خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ
٣١
قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
٣٢
-البقرة

جواهر التفسير

بعد أن ذكر الله الجواب الإِجمالي للملائكة وهو قوله: { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } عطف عليه هذا الجواب التفصيلي، ولم يكن جوابا قوليا فحسب بل يتضمن القول والفعل معا لأن من شأن المخلوق أن يكون ما يشاهده ويحسه أعمق أثرا في نفسه مما يسمعه، بل المشاهدات تنزل منزلة الأدلة والحجج للمسموعات، وهذا العطف من باب عطف المحكي التفصلي على الحكاية الإِجمالية، وفي هذه الإِجابة التفصيلية شاهد على أن حياة النوع الإِنساني المستخلف في الأرض تدور على العلم، فعليه تتوقف حركتها ونموها وتجددها، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى طبع هذه الحياة الإِنسانية بطابع التطور، والتطور هو قائم على كسب الإِنسان نفسه وتصرفه، وقد جعل الله سبحانه في طبيعة تكوين الإِنسان وطبيعة الموجودات التي تيعامل معها في الأرض ما يدفعه إلى هذا التطور، فلذلك كان بحاجة إلى معارف استنباطية يستفيدها من تجاربه، ويستلهمها من مشاهداته، وذلك بخلاف الحياة الملكية فإنها في غنى عن ذلك كله؛ ومن ناحية أخرى فإن الإِنسان واقع بين تجاذب وتدافع مستمرين من قبل قوىً وطبائع شتى في نفسه، فهو متكون من روح وجسم، ومنطوٍ على عقل وقلب وغرائز وضمير، ولهذه كلها مطالب شتى، والتنسيق بين متطلباتها يدعو إلى العلم والمعرفة حتى لا يؤدي الأمر إلى ضرر نفسي أو اجتماعي؛ ومن ناحية ثالثة فإن الانتفاع بهذه الموجودات اليت يتعامل معها الجنس البشري مشترك بين أفراد هذا الجنس، فلذلك كانوا بحاجة ماسة إلى معرفة أجناسها وأسمائها التي تتميز بها كما أنهم بحاجة إلى معرفة خواصها حتى يكون التعامل معها سليما.
قيمة العلم في موازين الاسلام
وفي هذه القصة تنويه بشأن العلم والعلماء، وبيان لقيمته في موازين الإِسلام، فإن الله إنما شرف الإِنسان قبوأه منصب الخلافة في الأرض بما آتاه من العلم، وقد رفع قدره به على أقدار ملائكته المعصومين من الزلل الدائبين على الطاعة، الذين وصفهم بقوله:
{ { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6].
وبقوله:
{ { يُسَبِّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [الأنبياء: 20] وذلك حيث أمره بتعليمهم الأسماء، ثم أمرهم بالسجود له اعترافا بفضل العلم وتكريما لأهله، والإِسلام بهذا يختلف عن اليهودية والنصرانية اللتين تجعلان من العلم عدوا مبينا للإِنسان؛ فاليهودية ترى أن العلم هو سبب إبعاد الإِنسان من رحمة الله وطرده من جنته واستحقاقه اللعنة والغضب، والنصرانية ترى أن الهداية لا تكون إلا مع الجهل وذلك بأن يغلف الإِنسان عقله، ويغمض عينيه، ويسد أذنيه لئلا تتصور له الحقيقة فتضله عن الدين، وذلك بأن يتلقى كل ما يُلقى إليه من تعاليم الدين تلقي الأعمى والأصم الذي لا يبصر شيئا ولا يسمع شيئا، غير ذلك الذي يُلقى إليه، وفي القرآن الكريم الكثير من الآيات الدالة على أن هذا الدين لا يقوم إلا على أساس العلم والفهم، منها قوله تعالى: { { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ } [العنكبوت: 43]، وقوله: { { كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [يونس: 24].
والتعليم تحويل الغير من الجهل بالشيء إلى المعرفة به، ويكون في آن واحد، وفي آنات متعددة، وذكر صاحب المنار أن الذي يتبادر إلى الفهم من صيغة التعليم هو التدريج، ثم ذكر قوله تعالى:
{ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 151]، وقوله: { { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [النساء: 113]، وقوله: { { وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } [آل عمران: 48] وقال: وَمَا كَانَ ذَلِك إلاَّ تَدْرِيجاً... غير أنه أتبع ذلك قوله: "... ولكن المتبادر من تعليم آدم الأسماء أنه كان دفعة واحدة إذا أريد بآدم شخصه بالفعل أو بالقوة".
ونحن نؤمن بأن الله علم آدم الأسماء كما أخبر تعالى ونسكت عما وراء ذلك من كيفية هذا التعليم، وإن تكلف جماعة من المفسرين استظهار الطريقة التي علمه الله بها، فذهب بعضهم إلى أن ذلك إنما تم بإلهام رباني بحيث ألقى الله في روعه هذه الأسماء من غير واسطة، وقيل: ان الله خلق صوتا في الهواء، أو فيما شاء تعالى فوعاه آدم وحفظ منه هذه الأسماء، وقيل: إنه تعالى أرسل إليه ملكا من غير المخاطبين بقوله سبحانه: { أَنْبِئُونِي }، وقيل غير ذلك، ولا دليل على شيء من هذه الأقوال، فالسكوت عن ذلك أولى وقوفا عند قوله تعالى:
{ { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الاسراء: 36]، ولعل أقربها إلى الصواب القول الأول فإن المقصود من هذا المحكى إظهار شرف آدم وفضله بما أوتي من مزية الاستعداد الفطري لدلك المعلومات وتنميتها، ومن المعلوم أن سماع الصوت المنبىء بالأسماء من الهواء أو غيره أو من نطق الملك يمكن معه فهم المراد للملائكة كما يمكن لآدم، فالقول الأول أظهر في بيان مزيته.
وعطف ذكر آدم وتعليمه الأسماء غِبَّ ما تقدم من إيذان الملائكة بجعل خليفة في الأرض شاهد على أن الخليفة المعني هو آدم وهو ضرب من التفصيل بعد الإِجمال.
وآدم اسم لأبي البشر واختلف في أصله، فذهب طائفة إلى أنه من الأُدمة وهي السمرة، وقيل: البياض، كما يقال ناقة أدماء أي بيضاء، وقيل: سمي بذلك لخلقه من أديم الأرض وهو محكي عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم، وعوَّل على ذلك جل الذي يفسرون القرآن بالمأثور، وعلى ما تقدم فهو عربي ووزنه أفعل وإنما لُيِّنت الهمزة الساكنة التي هي فاؤه فصارت ألفا، وخالف في ذلك الزمخشري وتبعه النظار من المفسرين، فقالوا إنه اسم أعجمي على وزن فاعل بفتح العين كآزر وشالخ، واستدلوا لذلك بجمعة على أوادم أآدم، وتصغيره على أويدم لا على أأيدم، والتكسير والتصغير يردان الألفاظ إلى أصولها، ولم يكن هذا الاسم محصورا عند العرب وحدهم بل نُص عليه في التوراة، ولا يبعد أن يكون انتقاله إلى ألسنة العرب بسبب احتكاكهم بأهل الكتاب ودخول طائفة منهم في دينهم.
الأسماء التي علمها آدم
والأسماء جمع اسم وهو ما دل على ذات أو معنى، وللناس أقوال فيما عُلِّمه آدم من الأسماء، فبعضهم يرى أن عُلم اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذهب بعضهم إلى أنه عُلِّم أسماء أجناس الأشياء دون مفرداتها، وقيل: إنه عُلم اسماء ما تحتاج إليه ذريته مما يستنفعون به في حياتهم، وقد غالى أبو علي الفارسي فزعم أنه علم كل شيء حتى نحو سيبويه، والمغالاة في ذلك ظاهرة، وقيل: إنه عُلم أسماء الملائكة، وقيل: أسماء الملائكة والبشر، واختاره ابن جرير وأيده بقوله تعالى: { ثُمَّ عَرَضَهُمْ } حيث جاء بضمير جمع الذكور وهو لا يستعمل غالبا إلا في العقلاء، ورُد عليه بأنه استُعمل في القرآن لغير العقلاء مع العقلاء وذلك في قوله تعالى:
{ { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ } [النور: 45]، وذهب طائفة إلى أن المراد بالأسماء اللغات وذلك أنه تعالى علمه جميع اللغات التي تدور على ألسنة ذريته، وقد تلقى كل واحد من أولاده لغة منها ثم تفرقوا فورَّثها كل أحد منهم ذريته، وبطلان هذا القول ظاهر، فإن اللغات أكثر بكثير من عدد أولاد صلب آدم، على أن كثيرا منها قد تولد من لغات سابقة ولا تزال تتولد إلى عصرنا هذا.
وحكى الفخر الرازي عن بعض الناس أن المراد من الأسماء صفات الأشياء ونعوتها وخواصها، واستدل له الفخر بأن الاسم إما أن يكون مشتقا من السمة أو من السمو، فإن كان من السمة فهو بمعنى العلامة، وصفات الأشياء ونعوتها وخواصها دالة على ما هياتها، فصح أن يطلق الاسم عليها، وإن كان من السمو فكذلك لأن الدليل يرتفع بمدلوله وهو أسمى منه لتقدمه عليه، وبحث في تخصيص النحويين الاسم بما هو معروف عندهم، وأجاب أن ذلك عرف حادث لا اعتبار به، ولصحة هذا التفسير لغة يرى الفخر وجوب التعويل عليه هنا لوجهين:
أولهما ان الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر منها في معرفة أسمائها، والقصة المحكية هنا إنما تحكى فضيلة آدم على الملائكة.
ثانيهما: أن التحدي يتوقف جوازه على ما كان ممكنا للمتحدي في الجملة، فللعربي أن يتحدى من كان مثله بأن يأتي بمثل كلامه في البلاغة العربية دون أن يقول لزنجي مثلا آت بمثل هذا الكلام وذلك لأن العقل ليس هو طريق تعلم اللغات، وإنما طريق ذلك الممارسة، أما العلم بحقائق الأشياء فالعقل يتمكن منه مع التجارب التي تتولد منها المعلومات.
ورأي الامام محمد عبده يتفق مع رأي الفخر في المعنى وإن يكن بينهما خلاف لفظي، ففي المنار بعد إيراد قوله تعالى { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } ما نصه "أودع في نفسه علم جميع الأشياء من غير تحديد ولا تعيين، فالمراد بالأسماء المسميات، عبر عن المدلول بالدليل لشدة الصلة بين المعنى واللفظ الموضوع له، وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الآخر، والعلم الحقيقي إنما هو إدراك المعلومات أنفسها، والألفاظ الدالة عليها تختلف باختلاف اللغات التي تجري بالمواضعة والاصطلاح، فهي تتغير وتختلف والمعنى لا تغيير فيه ولا اختلاف".
قال الأستاذ: ".... ثم إن الاسم قد يطلق إطلاقا صحيحا على ما يصل إلى الذهن من المعلوم أي صورة المعلوم في الذهن، وبعبارة أخرى هو ما به يعلم الشيء عند العالم، فاسم الله مثلا هو ما به عرفناه في أذهاننا، بحيث يقال إننا نؤمن بوجوده ونسند إليه صفاته، فالأسماء هي ما به تعلم الأشياء، وهي العلوم المطابقة للحقائق".
"والاسم بهذا الاطلاق هو الذي جرى الخلاف في أنه عين المسمى أو غيره، وقد كان اليونانيون يطلقون على ما في الذهن من المعلوم لفظ الاسم، والخلاف في أن ما في الذهن من الحقائق هو عينها أو صورتها مشهور كالخلاف في أن العلم عين المعلوم أو غير المعلوم، وأما الخلاف في أن الاسم الذي هو اللفظ عين المسمى أو غيره، فهو ما أخطأ فيه الناظرون لعدم الدقة في التمييز بين الاطلاقات لبداهة أن اللفظ غير معناه بالضرورة، والاسم بذلك الاطلاق الذي ذكرناه هو الذي يتقدس ويتبارك ويتعالى
{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } [الأعلى: 1] { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } [الرحمن: 78] فاسمه جل شانه ما يمكننا أن نعلم من صفاته وما يشرق في أنفسنا من بهائه وجلاله، ولا مانع من أن نريد من الأسماء هذا المعنى، وهو لا يختلف في التأويل عما قالوه من إرادة المسميات، ولكنه على ما نقول أظهر وأبين.
وقد أحال السيد محمد رشيد رضا القارئ إلى ما تقدم نقله عنه في تفسير البسملة، وهو أن اسم الله يسبح ويعظم، ومنه اسناد التسبيح اليه قولا وكتابة، وتسبيحه وتعظيمه بدون ذكر اسم خاص بالقلب، وان من تعمد اهانة اسم الله تعالى يكفر كمن يتعمد إهانة كتابه.
والتحقيق أن الأسماء هي الالفاظ الدالة على الحقائق سواء كانت هذه الحقائق ذوات أو معاني، فإن القرآن نزل باللسان العربي، ومن المعلوم أن العرب يطلقون الاسم على اللفظ الموضوع إزاء المعنى المدلول عليه به، ولا ينبغي أن يفسر القرآن بما تواضع عليه فلاسفة اليونان فان ذلك خارج عن الوضع العربي الذي نزل به، ولا يمنع هذا أن يكون آدم عليه السلام علم خواص الاشياء كما علم أسماءها.
ولا ريب أن معرفة هذه الخواص تتوقف على معرفة الألفاظ التي تعبر عنها، وحياة الناس من الضرورة فيها بمكان معرفة أسماء ما تتوقف عليها من المنافع فإنها حياة اجتماعية لا يستقل فيها أحد بنفسه، ولذلك احتاج الناس إلى وضع اسماء للك ما يحدث أو يكتشف من الأشياء التي لم تكن معهودة من قبل، وهذا شيء معهود في جميع اللغات خصوصا فيما تتوقف عليه مصالحهم، ومن الذي يستغنى في عصرنا هذا عن معرفة اسم الكهرباء، والمذياع، والسيارة، والطائرة مثلا، وقد كان سلفنا في غنى عن معرفة جميع ذلك لعدم تعاملهم مع هذه الأشياء وعدم تصورهم إياها.
وبهذا التحرير يتبين لك أن الصحيح هو ما عليه الجمهور من أن المراد بالأسماء الألفاظ الدالة على المعاني وقد أجاد الشهابان الخفاجي والألوسي حيث قالا إن في ماحكاه الفخر الرازي نظرا، ويتبين لك ايضا إن أصح الأقوال هو أن المراد بالأسماء أسماء الأجناس وهو قول وسط بين إفراط الغالين وتفريط المصرين، إذ دعوى أن الله علمه جميع اللغات التي تتحدث بها ذريته إلى يوم القيامة أو علمه كل ما يكون في المحيط الإِنساني إلى أن يرث الله الأرض إفراط لا يستند إلا إلى الوهم، وقول من قال إن المراد بالأسماء أسماء الملائكة فحسب أو أسماء النجوم، أو أسماؤه تعالى الحسنى ليس بشيء، فان حاجة البشر إلى معرفة الأشياء الأرضية التي تشتد ضرورتهم إليها ابلغ من حاجتهم إلى معرفة أسماء الملائكة والنجوم، ومن ناحية أخرى فإن قوله تعالى من بعد: { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ } يدل على أنه سبحانه جاء بمسميات هذه الأسماء فعرضها على الملائكة وطالبهم بأن يخبروه بأسمائها، وإذا كانت هذه الأسماء للملائكة فيكف يكون هذا العرض على الملائكة أنفسهم، والقول بأنه عرض على كل طائفة منهم طوائف أخرى، وطالب الطائفة المعروض عليها أن تخبر بأسماء الطائفة المعروضة هو في منتهى التكلف وليس له حظ من الدليل، وأبعد من ذلك عن الصواب القول بأنها أسماء الله الحسنى فإن عرض مسماها مستحيل عقلا ونقلا.
ومن الظاهر بداهة أن المراد بقوله: { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ } [البقرة: 31] عرض مسميات هذه الأسماء لا الأسماء نفسها فإنها أعراض تتعذر مشاهدتها، وعود الضمير على المسميات وإن لم يسبق لها ذكر لأجل قرينة ذكر أسمائها، والرباط بين الاسم ومسماه رباط قوي فالأسماء إنما وُضعت لأجل استحضار ماهيات مسمياتها بحيث تكون مجلوة للأذهان، وهذه الصلة بين الاسم ومسماه هي التي أدت بالكثيرين إلى القول بأنهما شيء واحد، وقد سبق الكلام على ذلك في أول تفسير الفاتحة، وقد جعل ابن المنير الاسكندري - في الانتصاف من صاحب الكشاف - من هذه الآية دليلا على أن الاسم هو المسمى، وانتقد فيه الزمخشري بشده حيث أشار إلى التفرقة بينهما، وزعم أن ذلك من الزمخشري بشده حيث أشار إلى التفرقة بينهما، وزعم أن ذلك من الزمخشري فرار عن معتقد أهل السنة وإخلاد إلى ما عليه المعتزلة، وفي ما قاله نظر لما سبق لك في تفسير البسملة من أن كثيرا من المحققين من أصحاب المذاهب الأربعة قالوا بالتفرقة بين الاسم والمسمى، فليس القول بذلك من معتقد المعتزلة وحدهم.
وهذا العرض على الملائكة من الأمور الغيبية المسلَّمة، ومن العسير تحديد طريقته لعدم قيام دليل على ذلك، ومن المحتمل أن يكون الله سبحانه عرض صور هذه المسميات للملائكة كأنما يشاهدون حقائقها عن كثب وهو أمر هين بالنسبة إلى قدرته عز وجل، وفيما نشاهده الآن من عرض لأجسام غير حاضرة بكل حركاتها وأحوالها مع مصاحبة ذلك بنقل حديثها شاهد على ما ذكرته، فإن الله سبحانه الذي منح خلقه القدرة على ذلك هو أجل وأقدر على كل ما يشاء، فمن الهين عنده تعالى عرض صورة ما لم يُخلق بعد من مصنوعاته، ويمكن أن يكون ذلك بإحضار هذه المسميات في أذهان الملائكة، وفيما يراه النائم من المشاهد غير الحاضر شاهد على جواز ذلك، وليس ببعيد أن يكون تعالى قد خلق حالتئذ أفرادا من أجناس هذه المسميات حتى يشاهدها آدم والملائكة ويتصوروها.
وجمهور المفسرين يقولون بحصول مهلة بين تعليم الله آدم الأسماء وعرضها على الملائكة معولين على ما تدل عليه "ثم" من الترتيب والمهلة، ولا مهلة عندهم بين العرض عليهم ومطالبتهم بأن يخبروا بأسمائها بدليل العطف بالفاء التعقيبية في قوله: { فَقَالَ } ومرد ذلك - حسبما قالوا - إلى قصد تبكيت الملائكة، وخالفهم في ذلك الإِمام ابن عاشور معولا على أن "ثم" هنا للمهلة الرتبية لا للمهلة الزمنية، كما هو شأنها في عطف الجمل، وقد سبق بيان ذلك في قوله تعالى:
{ { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } [البقرة: 29] والذي يقتضيها هنا أن هذا العرض وما ترتب عليه من ظهور عدم علم الملائكة، وظهور علم آدم، وظهور ما خفي من علم الله تعالى وحكمته كل ذلك أرفع رتبة في إظهار مزية آدم واستحقاقه الخلافة من رتبة مجرد تعليمه الأسماء لو لم يتصل بما ذكر.
ولما كانت مطالبته تعالى للملائكة أن ينبئوه بالأسماء متفرعة عن الغرض المكذور عُطفت قصتها عليه بالفاء التفريعية.
والإِنباء هو الإِخبار بالنبأ وهو ما تميز من الأخبار بالفائدة العظيمة والأهمية البالغة بحيث يكون حريا أن يحرص على استفادته كل سامع، وبهذا يكون أخص من الإِخبار.
وأولاء من أسماء الإِشارة كما تقدم، و"ها" للتنبيه وهي مألوفة الدخول على أسماء الإِشارة، والإِشارة بأولاء تستعمل فيها إذا كان المشار إليه من جنس العقلاء، وقد تستعمل في غير العاقل كما أشير بها إلى السمع والبصر والفؤاد في قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [الإسراء: 36]، فليس في الإِشارة به في هذه الآية دليل على أن الأجناس المعروضة لم تكن إلا من العقلاء.
وهذا الأمر منه سبحانه لم يُقصد به التكليف وإنما أريد به التبكيت وإظهار عجز الملائكة عما لم يجعل الله لهم إليه سبيلا، فلا دليل في الآية لمن قال بتكليف ما لا يُطاق.
والمراد بقوله: { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إن كنتم صادقين في أحقيتكم بالخلافة من آدم، وهو ما يفهم من قولهم:
{ { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [البقرة: 30] وإن لم يأتوا به صريحا، وقيل المراد به إن كنتم واثقين أن قولكم في هذه الأسماء لن يخرج عن إطار الصدق، وفي هذا منع لهم عن الاجتهاد، فلذلك توقفوا عن الإِجابة بخلاف الذي ابتلاه الله بأن أماته مائة عام ثم بعثه فسأله: { كَمْ لَبِثْتَ } فإنه لم يُقَيَّد في الاجابة المطلوبة منه بمثل ما قُيدوا به، فلذلك ساغ له الاجتهاد وإن جاز عليه الخطأ، وقال بعضهم إن المراد بالصدق هنا العلم وهو غريب إذ لم تؤلف تسمية العلم بالصدق، وفسره بعضهم بالإِصابة نظرا إلى أن الصدق كما يكون في القول يكون في العمل، وحكى ابن جرير وأبو عبيد عن بعضهم أنهم حملوا إن هنا على معنى "إذ"، ورده كل منهما، وأطال ابن جرير في هذا الرد وبيّن أن الذي يكون بمعنى "إذ" هو أن المفتوحة لا المكسورة، لأن المكسورة خاصة بالاستقبال، و"إذ" دالة على المضي فلا يصح حلول إحداهما محل الأخرى.
ومما يرمي إليه هذا الخطاب الموجه إلى الملائكة تنبيههم على خطئهم ليراجعوا أنفسهم وينيبوا إلى ربهم وإن كانوا هم في جميع أحوالهم منيبين وقد أدركوا هذه الغاية المطلوبة منهم فسارعوا قبل كل شيء إلى تنزيهه تعالى عن كل ما لا يليق بجلاله وعظم شأنه وذلك بقولهم: { سُبْحَانَكَ } وسبحان هو اسم مصدر بمعنى التسبيح، وقد تقدم أن التسبيح هو تنزيهه تعالى عن كل ما لا يليق به، وفي تصدير جوابهم بالتنزيه اعتذار منهم إليه تعالى، ثم صرحوا بالعجز في قولهم: { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } [البقرة: 32] وفيما صدروا به جوابهم من تسبيحه تعالى إقرار بأن أفعاله عز وجل تجل عن العبث، فهي جميعها منطوية على حكم شتى ظهرت للخلق أو لم تظهر، وإنما على المخلوق أن يقف عند حده وأن لا يتجاوز في شيء طوره، فإذا عزب عنه علم شيء من أسرار الله في خلقه أو حكمه في أحكامه فما عليه إلا ان يقدسه تعالى ويبرئ أفعاله من أي عبث وويعترف بالعجز عن الإِحاطة بحكمه تعالى في أحكامه أو أسراره في خليقته، وبهذا كانت الملائكة قدوة لسائر الخلق في مثل هذه المواقف، ويتضمن جوابهم هذا الإِعتذار عن الإِنباء بالأسماء، فكأنهم قالوا ربنا إنك لم تعلمنا هذه الأسماء فلا سبيل لنا إلى معرفتها حتى نقدر على الجواب، ثم ردوا علم كل شيء إليه تعالى حيث قالوا: { إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } [البقرة: 32] وهذه الجملة هي تذييل وتعليل لما تقدم، فإن من شأن الجمل المصدرة بأن إذا عقبت حكما أن تكون تعليلا له كما يتضح ذلك لمن استقرأ ما جاء من مثله في القرآن وفي الكلام العربي منثوره ومنظومه.
وعليم بوزن فعيل وهو من أوزان المبالغة، ولذلك يطلق في المخلوقات على ما يكون كالطبائع والسجايا من صفاتها، فإذا وُصف أحد بأنه عليم أدركت أن العلم صفة ملازمة له، وهكذا يقال في صفتي السميع والبصير ونحوهما، ومن هنا لا يطلقون هذه الصيغة على ما يحدث عرضا، فلا يُقال فيمن علم مرة إنه عليه وإنما يخصون ذلك بمن كان العلم ملكة راسخة في نفسه.
وفي تعريف المسند والمسند إليه مع توسيط ضمير الفصل بينهما ما لا يخفى من تأكيد وصفه تعالى بالعلم بحيث لا يعد غيره جديرا بوصف العلم لأنه تعالى وحده المحيط بكل شيء علما، وعلم كل من عداه لا يوازي شيئا بجانب علمه الأزلي الذي لا يخرج شيء عن حيطته، دقيقا كان أو جليلا، ولهذا كان هذا القصر حقيقيا ولم يكن ادعائيا، فإن كل من عدا الله وإن علم شيئا فإن علمه مسبوق بالجهل، وعلمه بذلك الشيء نسبي فإن ما يجهله من أحواله أكثر بكثير مما يعلمه بخلاف علمه تعالى الذي لا تخفى عنه خافية.
والحكيم بمعنى المحكم على الصحيح، وقد سبق ذكر اختلاف العلماء في إتيان فعيل بمعنى مفعل ومن أنكر ذلك يضطر في مثل هذه المواطن إلى التأويل فيحمل الحكيم هنا على معنى المفعول، ويتأول ذلك بأنه تعالى محكمة أفعاله، والتكلف بادٍ على هذا التأويل، وإحكام الشيء هو اتقانه ووضع كل جزء منه موضعه، فالمراد من وصفه تعالى بأنه حكيم أنه متقن صنع كل شيء من خلقه، والأصل في الحكمة أن تكون من نتائج العلم، إذ لا يُعقل أن يكون الحكيم غير عالم، فلذلك أتوا بصفة الحكيم بعد صفة العليم.
العلم لله وحده
وفي هذا الجواب من الملائكة تعليم لغيرهم أن يقفوا عما أشكل عليهم، ولا يدعوا علم ما لا يعلمون، وأن يردوا علم كل شيء إليه سبحانه وتعالى، فإن العلم له وحده ولا يصل إلى الناس شيء من علمه إلا ما أفاضه عليهم بمشيئته ولطفه، وإذا كان الملائكة - وهم في الملأ الأعلى يطلعون على ما لا يطلع عليه البشر من أسرار خلق الله تعالى - قد تبرأوا من العلم إلا ما علمهم الله ولم يقتحموا على الاجابة فيقولوا من تلقاء أنفسهم ما لم يأذن به الله، فما بالكم بالإِنسان الجاهل الذي خرج من بطن أمه لا يعلم شيئا؟ أنى يسوغ له أن يتسور على أحكام الله فيفتي فيها بجهله آتيا فيها لما لم يأذن به الله؟ أليس الأولى له أن يقتدي بملائكة الله فيجيب بلا أدرى فيما لا يدري فيحرز أجر الاعتراف بالحق؟ ويقف في الحد الذي أمره الله أن يقف عنده حيث قال: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } وناهيكم تحذيرا بالغا من التقول على الله بغير علم أن الله قرنه بالشرك في قوله:
{ { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 33]، وروى الإِمام الربيع عن جابر رضي الله عنهما إرسالا عن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام أنه قال: "من أفتى مسألة أو فسر رؤيا بغير علم كان كمن خر من السماء إلى الأرض فصاد بئرا لا قعر لها ولو أنه وافق الحق" وقد سبق في مقدمة التفسير ذكر توقف الخليفتين رضي الله عنهما عن تفسير الأب وتحرجهما من أن يقولا على الله ما لم يُرِدهُ، وهكذا كان مسلك صَحابِة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يتدافعون الفُتيا، ومن بُلي بها ولم يستطع الفكاك منها كان شديد اليقظة والحذر من أن يأتي فيها بما لم يأذن به الله، وقد سلك مسلكهم جهابذة العلماء المحققين، فكان أحدهم يُسأل عن المسائل الكثيرة ولا يجيب إلا عن القليل منها، ويقتصر فيما بقى على قول لا أدري، حتى فشا الجهل وكثر الادعاء، وتجرأ الناس على الخوض في مسائل الدين بدون معرفة، فاختلط الحابل بالنابل، والتبس الحق بالباطل فإنا لله وإنا إليه راجعون.