن يقول إن معنى الآية ما من دابة متصفة بالمرزوقية، فلا تدخل مادة النقض ليضر خروجها، كما أن قول القائل كل دابة تذبح بالسكين؛ لا يقتضي شمول السمك لعدم اتصافه بالمذبوحية.
ولأجل هذه الايرادات التي تتجه إلى استدلال الجمهور؛ اختار الألوسي أن يكون الاستدلال بالاجماع المنعقد قبل ظهور المعتزلة وخلافهم على أن آكل الحرام طول عمره مرزوق طول عمره ذلك الحرام، وأنت تدري أن الإِجماع يحتاج إلى ثبوت النقل بصحة وقوعه، والظاهر أن هذه المسألة لم تُثَرْ عند السلف إلا بعد ظهور المعتزلة بجدلهم الكلامي، فدعوى الاجماع غير مسلمة فيها، ولأجل قوة أدلة الفريقين أجنح إلى ما رآه الإِمام ابن أبي نبهان من أنها مسألة فرعية يسوغ فيها الاجتهاد، وإنما عُدَّت عند الأكثرين من الأصول لملاحظة القواعد الاعتزالية التي يمكن بناؤها عليها، كالقول بوجوب مراعاة الصلاحية والأصلحية على الله - كما تقدم - والقول بالتحسين والتقبيح العقليين. ولولا ملاحظة هاتين القاعدتين الفاسدتين؛ واحتمال بناء المعتزلة مذهبهم في هذه المسألة عليهما، لما اعتبرت هذا الخلاف إلا لفظيا.
على أننا نجد من وافق المعتزلة فيها من غيرهم؛ كالجصاص صاحب كتاب أحكام القرآن.
ولا خلاف بين الجميع في أن الانفاق المشار إليه في الآية، والمأمور به في كثير من آي الكتاب، هو الانفاق من الرزق الحلال المحض، فإن الله سبحانه لا يأمر بالإِنفاق من الحرام ولا يمدح به، وقد جاء في الحديث التنبيه على أن الصدقة المقبولة لا تكون إلا من الحلال، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا يقبل الله صدقة من غلول" وقوله: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا" .
والإِنفاق: جعل الشيء نافقا، والنفاق كالنفاد: هو خروج المال من يد إلى يد.
والإِنفاق الشرعي: هو إخراج المال أو جزء منه في السبل التي أمر الله سبحانه بإخراجه فيها، وهو آية من آيات صدق الإِيمان، فإن كثيرا ممن يدعون الإِيمان قد يقضون أوقاتهم في ضروب من العبادات البدنية، فإذا عرضت مسألة الإِنفاق وطولبوا به قبضوا أيديهم عنه لضيق صدورهم منه، ولذلك تكرر في كتاب الله وصف المؤمنين الصادقين بالإِنفاق من فضل الله. كما في قوله تعالى:
{ { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } [الحجرات: 15].
الحض على الإِنفاق يوسع دائرة الخير:
كثيرا ما اقترن الحض على الإِنفاق في سبيل الله بالوعد أو الوعيد، نحو قوله تعالى:
{ { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة: 245]. وقوله: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } [البقرة: 254]. وقوله: { { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [المنافقون: 10].
ومن حيث إن المال قوام الحال، تتوقف عليه مصالح النفس وترتبط به شئون الحياة، كان الانفاق المأمور به الذي مدح الله به عباده المتقين، هو لبعض المال لا لكل المال، وذلك واضح في هذه الآية، فقد قال تعالى فيها: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ولم يقل وما رزقناهم ينفقون، ونحوه قوله سبحانه: { أَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ }.
وهذا هو المنهج المعتدل بين الافراط والتفريط، فلا تبذير ولا تقتير في الانفاق الشرعي. أفاد ذلك الزمخشري وتابعه جل المفسرين، وخالفهم أبو السعود حيث رأى أن دخول من على الموصول للتنبيه على أن إنفاق بعض المال كاف في جعل المنفق من المتصفين بالهداية المستحقين للفلاح. وذكر أن ما قاله الزمخشري وتابعه عليه غيره مخصوص بمن لم يصبر على مشقة الفقر وإلا فلا مانع شرعا من التصدق بجميع المال، كما فعل الصديق - رضي الله عنه - ولم ينكره عليه النبي صلى الله عليه وسلم بما هو عليه من الصبر وما وقر في قلبه من الإِيمان.
ومن ثم لما قيل للحسن بن سهل لا خير في الإِسراف، أجاب: لا إسراف في الخير.
والنكتة التي نبه عليها الزمخشري المشار إليها بمن يدل على قصدها ما أمر الله سبحانه به في غير هذه الآية من الاعتدال في الانفاق بين طرفي التفريط والافراط، وذلك في قوله:
{ { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } [الاسراء: 29].
وهو مسلك اقتصادي وسط بين التبذير والتقتير، وهو الأليق بالتوجيه العام للناس، أما مسلك الصديق - رضي الله عنه - فهو مسلك لا يليق إلا بالقلة النادرة من الذين عزفوا عن الدنيا نهائيا، فلم يفتحوا عليها أبصارهم ولم تمل إلى شيء من حطامها قلوبهم، وحكم هؤلاء ووصفهم لا ينسحبان على عامة المؤمنين { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ }.
واختلف في الإِنفاق المقصود هنا، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه زكاة الأموال، أخرجه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن إسحاق، ويعني ذلك أن الانفاق النفلي غير مقصود هنا، وهو يتفق مع قوله الذي أخرجه عنه المذكورون أن المراد بالصلاة الصلوات الخمس، ويحتمل أن يكون استناده على اقتران الانفاق بالصلاة في الآية.
ومن المعلوم أن الصلاة شقيقة الزكاة، ولا تذكر غالبا إلا مقترنة بها.
وروى ابن جرير عن الضحاك، قال: كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة مما يذكر فيهن الصدقات هن المثبتات الناسخات.
وروى ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - وآخرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النفقة المقصودة هنا هي نفقة الرجل على أهله وذلك قبل أن تنزل الزكاة.
واختار ابن جرير أنها شاملة لجميع النفقات بما في ذلك النفقات الواجبة، كالزكاة والانفاق على العيال. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنها النفقة في فرائض الله التي افترض عليهم في طاعته وسبيله، وأخرج مثله ابن المنذر عن سعيد بن جبير، وصدر القطب -رحمه الله - في هيميانه القول بشمول هذا الانفاق للنفقات الواجبة، كالزكاة وإقراء الضيف بشمول هذا الانفاق للنفقات الواجبة، كالزكاة وإقراء الضيف الواجب وتنجية المضطر، ونفقة من لزمتهم نفقته، وأداء ما وجب من الكفارات، ونحو ذلك، ونفقات التطوع في وجوه الأجر، وهو يتفق في ذلك مع الفخر الرازي الذي نص في تفسير الآية على شمول هذا الانفاق لنوعيه الواجب والمندوب، ومن دواعي الاستغراب أن يقول ذلك الفخر في تفسير هذا الانفاق الذي مُدح به المؤمنون مع أنه نفسه حصر الصلاة - التي مُدحوا بإقامتها في هذه الآية نفسها - في الصلوات المفروضة كما تقدم.
وابن عطية لا يعد الاختلاف عن السلف في هذا خلافا، وإنما يحمله على قصد التمثيل بحسب ملاءمة الظروف التي تحيط بهم حال السؤال، ويرى الألوسي احتمال ذلك، وحكى عن بعضهم أنه عد ذلك خلافا. ويرى العلامة ابن عاشور أن الانفاق على النفس والعيال لا يدخل فيما مدحوا به، لأنه مما تدعو إليه الجبلة وتقتضيه الضرورة، فلا يعتني الدين بالتحريض عليه، وهو يتفق في رأيه هذا مع الامام محمد عبده، ويضيف الامام إلى ذلك بأن ما تعورف على تسميته بالجود والكرم كقري الضيوف ابتغاء عوض كالشهرة والجاه أو الأنس بالأصحاب، لا يعد من الانفاق المقصود هنا، ورأيهما لا يتفق مع ما ثبت من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل الانفاق على العيال، ومن ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك؛ أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك" .
وروي من طريق ثوبان مرفوعا: "أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله عز وجل، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله" .
قال أبو قلابة - وهو أحد رجال سند هذا الحديث -: وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم. وقد جاء في الحديث الصحيح في تعداد ما يثاب عليه المرء مع حسن النية: "حتى ما تجعله في في امرأتك" .
والانفاق على النفس مطلوب من المسلم للتقوى على طاعة الله وكفها عن المحارم، فلا ريب أنه مما يثاب عليه مع هذه النية الحسنة، وأما إكرام الضيف فهو من الواجبات المالية الاجتماعية، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" ، وإذا لابسه الرياء وحب السمعة أحبطا ثوابه، ومثلهما معه كمثلهما مع سائر الواجبات، ولا ينقص ذلك في قيمة الواجب ولا يقلل من أجره مع إخلاص النية في أدائه.
وأنت إذا تدبرت ما شرعه الاسلام من النفقات الخاصة والعامة المنظمة وغير المنظمة، أدركت أن الآية شاملة لها جميعا، سواء المفروض منها والمندوب، فالخاص منها ما وجب لأناس مخصوصين كالعيال. والعام ما كان لعامة المحتاجين، وفي سائر السبل الخيرية، والمنظم منها الزكاة التي خصصها الله لأصناف مخصوصين من الناس في أصناف مخصوصة من المال، مع بلوغه مقادير معينة، وبنسب معينة.
وغير المنظم سائر النفقات الواجبة التي لا تقدر إلا بقدر الحاجة، وهي أيضا تدخل في ضمن المفروض مع عدم سداد العوز بدونها، كما يدل على ذلك قول الله تعالى في بيان أعمال البر: { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ }، حيث ذكر الزكاة من بعد ذكر إيتاء المال لذوي القربى إلى آخره معطوفة عليه، ومن شأن العطف التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، وفي هذا ما يكفي دليلا على أن الحقوق المالية المذكورة في الآية قبل الزكاة خارجة عنها، وهو الذي يدل عليه حديث فاطمة بنت قيس عند الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن في المال حقا سوى الزكاة" وهو وإن أعل بأبي حمزة ميمون الأعور القصاب، فإن له ما يعضده عند ابن ماجة، كما أن صريح الآية واضح في الدلالة على هذا المعنى، وفي هذا المقام مباحث أرى إرجاءها إلى أن أصل إن شاء الله بعونه سبحانه وتوفيقه إلى تفسير آية البر من هذه السورة.
الإِنفاق في سبيل الله يعالج الشح والأثرة:
والاسلام بما شرعه من الانفاق يعالج النفس البشرية التي من طبعها حب المال، والرغبة في الاستكثار منه، فإنها إذا أرسل لها العنان في هذه الرغبة تجاوزت جميع الحدود، واستخفت بكل الواجبات الأسرية والاجتماعية، وأصبح همها الوحيد ما تكسبه من مال تستكثر به على الآخرين، ولن تبالي في هذه الحالة في الوطء على كل القيم والفضائل، وقطع جميع الوشائج والأواصر، ما دام في ذلك تحقيق لرغبتها الجامحة، وإرواء لظمئها الملتهب، وفي مثل هذه الحالات تنضب العواطف وتغور مشاعر الرحمة، ويغلظ الاحساس في الانسان، وتستعر البغضاء والعداوات حتى بين الأقرباء الأدنين، فلا والد يعطف على ولده، ولا ولد يوقر والده، كما هو الشأن السائد في المجتمعات التي تعبد المادة، وتقدس الثروة، وفي هذا الانفاق علاج لهذا المرض الفتاك، فهو يرهف الحس، ويفجر مشاعر الرحمة وعواطف الاحسان بين ذوي القربى خاصة، وسائر الناس عامة.
والله تعالى قدير على إغناء كل أحد حتى يستقل بمصالحه عن غيره، ولكنه أراد بما طبع عليه النفوس من الاحتياج إلى الغير، وأمر به من التعاون بين الناس، تربية الضمير الانساني وتمتين العلاقات بين أفراد الجنس البشري، وإنما انحراف الناس عن هذا المنهج المستقيم الواضح هو السبب في وجود العداوات في القلوب، وتأجج الأحقاد في الصدور، وتحول الانسان إلى سبع ضارٍ لا يبالي بمن يفتك به ما دام ذلك يحقق رغبته، وليس شيء أسرع في اشتعال نار الفتنة بين الناس من حب المال، فكم من ولد استعجل وفاة والده، أو قريب استطال حياة قريبه فسقاه السم الزعاف، أو استخدم أية وسيلة في القضاء على حياته، وما الغاية من ذلك إلا حيازة تركته والتنعم بثروته.
ومن استقرأ التاريخ البشري لم يجد عدالة في الاقتصاد أو غيره كعدالة الاسلام، دين الله الحق الذي كفل لكل إنسان حقه، فإن جميع الأنظمة البشرية التي عاشتها الانسانية في أطوارها المتقلبة وعصورها المختلفة لم تكن إلا مصدر شقاء وبلاء، فقد اكتوى الفقراء والبؤساء بسعيرها اللاهب، ولم تمتد منها يد عادلة لتنتزع من الطبقات الغنية ما احتكرته من حقوق الناس، ومن أمثلة ذلك ما ذكرته المصادر التاريخية أن وادي النيل في العهود القديمة كان ينتج من المحصولات الزراعية أضعاف ما كان يحتاج إليه مواطنوه، ولكن لم تكن تنصب فوائدها إلا في خزائن الأغنياء والطبقات المستعلية من الناس، بينما الجماهير الكادحة تكتوي بنار المسغبة، وتتقلب على رمضاء المآسي، وقد أدى الحال في المجاعة المشهورة في الأسرة الثانية عشرة أن باع الفقراء نفوسهم للأغنياء من أجل الحصول على لقمة العيش، وحدث عن مثل ذلك في ممالك كل من بابل، وفارس واليونان، بل ثبت أن في مملكة اليونان كان الأغنياء يذبحون الفقراء ذبح الأغنام لأتفه الأسباب، وفي أثينا نفسها كان الفقراء يباعون مع الماشية والأرض، ووقع مثل ذلك في مملكة الرومان، وفي هذا ما يكفي دليلا على أن شهوة المال إذا استحكمت في النفس جعلت صاحبها يتخطى جميع حدود الانسانية، ويتجاوز ما طبع الله عليه البشر من العطف والرقة والحنان، وهذا هو سر تحذير الله تعالى من احتكار طائفة مخصوصة من الناس رؤوس الأموال، وذلك في قوله، بعد تبيان أحكام الفيء وقسمه:
{ { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ } [الحشر: 7].
وإذا جهل الانسان أو تجاهل تاريخ الظلم المالي في العصور البشرية الغابرة السحيقة، فما عليه إلا أن يفتح عينيه على الأنظمة المالية السائدة في العالم اليوم والتي هي نتيجة الأطوار الاقتصادية التي مر بها الانسان، ففي العالم اليوم نظامان ماليان خطيران، كل منهما يلتهم حقوق الانسان بأتونه المستعر، وهما النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي، وما الفرار من أحدهما إلى الآخر إلا فرار من جهنم إلى الجحيم، ولست أتحدث عنهما عن خبر قرأته أو سمعته، وإنما أتحدث عن مشاهد رأيتها ومآسٍ أحسستها، تتفطر منها الكبد ويذوب منها الفؤاد، فقد كنت في زيارة لدولة اشتراكية شيوعية، فشاهدت عيناي جماهير الشعب تساق بعصي الذل والهوان، ليس لأحد منهم اختيار في مأكله أو مشربه أو ملبسه أو عمله أو مسكنه أو حركته وتنقلاته، وإنما يأكل كل أحد ما يشتهى له من قوت لا ما يشتهيه، في الوقت الذي يعين له لا في الوقت الذي يعينه بنفسه، وقل مثل ذلك في مشربه ومسكنه وعمله، ولا يحق لأحد أن ينتقل من مدينة إلى أخرى باختياره، وإنما ذلك إذا اختير له، ولم تكد هذه المشاهد المؤلمة تتوارى عني حتى واجهت مشاهد أخرى في دولة رأسمالية لا تقل عما قبلها إيلاما، وإنما الفارق بين السابقة واللاحقة تنوع أسلوب القهر والظلم، فبينما كنت أشاهد العمارات الضخمة التي كأنما تعانق السحاب، وتناغي النجوم، وهي ملك لأفراد من الناس، إذا بي أشاهد أفواجا من بني الانسان قد أعوزهم المأوى الذي يقيهم لفح الصيف وقسوة الشتاء، ولم يجدوا إلا أن يأووا إما إلى القوارب في البحر، أو إلى الكهوف في الجبال، أو إلى هياكل السيارات المتحطمة، أَوَلا يكفي ذلك دليلا على أن الانسان يفقد كل ما يحتاج إليه من عطف بني جنسه ورحمتهم وحنانهم وإحسانهم في غير ظل الاسلام دين الحق والعدل؟
إن الاسلام لا يقتصر في الانفاق على المحرومين ومواساتهم على الحض فقط، ثم يكل ذلك إلى مروءات الأغنياء وضمائرهم، وإنما يجعل الانفاق ركنا أساسيا من أركانه، لا يكتمل دونه بنيانه، ولأجل ذلك نجد الحض على الانفاق واردا في آيات نزلت في مرحلة مبكرة من تاريخ الدعوة.
ومن أمثلة ذلك ما في سورة المزمل التي هي من أوائل السور المكية نزولا، ففيها الأمر الصريح بإيتاء الزكاة في قوله تعالى:
{ { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } [المزمل: 20]. وفي هذا دليل على أن الزكاة فرضت قبل الهجرة بزمن طويل، وليس كما يقول جل العلماء إنها لم تفرض إلا بالمدينة بعد الهجرة، وقد اشتهر ذلك بينهم حتى أصبح من المسلمات.
وإنما يتضح من خلال دراسة آيات الانفاق في القرآن الكريم أن فرضيتها اقترنت بفرضية الصلاة، أو جاءت بعدها بقليل، وإنما كانت بادىء الأمر غير منظمة، وقد كانت موكولة إلى ضمائر الأغنياء وسخائهم، مع تتابع الأمر الاجمالي بها إلى أن قامت دولة الاسلام على تربة دار الهجرة الزكية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فبينت مقاديرها وفصّلت أحكامها، ولنا في هذا المقام وقفة مع الدكتور يوسف القرضاوي في قوله: "والملاحظ في السور المكية عن الزكاة أنها لم توردها بصيغة الأمر الدال على الوجوب دلالة مباشرة، ولكنها أوردتها في صورة خبرية، باعتبارها وصفا أساسيا للمؤمنين والمتقين والمحسنين، الذين يؤتون الزكاة، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين خصهم الله بالفلاح وأولئك هم المفلحون، كما أخبر أن تركها من خصائص المشركين الذين لا يؤتون الزكاة".
فإن هذا الاطلاق غير مسلم، بدليل ما ذكرناه آنفا من النص الصريح في الأمر بها في آخر آية من سورة المزمل المكية، ومثلها في سورة الأنعام قوله تعالى:
{ { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام: 41]، وفي سورة الاسراء: { { وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ } [الاسراء: 26]. والسورتان مكيتان أيضا.
وأما ما استند إليه الدكتور القرضاوي من قول بعضهم إن آية المزمل نزلت بالمدينة فلا يدفع ما قلناه؛ لأنه قول قائل، وهو كغيره من الأقوال يفتقر إلى ما يسنده من الدليل، ولا دليل له إلا ما اشتهر من أن فرضية الزكاة كانت بالمدينة ولم تكن بمكة، والآيات المكية المصرحة بذكر الزكاة المادحة لمن آتاها، والمتوعدة لمن فرط فيها، ترد على هذه الشهرة، ومن هذه الآيات قوله تعالى في سورة فصلت:
{ { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } [فصلت: 6- 7]، وفي سورة النمل: { { هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } [النمل: 2 - 3]، وفي سورة لقمان: { { هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } [لقمان: 3 - 4]، وفي سورة المؤمنون: { { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ } [المؤمنون: 4]، ومثله ما في سورة الذاريات وهو قوله: { { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [الذاريات: 19]، وقوله في سورة المعارج: { { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [المعارج: 24 - 25]، فإنه من المعلوم أن الحق المقصود هو الزكاة وجميع هذه السور مكية.
هذا؛ وفي وصف المشركين في سورة فصلت بأنهم لا يؤتون الزكاة، إيماء إلى أن تركها ليس من صفة المؤمنين، وكفى ذلك داعيا لذوي العقول السليمة إلى المثابرة إلى أدائها، والمحافظة عليها، ومنذرا لمن استخف بحقها وتهاون في أدائها، والزكاة إنما هي جزء من الانفاق الواجب كما سلف.
وفرض الانفاق في الاسلام مبني على اعتبار ما بأيدي الأغنياء - من الأموال - مال الله سبحانه، وما هم إلا مستخلفون فيه، ومؤتمنون عليه، والدلالة على ذلك واضحة في قوله تعالى:
{ { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ آتَاكُمْ } [النور: 33]، وقوله: { { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [الحديد: 7]. والشعور بذلك يمنع الغني إذا مد يده إلى الفقير بشيء من المال من الاستعلاء والاستكبار، كما أنه يحمي الفقير حين يمد يده لتناول حقه من الغني من الذلة والانسكار، فالمعطي لم يعط إلا من مال الله، الذي منّ الله عليه به، وأوجب عليه الانفاق منه، والآخذ لم يأخذ إلا حقه الشرعي الذي فرضه الله له مما جعله تعالى في أيدي الأغنياء من المال، فلا منّ ولا إيذاء، ولا استعلاء ولا استكبار من قبل المعطي، ولا ذلة ولا انكسار ولا خضوع ولا استخذاء من قبل الآخذ، وهذه المبادىء القيمة هي التي أسعدت الأمة المسلمة عندما حرصت على تطبيقها، وكانت لها مخلصا من محن الفقر ولأواء الفاقه، حتى بلغ الحال في عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز - رضي الله تعالى عنه - أن كان المسئولون عن الزكاة يجهدون في البحث عن الفقراء الذين يستحقونها فلا يجدونهم، حتى أمر عمر أن يزوج منها العزَّاب، وأن يُبنى بها بيوت للذين لا يملكون مساكن، ولم تكن نعمة هذه المبادىء خاصة بالمسلمين، بل نعم بها أهل الذمة في ظل دولة الاسلام، فقد أُغنوا بالزكاة عندما لم يوجد فقراء من أهل ملة التوحيد، ولو أن المسلمين اليوم - مع ما تحت أيديهم من الثروات التي منّ الله عليهم بها - أخذوا بهذه المبادىء، لبهروا العالم بأسره، ولما استطاعت لسان أن تنال من حرمة الاسلام أو تجرح كرامة المسلمين، ولكن تهاونهم بأمر الله، واستخفافهم بحقوقه، واندفاعهم وراء شهوات أنفسهم، هو الذي أوقفهم موقف الذلة والهوان بين الأمم، فمزقت كرامتهم الألسن، واستخفت بأقدارهم الأعين، ذلك لأنهم فتحوا على أنفسهم الثغور بتبذيرهم الجنوني لما أفاء الله عليهم من رزق، ووهبهم من فضل، في الفساد والدناءات، حتى أغنوا أعداءهم بأموالهم المتدفقة في دور البغاء ونوادي القمار وجميع أماكن اللعنة ومجامع الشرور.
يجري ذلك كله وجماهير من أبناء الاسلام لا تجد ما يسد عوزها من لقمة العيش الخشن، وأطمار الثياب البالية، أما آن لهؤلاء الغارقين في سكرة الهوى أن يفيقوا من سكرتهم، ويدركوا ما يهددهم من خطر لا يبقي ولا يذر - والعياذ بالله -؟ أما آن لهذه الأمة أن تستدرك فائتها، وتعيد كرتها فتستحق أن تسود في الأرض بما جاء به دينها من مبادىء الرحمة التي تعتبر الانسانية اليوم في أمَس الحاجة إليها؟ أما آن لها أن تثبت للعالم بأسره أن سعادة النفس البشرية لا تكون إلا في ظل الاسلام الحنيف؟
إنني من منطلق النصح الديني الذي فرضه الله على عباده وجعله من صميم دينهم، أناشد كبراء هذه الأمة وأهل الحل والعقد فيها، أن ينظروا في مغبة حالها، ويسعوا لتخليصها من قيود المهانة التي ترسف فيها، ووطأة الذل التي تئن تحتها، وليس لذلك طريق إلا اتباع هدى الله الذي جاء به كتابه الكريم، ومثله رسوله العظيم عليه أفضل الصلاة والتسليم. ولست أنسى هنا ما ذكره الداعية الكبير الأستاذ أبو الحسن علي الحسني الندوي في كتابه القيم "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"، فبعد أن أسهب في بيان الأمراض المتفشية في العالم الاسلامي عامة، والعربي خاصة، قال: وقد اعتاد العرب - لأسباب كثيرة وبتأثير الحضارة الغربية - حياة الترف والدعة والاعتداد الزائد بالكماليات وفضول الحياة والإِسراف والتبذير والاستهانة بمال الله في سبيل اللذة والشهوة والفخر والزينة. وبجانب هذا الترف والنعيم وحياة البذخ والتبذير؛ جوع وعري وفقر فاضح، يرى الناظر مناظره الشائنة في عواصم البلاد العربية، فتدمع العين ويحزن القلب وينتكس الرأس حياء وخجلا، فبينما هنالك رجل عنده فضول الثياب، وزائد الطعام والشراب، لا يعرف كيف يستهلكه، إذا ببدوي لا يعرف قوت يومه وكسوته. وبينما أمراء العرب وأغنياؤهم على سيارات تباري الريح وتثير النقع، إذا بفوج من النساء والأطفال عليهم ثياب سوداء قد أصبحت خيوطا من طول اللبس، يعدو لأجل فلس أو قرص. فما دامت المدن العربية تجمع بين القصور الشامخة والسيارات الفاخرة، وبين الأكواخ الفقيرة والبيوت المتداعية الضيقة المظلمة. وما دامت التخمة والجوع يزخران في مدينة واحدة، فالباب مفتوح على مصراعيه للشيوعية والثورات والاضطراب والقلق، لا تقفها دعاية ولا قوة، وإذا لم يسد النظام الاسلامي في بلاده بجماله واعتداله، يحل محله نظام جائر بعسفه وقهره، عقابا من الله كرد فعل عنيف.
والسيد أبو الحسن الذي سال قلمه بهذه العبارات الدافقة بهذه المعاني البليغة، كان ينظر إلى حالة العرب حينما سجل هذه العبارات منذ ثلث قرن من الزمان، فيستشف منها ما ينتظرهم من مستقبل سيء حافل بالثورات والقلق والاضطراب، نتيجة اعتناق السفهاء والأوغاد المبادىء الهدامة التي لا تبقي ولا تذر، كرد فعل لما عليه المترفون من الانحلال والفساد، ومنع حقوق الناس في مال الله الذي بأيديهم، وتبذيره في غير حدود في شهواتهم وملذاتهم، وقد أرسل كلماته هذه نذيرا صارخا لعلها تصادف قلبا واعيا وسمعا صاغيا، لكن كان - مع الأسف - كمن ينفخ في رماد ويصرخ في واد.
وقد وقع فعلا ما كان يحذره ويحذِّر منه، وما زالت هذه الأمة إلى اليوم تعاني من ويلات الاضطراب والقلق في كثير من أنحاء البلاد. فمتى تصحو من سكرتها؟! ويثوب إليها رشدها، عسى أن يكون ذلك يوما قريبا.