خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ
٤٣
-البقرة

جواهر التفسير

هذا الخطاب كالذي قبله موجه إلى بني إسرائيل في حال إعراضهم عن الإِسلام، ومكابرتهم للحق وصدهم عن الإِيمان، فهو دليل قاطع على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فهم مطالبون بالعبادات وسائر الواجبات العملية، كما أنهم مطالبون بالإِيمان، ويدل على ذلك قول الله تعالى: { { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } [المدثر: 38-46]، فانظروا كيف جمعوا في إجابتهم بين تركهم الصلاة وعدم إطعامهم المسكين، وخوضهم مع الخائضين وتكذيبهم بيوم الدين، ومع هذه النصوص تجد الأشعرية ومن حذا حذوهم ينكرون مخاطبة الكفار بفروع الشريعة، ويرون أنهم لا يعذبون إلى على عقيدة الكفر وحدها، وقد ركب كثير من علمائهم الشطط في هذه المسألة فشنعوا على القائلين بأن الواجبات العملية مشتركة بين المسلم والكافر، وأن كفر الكافر ليس عذرا في تركها، وتجد مفسريهم كثيرا ما يعنون بالدفاع عن فكرتهم هذه ويرجمون القائلين بخلافها بالتخطئة العنيفة، غير أن أكثرهم عندما وصلوا إلى هذه الآية فبهرتهم حجتها لجأوا إلى الصمت اللهم إلا ما كان من الشيخ أبي منصور الماتريدي الذي حكى عنه الألوسي أنه حمل الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة هنا على مجرد الإِيمان بهما، ولعمري إن صح تصريف القرآن بمثل هذا التأويل لم تنهض بشيء منه حجة، ولم يثبت بنص منه حكم لاحتمال أن تحمل جميع أوامره ونواهيه على مجرد الإِيمان بها لا على تطبيقها والعمل بمقتضاها، وقد استبعد الألوسي نفسه هذا الجواب كما استبعد القول بأن الخطاب موجه إلى المسلمين وليس موجها إلى بني إسرائيل، لما يلزمه من تفكك الجمل وخروج الكلام عن نسقه، فما قبل الآية وما بعدها خطاب لبني إسرائيل فما الذي يقحم وسطه خطاب المسلمين، على أنه مما اتفق عليه أن الأمر لا يعطف على آخر إن كان المأمور في المعطوف غير المأمور في المعطوف عليه إلا مع القرينة نحو { { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ } [يوسف: 29] وقد حصر بعضهم القرينة في النداء كما تقدم، وما يقولونه - من أن المشرك لا يتأتى منه القيام بالعبادات ما دام متلبسا بالشرك فهو إذن غير مخاطب بها - باطل من أساسه، إذ الشرك لا يعدو أن يكون كسائر الموانع التي يمكن التخلص منها، فالحدث الأصغر والأكبر مانعان من الصلاة ولكن لا يعني ذلك أن المحدث غير مخاطب بها، وأنه مخاطب برفع الحدث وحده، بل هو مخاطب بها مع مخاطبته برفع الحدث، وكذا المشرك مطالب بالإِيمان والعبادات معا، ولا تسقط عنه العبادات مع تركه الإِسلام، لأن الاسلام شرط لصحتها وليس شرطا لوجوبها، ولعله التبس شرط الوجوب بشرط الصحة على إفهام القائلين بعدم تكليف المشركين بفروع الشريعة.
وقد تقدم معنى إقام الصلاة، وأما إيتاء الزكاة فهو إعطاؤها مستحقيها، وهي مأخوذة من زكا الزرع إذ انما، أو من زكا الشيء إذ طهر، فهي نماء للمال لأنها سبب لحلول البركة فيه كما أنها نماء لنفس المزكي لأنها توفر أخلاقه الحميدة، وتضاعف حسناته، وتقيه شرور الدنيا والآخرة، وإلى ذلك الإِشارة بقوله تعالى:
{ { وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَاتِ } [البقرة: 276]، وهي تطهير للمال وصاحبه، كما نص عليه قوله تعالى: { { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة: 103]، وذلك أن النفس البشرية جُبلت على حب الاستزادة من الأموال، فإذا تركت وما جُبلت عليه تأصلت هذه الجبلة فيها فاستعصى علاجها وتعذر استئصالها فتسعى إلى توفير المال ولو على حساب الغير، وقد جعل الله إيتاء الزكاة وسيلة من وسائل علاجها.
والزكاة فُرضت في الإِسلام في مرحلة مبكرة من تأريخ دعوته، وقد سبق شرح ذلك وبيان أدلته وهي الآيات المكية الآمرة بها، والمحذرة من التهاون فيها، والمادحة لمن حافظ عليها، ويعضد هذا أن في القرآن المدني ما يحكي أمر المؤمنين بها قبل مشروعية الجهاد - وذلك قبل الهجرة قطعا - وهو قوله تعالى:
{ { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ } [النساء: 77]، وإنما فُصِّلت أحكامها في العهد المدني، وهذا الذي دعا كثيرا من الفقهاء وغيرهم إلى القول بأنها لم تفرض إلا في المدينة، وكثير منهم قالوا: إن فرضها كان في السنة الثانية للهجرة، وحدد بعضهم ميقات فرضها من تلك السنة، فقال: إنها فرضت بعد الصوم، وقال آخرون: إنها فرضت في السنة الرابعة للهجرة.
ولما أن مشروعية الزكاة لسد حاجات الفقراء - بجانب ما فيها من تطهير النفس والمال - فرضت فيما هو قوام للحياة من أنواع الزرع والماشية، كما أنها فرضت في التجارة لأجل ما فيها من تبادل المنافع، وفي النقدين لأنهما وسيلة قضاء الحاجات وجلب المنافع، ومن هنا لا نجد محيصا من القول بوجوبها في أي عملة تسد مسد النقدين كالأوراق المتعامل بها فإنها إن أُلغيت فيها الزكاة أُجحف حق الفقراء في أموال الأغنياء، ويؤكد وجوبها في الأوراق أنها تستمد قيمتها من النقد الذي ضُمنت به سواء كان هذا الضمان حقيقيا أم اعتباريا، فلولاه لم تكن لها قيمة ولم تطمئن إليها النفس في المعاملة، ولم تسقط بها الحقوق ويثبت بها الوفاء، أرأيتم لو أن إنسانا وجب عليه لآخر ألف دينار من الذهب ضمانا لسبب من الأسباب ولم يجد الدنانير الذهبية فدفع اليه ما يسد مسد قيمتها من الأوراق النقدية ألا يسقط عنه الضمان؟ ومثل ذلك يقال في ديات القتلى، وأروش الجرحى، وصدقات النساء، أليس في سقوط الضمانات بها واستباحة الفروج ما يدل على أنها استمدت قيمتها من النقد الذي ضمنت به، أرأيتم لو دُفع بدلا منها من الأوراق ما هو أجود نوعا، وأكثر عددا، وأثقل وزنا، وأحسن صنعة، ولم تكن مضمونة بنقد ضمانا حقيقيا ولا اعتباريا، هل تكون سادة مسدها في أداء الحقوق، ومع وضوح ذلك نسمع بعض الناس يمارون ويجادلون في وجوب الزكاة فيها، وينسبون القول بعدم وجوبها الى قطب الأئمة -رحمه الله - مع أن كلام القطب صريح في أن الزكاة واجبة فيها، فما قاله في بعض أجوبته، وتجب فيها الزكاة كصوالد النحاس. والقول بعدم الزكاة في هذه الأوراق يسقط ركنا من أركان الإِسلام لأنها أصبحت غالب ثروة الناس.
وفي القرآن الكريم والسنة النبوية من الوعيد على ترك الزكاة ما تقشعر منه الجلود وتتفطر منه القلوب، وقد سبق ذكر بعض آيات الوعيد على ذلك في الجزء الثاني، أما أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنها ما أخرجه الإِمام الربيع -رحمه الله - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا صلاة لمانع الزكاة - قالها ثلاثاً - والمتعدي فيها كمانعها" قال الربيع: المتعدي فيها هو الذي يدفعها لغير أهلها.
وروي عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من كثر ماله ولم يزكه جاءه يوم القيامة في صورة شجاع أقرع له زبيبتان موكل بعذابه حتى يقضي الله بين الخلائق" وروى البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا: { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ... } الآية" وناهيكم دليلا على منزلة الزكاة في الإِسلام قرنها بالصلاة غالبا في القرآن، وهي ليست خاصة بهذه الأمة، فقد ذكر الله ابراهيم وذريته الأنبياء الصالحين فقال: { { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ ٱلْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلاَة وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَـاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ } [الأنبياء: 73]، وقال في اسماعيل عليه السلام: { { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِٱلصَّـلاَةِ وَٱلزَّكَـاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً } [مريم: 55]، وحكى عن المسيح عليه السلام قوله: { { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } [مريم: 31].
معنى الركوع
والركوع معروف وأصله طأطأة الرأس وحني الظهر، ويطلق على الذلة وخسة المنزلة كما في قول الشاعر:

ولا تعاد الضعيف علك أن تركع يوماً والدهر قد رفعه

وهو من أركان الصلاة، والركوع الشرعي هو وضع اليدين على الركبتين مع حني الظهر حتى يستوي مقدمه ومؤخره، وهو معنى ما أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك، وفي حديث أبي حميد الساعدي "إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره"، ورأى جماعة من المفسرين أن المراد بالركوع هنا الصلاة، وهو من باب تسمية الكل بالجزء كما تسمى بالقيام وبالسجود، وقيل: إن صلاة اليهود لا ركوع فيها فلذلك أُمروا به لئلا يفهموا من قوله: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } الأمر بإقامتها حسب عادتهم، ويرى صاحب المنار أن الأوامر الثلاثة مرتبة في الذكر حسب ترتيب مراتبها، فإقامة الصلاة في المرتبة الأولى من عبادة الله تعالى لأنها روح العبادة والإِخلاص له، ويليها إيتاء الزكاة لأنها تدل على زكاة الروح وقوة الإِيمان، وأما الركوع وهو صورة الصلاة البدنية أو بعض صورتها أشير به إليها فهو في المرتبة الثالثة فُرض للتذكير بسابقيه، وما هو بعبادة لذاته وإنما كان عبادة لأنه يؤدى امتثالا لأمر الله تعالى، وإظهارا لخشيته، والخشوع لعظمته، ولكنه قد يصير عادة لا يلاحظ فيها امتثال ولا إخلاص فلا يعد عند الله شيئا وإن عدة أهل الرسوم كل شيء.
وذكر أبو حيان أن في هذه الجمل - وإن كانت معطوفات بالواو التي لا تقتضي في الوضع ترتيبا - ترتيبا عجيبا من حيث الفصاحة وبناء الكلام بعضه على بعض، وذلك أنه تعالى أمرهم أولا بذكر النعمة التي أنعمها عليهم إذ في ذلك ما يدعو إلى محبة المنعم ووجوب طاعته ثم أمرهم بإيفاء العهد الذي التزموه للمنعم ثم رغبهم - بترتيب إيفائه هو تعالى بعهدهم - في الإِيفاء بالعهد ثم أمرهم بالخوف من نقماته، ان لم يوفوا، فاكتنف الأمر بالإِيفاء أمر بذكر النعمة والإِحسان، وأمر بالخوف من العصيان، ثم أعقب ذلك بالأمر بإيمان خاص وهو ما أنزل من القرآن ورغب في ذلك بأنه مصدق لما معهم، فليس أمرا مخالفا لما في أيديهم لأن الانتقال إلى الموافق أقرب من الانتقال الى المخالف، ثم نهاهم عن استبدال الخسيس بالنفيس، ثم أمرهم تعالى باتقائه ثم أعقب ذلك بالنهي عن لبس الحق بالباطل وعن كتمان الحق فكان الأمر بالإِيمان أمرا بترك الضلال، والنهي عن لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق تركا للإِضلال، ولما كان الضلال ناشئا عن أمرين إما تمويه الباطل حقا إن كانت الدلائل قد بلغت المستتبع، وإما عن كتمان الدلائل إن كانت لم تبلغه، أشار إلى الأمرين "بلا تلبسوا" و"تكتموا" ثم قبح عليهم هذين الوصفين مع وجود العلم، ثم أمرهم بعد تحصل الإِيمان وإظهار الحق بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة إذ الصلاة أأكد العبادات البدنية، والزكاة أأكد العبادات المالية، ثم ختم ذلك بالأمر بالانقياد والخضوع له تعالى مع جملة الخاضعين الطائعين، فكان افتتاح هذه الآيات بذكر النعم واختتامها بالانقياد للمنعم وما بينهما تكاليف اعتقادية وأفعال بدنية ومالية، وبنحو ما تضمنته هذه الآيات من الافتتاح والإِرداف والاختتام يظهر فضل كلام الله على سائر الكلام.
الاستدلال على وجوب صلاة الجماعة على الأعيان
قال جماعة من المفسرين إن أمرهم بأن يركعوا مع الراكعين يعني أن يصلوا مع المصلين في الجماعات، وهذا التفسير يناسب القول بوجوب صلاة الجماعة على الأعيان، وتكون الآية بحسبه حجة من حجج هذا القول، والأمة لم تختلف في مشروعية صلاة الجماعة ولا في فضلها وان اختلفت في حكمها، فهي شعيرة من شعائر هذا الدين التي تجمع قلوب المؤمنين في ظل عبوديتهم لله تعالى، وتطهرها من رجس الأحقاد والسخائم، وما أروع ذلك المشهد الذي يجمع الناس - على اختلاف أعمارهم، ومراكزهم الاجتماعية، وطبقاتهم المالية، ومكاناتهم النسبية والحسبية - في بيوت الله عندما يسمعون داعي الحق يدعوهم إلى الصلاة والفلاح فيتفاذفون الى المساجد شيبا وشبابا، كبارا وصغارا، قد خلفوا وراءهم أشغال الدنيا وهمومها، فلا يشغل قلوبهم إلا ذكر الله والحرص على مناجاته والشوق إلى رضوانه، وما أروع مشهدهم وهم مصطفون بين يدي الله، قد تحطمت بينهم الحواجز وذابت الفوارق وتلاشت النعرات، فالحاكم بجنب المحكوم، والغني بجانب الفقير، والقوي مع الضعيف، والأبيض مع الأسود لا يستعلي أحد على أحد بسلطانه ولا بجاهه، ولا بمنصبه، ولا بماله، ولا بحسبه ونسبه، وإنما يستشعر الكل سلطان الله وحده، ويؤمنون جميعا أنهم عباد الله لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى، وقد انتظمت حركاتهم في الركوع والسجود والرفع منهما، لا ينتظر أحد غيره في شيء منها إلا الإِمام الذي يصطفون خلفه ويتبون فعله.
(أ) فضل صلاة الجماعة
وقد تظافرت الراويات الدالة على فضل صلاة الجماعة، منها ما أخرجه الإِمام الربيع -رحمه الله - بإسناده عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الصلاة في الجماعة خير من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" وأخرج الإِمام أحمد والشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" وروى الإِمام الربيع عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة" وأخرج عنه أحمد والشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعاً وعشرين درجة" . ولا منافاة بين هذه الروايات بنص بعضها على خمس وعشرين درجة، وبعضها على سبع وعشرين، وأخرى على بضع وعشرين، لاختلاف الفضل باختلاف الأحوال، كالقرب من المسجد والبعد عنه، وانتظار الصلاة قبل حضورها، أو الوصول إلى المسجد عند إقامتها، وإدراكها كلها أو بعضها، وكثرة الجماعة وقلتهم، وتفاوت الأئمة في الفقه والورع والخشوع، وغيرها من الأمور التي تقتضي التفاوت في الأجور.
واختلفت الأمة في حكمها، قيل إنها فرض عين وهو مروي عن جم غفير من الصحابة رضوان الله عليهم حتى أني لم أجد رواية عن أحدهم بخلافه، ومما روي عنهم في ذلك ما أخرجه أحمد عن الإِمام علي كرم الله وجهه قال: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، قيل: ومن جار المسجد؟ قال: من سمع الأذان"، وأخرجه عنه عبدالرازق، ورواه الإِمام الربيع -رحمه الله - من طريق ابن عباس مرفوعا ما عدا السؤال والجواب، وقد جاء مرفوعا في رواية عائشة رضي الله عنها عند ابن حبان وجبار عند الدارقطني.
وأخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يشهد جمعه ولا جماعة. فقال: إن مات على هذا فهو في النار؛ وذكر ذلك أصحابنا في كتبهم الفقهية كالوضع، وأضافوا إليه أن السائل بقى يتردد شهرا على ابن عباس يسأله عنه ويجيبه بأنه في النار.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لأن تمتلئ أذن ابن آدم رصاصا مذابا خير له من أن يسمع النداء ولا يجيب.
وروى الجماعة إلا البخاري والترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادي بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم - وفي رواية لكفرتم - وما من رجل يتظهر فيحسن الطهور ثم يعمد الى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنها بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف.
وهذا القول من ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لا يعكس رأيه الفردي في صلاة الجماعة وإنما يجسد موقف الصحابة رضي الله تعالى عنهم منها، فقد كانوا يدأبون عليها حتى أنهم كانوا يعدون التخلف عنها سمة من سمات النفاق الذي ينزهون عنه أنفسهم، وقد بلغ بهم الحرص على الجماعة والرغبة في التنزه عن سمات النفاق أن أحدهم كان - وهو مريض - يخرج إليها متوكئا على رجلين يتمايل بينهما، وهذا كله إن دل على شيء فإنما يدل على أنهم رضي الله تعالى عنهم قد استقر في نفوسهم وجوبها على الأعيان، وهذا هو قول أكثر سلف الأمة، وبه قال عطاء والأوزاعي وأحمد بن حنبل ومحدثوا الشافعية كابن خزيمة وابن المنذر وأبي ثور، وهو قول للشافعي نفسه كما في شرح المهذب وغيره، وحكى وجوبها الكاساني في بدائع الصنائع عن الحنفية من غير أن يفصل كونه وجوبا عينيا أو كفائيا غير أن الإِطلاق يدل على العينية، وحكى العيني في شرحه على البخاري المسمى بعمدة القاري عن القدوري في شرحه على الهداية - وهو من أمهات الفقه الحنفي - أن مشايخ الحنفية يقولون بوجوبها، وهو متقضى ما حكاه العيني عن بعضهم أن تركها بغير عذر يوجب التعزير، ويأثم الجيران بالسكوت عن تاركها حتى قال بعضهم لا تقبل شهادته، وهذا القول هو الذي يفهم من كلام البخاري، حيث ترجم في صحيحه بقوله: (باب وجوب صلاة الجماعة)، وروى بعد ذلك من الحسن تعليقا أنه قال: ان منعته أمة عن العشاء في الجماعة شفقة لم يطعها، وهذا الذي علقه عن الحسن رواه عنه الحسين بن الحسن المروزي بإسناد متصل صحيح، كما ذكره ابن حجر والعيني في شرحيهما على الصحيح ونص هذا المروي عن الحسن أنه قال في رجل يصوم - يعني تطوعا - فتأمره أمه أن يفطر قال فليفطر ولا قضاء عليه وله أجر الصوم وأجر البر، قيل فتنهاه أن يصلي العشاء بجماعة، قال ليس ذلك لها هذه فريضة.
والقول بوجوبها على الأعيان هو الذي اعتمده إمام المذهب أبو سعيد -رحمه الله تعالى - في زياداته على الاشراف لابن المنذر ويفهم من كلامه أنه قول أصحابنا أو أكثرهم. وهو الظاهر من كلام الإِمام نور الدين السالمي -رحمه الله - في جوهره حيث قال:

لم يَعْذِرِ المختارُ خير البشر ابن أم مكتومٍ ضرير البصر
بل قال فيه أجب النداء ولم يكن يعتبر العماء
فالفاتح البصير أولى وأحق أن يلزمن فعلها إذا انطلق

وهو الذي يفهم مما قاله - في شرحه على المسند الصحيح - فيما روي من هَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق المتخلفين عنها، وهو قول الحافظ الذهبي في كتاب الكبائر حيث نص على أن تركها كبيرة.
وبالغ داود الظاهري وأصحابه فعدوا الجماعة شرطا لصحة صلاة الرجل في الفرض، وقد فصل مذهبهم ابن حزم في قوله: "ولا تجزئ صلاة فرض أحدا من الرجال - إذا كان بحيث يسمع الأذان - أن يصليها إلا في المسجد مع الإِمام، فإن تعمد ترك ذلك بغير عذر بطلب صلاته، فإن كان بحيث لا يسمع الأذان ففرض عليه أن يصلي في جماعة مع واحد إليه فصاعدا، ولا بد، فإن لم يفعل فلا صلاة له إلا أن لا يجد أحدا يصليها معه فيجزئه حينئذ إلا من له عذر، فيجزئه حينئذ التخلف عن الجماعة"، وهذا القول هو أحد قولي الإِمام أحمد كما ذكر ذلك صاحب الأزهار - وهو من فقهاء الزيدية - وحكاه ابن قدامة الحنبلي في المغني ينقله عن ابن عقيل، وذكره صاحب الشرح الكبير - وهو من الحنابلة أيضا - على أنه أحد وجهي مذهب الإِمام أحمد - وعزا إلى ابن عقيل تصحيحه، والمشهور من مذهب أحمد وجوبها من غير أن تكون شرطا.
وقيل هي واجبة على الكفاية، وهو الذي نصت عليه أكثر مؤلفات أصحابنا كجامع ابن بركة والإِيضاح، والنيل وشرحه، والمدارج والمعارج ونثار الجوهر؛ وذكر الحافظ في الفتح أنه ظاهر نص الشافعي ونسبه إلى جمهور المتقدمين من أصحابه، وإلى كثير من الحنفية والمالكية.
وقيل هي سنة مؤكدة وعزاه بعض المؤلفين إلى أكثر الأمة.
ومثار الخلاف ما عده كثير من الفقهاء، تعارضا بين الأحاديث التي وردت فيها.
(ب) ترجيح القول
على وجوب الجماعة على الأعيان وأدلته
والقول الأول - وهو وجوبها على الأعيان - هو الذي اطمأن إليه قلبي وسكنت إليه نفسي، واعتمدته في العمل والفتيا، واقتصرت عليه في مجال الدعوة، وذلك لإِعتضاده بكثير من الأدلة، منها هذا الأمر في هذه الآية بأن يركعوا مع الراكعين، وقد علمتم أن كثيرا من المفسرين ذهبوا إلى أن المراد به إقامة الصلوات في الجماعات، والأمر للوجوب ما لم تصرفه عنه قرينة.
ومنها قول الله تعالى:
{ { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } [القلم: 42 -43]، فقد قال غير واحد من التابعين إنه خاص بالمتخلفين عن صلاة الجماعة من هذه الأمة، حتى أن بعضهم كان يقسم على ذلك.
ومنها قوله:
{ { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } [النساء: 102]، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من التفسير العملي لما في الآية، ووجه الاستدلال بذلك على وجوب الجماعة أمران:
أولهما: أن مواقفة العدو مدعاة لتخفيف التكاليف واسقاط الواجبات أو تأخيرها لئلا تجتمع على المسلمين مشقة الجهاد والعمل ولذلك اشتد النبي صلى الله عليه وسلم على الذين لم يأخذوا برخصة الفطر عام الفتح حتى قال فيهم: "أولئك العصاة أولئك العصاة"، فلولا أن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان لما شرعت في هذا الموقف الحرج ولحصلت الكفاية بمن يقيمها من المسلمين في غير ميادين المعارك.
ثانيهما: مشروعية اكتفاء كل واحدة من الطائفتين ببعض الصلاة وترك جانب منها مع أن الجانب المتروك مشتمل على الكثير من الواجبات التي لا تتم دونها في سائر الأحوال، فلولا وجوب المحافظة على الجماعة لما كان لهم أن يتركوا ما هو فرض منها، فإن بإمكانهم أن يصلوا فرادى بالتناوب صلاة كاملة مع الاحتياط التام في مواجهة العدو.
ومنها هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرق بيوت المتخلفين عنها وهو مشهور، فقد أخرج الإِمام الحافظ الحجة الربيع بن حبيب -رحمه الله - عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي هريرة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن بها، ثم آمر رجلا يؤم الناس، ثم اخالف الى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء" ورواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي بألفاظ مختلفة، ودلالة ذلك على وجوبها على الأعيان واضحة، فلو كان وجوبها كفائيا لكانت الكفاية حاصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن يقيمها معه من المهاجرين والأنصار ولم يكن داع إلى عقوبة المتخلف عنها، وقد كُفى وجوبها بهم، وقد أجاد إمام المذهب أبو سعيد -رحمه الله - في قوله: "لا يجوز أن يكون أحد يقوم بها بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكثر منه ولا أولى منه، فإذا ثبت أنه لا عذر للمتخلف عنها مع قيام النبي صلى الله عليه وسلم بها وأصحابه لم يجز غير ذلك لأنه لا يكون أحد أقوم منه بها".
ولو كانت سنة مؤكدة أو مرغّبا فيها لما استدعى تركها مثل هذه العقوبة الصارمة التي قد يترتب عليها هلاك الأنفس مع الأموال، وللقائلين بخلاف هذا الرأي اعتراضات:
أولهما: أن التهديد بالتحريق المذكور يمكن أن يقع في حق تاركي فرض الكفاية كمشروعية قتال تاركي فرض الكفاية.
وأجيب بأن التحريق يفضي الى القتل وهو أخص من المقاتلة، وبأن المقاتلة، إنما تشرع فيها إذا تمالأ الجميع على الترك.
ثانيها: أنه يستنبط من نفس الحديث عدم الوجوب لكونه صلى الله عليه وسلم هم بالتوجه إلى المتخلفين، فلو كانت الجماعة فرض عين ما هم بتركها.
وأجيب بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه، وأضاف إلى ذلك الحافظ ابن حجر بأنه لا دليل على أنه لو فعل ذلك لم يتداركها في جماعة آخرين، على أنه من المتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليدعه أصحابه رضي الله عنهم يقوم بهذه المهمة منفردا، فما المانع من تدارك هذا الواجب بمن يكون معه من أصحابه؟
ثالثها: لو كانت فرضا لقال حين توعد بالإِحراق من تخلف عن الجماعة لم تجزئه صلاته لأنه وقت البيان.
وأجيب بأن البيان كما يكون بالتنصيص يكون بالدلالة، وكفى بقوله صلى الله عليه وسلم
"لقد هممت" دلالة على وجوب حضورها.
وتعقب العيني هذا الجواب بأن الحديث ليست فيه دلالة من الدلالات الثلاث، المطابقة والتضمن والالتزم، ولا فيه دلالة أصولية.
ومما يدعو إلى الاستغراب أن يقول العيني مثل هذا القول إذْ ليس من المعقول أن يهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذه العقوبة إلا على ترك واجب أو فعل محرم، وإذا لم يلزم من هذا الهَمّ كون أولئك الذين هم بتحريق بيوتهم تاركين للواجب، فليس يصح في الأذهان شيء، ولم يكن في قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [النساء: 10]، دليل على حرمة أكل أموال اليتامى الذي توعدوا عليه وكذا سائر الوعيد.
رابعها: أن الخبر وارد مورد الزجر وحقيقته غير مراده وإنما المراد المبالغة، ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفار، وقد انعقد الإِجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك.
وأجيب بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار ولم يكن ممنوعا من قبل بدليل ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه
"أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم في بعض وأمرهم بتحريق رجلين بالنار ثم نهاهم حين أرادوا الخروج وأمرهم بقتلهما وقال: إن النار لا يعذب بها إلا الله" .
هذا والحديث يفيد تحريم التعذيب بالنار للمسلم وغيره، فلا معنى لتقييد المنع بالمسلمين وحدهم فإن ظاهر حديث أبي هريرة أن الرجلين اللذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما ونهى عن إحراقهما بعدما أمر به لم يكونا مسلمين، ومع هذا فلا منافاة بين النهي عن التعذيب بالنار والهم بتحريق بيوت المتخلفين إذ لا يلزم أن يفضي تحريق البيوت الى تحريق الأنفس ولا يبعد أن يكون المراد بهذا التحريق إثارة الرعب في نفوسهم لينزجروا عن التهاون بالجماعة.
خامسها: أن عدم فعل ما هم به صلى الله عليه وسلم من التحريق دال على عدم وجوبها على الأعيان إذ لو كانت كذلك لما تركهم.
وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم لا يهم إلا بحق، وتركه ما هم به لا يدل على عدم وجوبها لاحتمال كون الترك لسبب من الأسباب، وقد صُرح بالسبب فيما رواه أحمد من طريق أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون.. الحديث، ومن المعلوم أن النساء غير ملزمات بشهود الجماعة والذرية - ما داموا في طور الطفولة - ليسوا من التكليف في شيء:
{ { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [الأنعام: 164]، ويؤيد مَا ذُكر من أن تركه صلى الله عليه وسلم ما هم به تحريق بيوتهم ليس دليلا على عدم وجوبها قوله عليه أفضل الصلاة والسلام في الذي ألم بجاريته وهي حبلى "لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره" فلو كان تركه ما هم به دليلا على عدم الوجوب أو الحظر لكان تركه اللعن في هذه القضية دليلا على جواز الإِلمام بالحبالى وهو مخالف للنص والاجماع.
سادسها: أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسا لا مجرد الجماعة.
وأجيب بأن في رواية مسلم "لا يشهدون الصلاة"، أي لا يحضرونها، وفي رواية أحمد بن عجلان عن أبي هريرة "لا يشهدون العشاء في الجميع"، اي في الجماعة، وفي حديث أسامة بن زيد عند ابن ماجة مرفوعا "لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرقن بيوتهم".
سابعها: أن الحديث ورد في الحث على مخالفة أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم.
وهو كالاعتراض الرابع والجواب هو الجواب ويضاف إليه أن ترك خصال أهل النفاق من واجب المسلم على أي حال.
ثامنها: أن الحديث خاص بالمنافقين فلا ينسحب حكمه على غيرهم.
وجوابه: أنه تخصيص بدون مخصص، وبقية الروايات في الباب دالة على عموم الوعيد لكل من تخلف عن الجماعة.
تاسعها: أن فرضية الجماعة كانت في أول الإِسلام لأجل سد باب التخلف عن الصلاة على المنافقين ثم نسخت، وقوى بعضهم النسخ بثبوت نسخ الوعيد المذكور في حقهم، وهو التحريق بالنار، وبورود الأحاديث في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، لأن الأفضلية تقتضي الإِشتراك في أصل الفضل، ومن لازم ذلك الجواز.
وجوابه: ما علمته من عدم التنافي بين منع تحريق الأنفس بالنار، وتحريق بيوت المتخلفين عن الواجب أو الراكبين للمحجور، أما أحاديث تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ فلا تعارض بينهما وبين وجوب الجماعة على الأعيان.. أما أولا: فلأن أدلة الوجوب صريحة والاستدلال على جواز التخلف بأحاديث التفضيل إنما هو استدلال باللازم فحسب وهو من باب الاستدلال بالكنايات، والكناية لا تقوى على معارضة الصريح.. وأما ثانيا: فلأن هذا اللازم غير مسلم لاحتمال أن تكون المفاضلة بين الصلاة في الجماعة وصلاة المنفرد المعذور كالذي لا يسمع النداء أو المريض الذي يشق عليه الحضور أو الخائف.
عاشرها: أن ذلك خاص بالجمعة.
وأجيب بأنه قد صُرح بما يفيد أنها غير الجمعة كما في حديث أحمد "لا يشهدون العشاء في الجميع"، وحديث ابن أم مكتوم الآتي، وروى السراج هذا الحديث وذكر له سببا وهو انه صلى الله عليه وسلم أخر العشاء ليلة فخرج فوجد الناس قليلا فغضب وذكر الحديث، ومن أين لهم أنها الجمعة؟ وقد أخرج الحديث أبو داود والطبراني في الأوسط من طريق يزيد ابن يزيد بن جابر، وفيه أن يزيد قال ليزيد بن الأصم: يا أبا عوف الجمعة عنى أو غيرها؟ قال: صمت أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر جمعة ولا غيرها، وأخرج أحمد والحاكم وابن خزيمة عن ابن أم مكتوم رضي الله عنه
"عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استقبل الناس في صلاة العشاء فقال: لقد هممت أني آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم فقام ابن أم مكتوم فقال: إني كبير شاسع الدار، ليس لي قائد يلائمني فهل تجد لي من رخصة؟ قال: تسمع النداء؟ قلت: نعم، قال: ما أجد لك رخصة" وفي رواية عند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم "أتى المسجد فوجد في القوم رقة، فقال: إني لأهم أن أجعل للناس إماما ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه، فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله إن بيني وبين المسجد نخلاً وشجراً ولا أقدر على قائدٍ كل ساعة، أيسعني أن أصلي في بيتي؟ فقال: أتسمع إقامة الصلاة؟، قال: نعم. قال: فأتها" وفي رواية لابن حبان "فأتها ولو حبوا"، وروى حديث ابن أم مكتوم أبوداود وابن ماجة والطبراني، وهو يستفاد منه أمران:
أولهما: أن الصلاة التي توعد من أجلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما توعدهم به لم تكن جمعة.
ثانيهما: صحة القول بوجوب الجماعة على الأعيان وذلك من تصريح النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه لا يجد له رخصة أن يصلي في بيته مع ما اعتذر به من كبره وعماه، وعدم توفر القائد الملائم له، إلى غير ذلك من المعاذير التي تناقلتها الروايات المختلفة عنه، ولو كانت الجماعة وجوبها على الكفاية لما اشتد عليه النبي صلى الله عليه مسلم، وصرح له بعدم وجود الرخصة مع وفرة المؤمنين الذين كانوا يحضرونها، ولو كانت سنة لكان الأمر أهون من ذلك وقد أخرج قصته - من غير تصريح باسمه - مسلم والنسائي من طريق أبي هريرة رضي الله عنه.
ويعتضد القول بالوجوب بحديث ابن عباس عند ابن ماجه والدارقطني، وابن حبان والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من سمع النداء فلم يأت الصلاة فلا صلاة له إلا من عذر" ولفظ ابن حبان: "لم يقبل الله صلاة غيرها" قيل، وما العذر؟ قال: الخوف أو المرض"، قال الحافظ: وإسناده على شرط مسلم، وقال الذهبي: على شرط الشيخين؛ وبما رواه ابن ماجه عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول على أعواده: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات أو ليختمن الله على قلوبهم" وبما أخرجه الجماعة من مالك بن الحويرث "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ولأخيه وهما يزمعان السفر: إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما" وفي رواية "أفضلكما" هذا مع أن السفر مظنة المشقة والخوف، ويناسبه التخفيف، فليس من المعقول أن يأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم - مع ذلك - بإقام الصلاة جماعة إلا لوجوبها.
وروى الطبراني في الأوسط بإسناد جيد عن أنس رضي الله عنه مرفوعا
"لو أن رجلا دعا الناس إلى عرق أو مرماتين لأجابوه، وهم يُدعون إلى هذه الصلاة في جماعة فلا يأتونها، لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس في جماعة فأضرمها عليهم نارا، فإنه لا يتخلف إلا منافق" وروى ابو داود في سننه عن أبي الدرداء مرفوعا: "ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية" .
وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لعنهم الله، رجل أمّ قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، ورجل سمع حي على الصلاة حيّ على الفلاح ثم لم يجب" ومن المعلوم أنه لا يستحق اللعن إلا من أتى كبيرة أو ترك فريضة.
أما القائلون بأن وجوبها كفائي فقد استدلوا بالمفاضلة بين صلاة الجماعة وصلاة المنفرد كما سبقت الاشارة الى ذلك، وسبق الجواب عن هذا الاستدلال، وقد حاولوا جهدهم أن يلووا أعناق الأدلة الصريحة على وجوبها كما سبق بيانه، ومن ذلك أنهم حملوا الأمر في حديث ابن أم مكتوم ونحوه على الندب، وهذا مما يدعو إلى الاستغراب، فإن المندوب مرخص في تركه بالإِجماع، والنبي عليه أفضل الصلاة والسلام قد صرح لابن أم مكتوم بأنه لا يجد له رخصة في تركها مع توعده على تركها في غيره من الأحاديث.
واستدل الشوكاني لقوله الذي اختاره - وهو أنها سنة مؤكدة - بأنها لو لم تكن كذلك لأمر النبي صلى الله عليه وسلم من وفد إليه ممن أسلموا أن يقيموها جماعة كما أمرهم بالصلاة نفسها، ولم يثبت عنه ذلك مع عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه.
والعجب من الشوكاني - مع سعة علمه وكثرة اطلاعه على السنة أسانيد ومتونا - كيف ينفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر الوفود بإقامة الصلاة في الجماعات مع ثبوت ذلك في الصحاح والسنن وسائر كتب الحديث، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان
"عن مالك بن الحويرث، قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رقيقا وظن انا قد اشتقنا أهلنا فسألنا عن مَن تركنا من أهلنا فأخبرناه فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم" ونحوه عند أبي داود والترمذي والنسائي وأخرج البخاري عن عمرو بن سلمة قال: كنا بماء ممر لناس تمرُّ الركبان نسألهم ما للناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون يزعم أن الله أرسله أوحى إليه كذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام فكأنما يغري في صدري وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كان وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي حقا، فقال: "صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا..." الحديث، وأخرجه بمعناه أبو داود والنسائي، وفي هذا ما يكفي ردا على مقولة الشوكاني بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤثر عنه أنه يأمر الوافدين بصلاة الجماعة، على أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ما يكفي دليلا على تبيين هذا الواجب لمواظبته عليه أفضل الصلاة والسلام على الصلوات في الجماعات.
ولو لم تكن الجماعة واجبا لا محيص عنه لتركها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أوقاته ليبين للناس عدم وجوبها أو أفصح عن ذلك بلسانه كما أخبرهم عن صلاة التهجد أنها واجبة عليه دونهم، أمَّا وقد حافظ عليها سفرا وحضرا وخوفا وأمنا حتى مشى إليها في مرض موته وهو يتهادى بين اثنين من أصحابه، فلا مناص عن الوجوب، وقد عرف عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك العمل وهو من أحب الأعمال إليه لئلا يفرض على أمته، ومن ذلك عدم خروجه إلى أصحابه في المسجد لصلاة قيام رمضان بعدما صلى بهم ليلتين أو ثلاثا.
والأمة - مع اختلافها في حكم الجماعة - لم تختلف في أن تاركها منبوذ بينهم ولو دأب على الطاعات وبكى من خشية الله، وقد صرح العلماء بأن لا يرقى إلى مقام الولاية مهما كان حاله ما دام باقيا على تركها؛ كما اتفقت الأمة على أن القائم بالأمر عليه أن ينظر في عقوبته بما يراه رادعا له لئلا تسول لأحد نفسه أن يتهاون فيها، وهذه كلها أدلة على وجوبها، فيجدر بالمسلم أن يحمل عليها نفسه، ويحرص عليها جهده، ويربي عليها أولاده، ليقي نفسه وأهله نارا وقودها الناس والحجارة، أعاذنا الله منها.