خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِي ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ
٤٧
-البقرة

جواهر التفسير

عود على بدء في خطاب بني اسرائيل المتضمن تذكيرهم بنعمة الله عليهم، ولا يعد هذا تكرارا لسابقه لأنه هناك ترتب عليه مطالبتهم بالوفاء بعهد الله والإِيمان بما أنزل مصدقا لما معهم... الخ، وهنا يترتب عليه تفصيل ما أجمل هناك من النعمة، ومن شأن النفس أن تتشوف بعد ما تخبر بالشيء إجمالا إلى تفصيله كما يترتب عليه بيان ما كانوا يطوونه عن الناس من تأريخهم الأسود عبر العصور التي كانت فيها النبوات، وما كان منهم من عنت ومكابرة وشقاق.
كثرة أنبياء بني إسرائيل
وأول ما ابتدئوا به في التذكير تفضيلهم على العالمين بكثرة الأنبياء فيهم وتتابع الرسالات إليهم لإِحياء النخوة في نفوسهم التي من شأنها إبعاد صاحبها عن دركات التسفل في الأمور، وبعث الشعور بالكرامة التي من الله بها عليهم ليكون باعثا على شكره والاستحياء من نقض عهده، وقد خوطبوا بذلك غب ما تقدم من وعظهم ليكون ذلك أدعى الى قبول الوعظ وهو أسلوب عجيب من أساليب التربية النفسية سبق إليه القرآن المنزّل من عند الله العليم بخفايا النفوس وطوايا الطبائع، فهذا التفضيل وإن كان - في واقعة - لآبائهم فإنهم امتداد لأولئك الآباء، ومن شأن النفس أن تعتز بتليدها من الخير فتسعى إلى ضم طارفه إليه، والتذكير بكرامة الآباء وفضائلهم وفواضلهم من أنجح الدواعي لبعث عزائم أبنائهم على أن يحذوا حذوهم، ويقفوا أثرهم وكثيرا ما تحول الأصالة في الخير والعز والشرف عن التردي في دركات الشر والمهانة والفساد، وإذا كان الوعظ من شأنه أن يترك في الموعوظ أثرا نفسيا جارحا لشعوره بأن الواعظ لم يقصده بموعظته إلا لأنه لم يكن على الحالة التي ينبغي أن يكون عليها - وقد يفضي هذا الشعور إلى النفرة لما يصحبه من الإِحساس بالمهانة - فإن مزج الموعظة بذكر شرف الموعوظ وعلو قدره وسؤدد محتده كفيل بأن يعفي هذا الأثر فيحول الشعور بالمهانة إلى شعور بالكرامة وإحساس بأن ما نهنهته عنه الموعظة أمر لا يليق بشرف الماضي وكرامة الحاضر.
وقد يقال إن اليهود كانوا من قسوة القلوب وتبلد الأذهان وتحجر الأفكار بحيث لا تجدي فيهم موعظة ولا ينفع فيهم التذكير، وهل أثر هذا الأسلوب القرآني البليغ في نفوسهم شيئا، أو أنهم ازدادوا عتوا واستكبارا، وإباءً للحق، وتعاميا عن الحقيقة، وإخلادا إلى الباطل، وتمسكا بالضلالة.
والجواب ان القرآن الكريم جعله الله منارا للعالمين في جميع العصور، وهو في مخاطبته لبني إسرائيل بهذا الأسلوب يرسم لنا منهاج الدعوة، ويعلمنا كيف نتعامل مع المدعوين ونصابرهم، وإن غلظ شعورهم وساء صنعهم ولم يلقونا إلا بشراسة الأخلاق وسوء المعاملة، وهذا هو مسلك الدعوة في جميع رسالات الله، وعند جميع رسله، فانظروا كيف صبر نوح عليه السلام على عنت قومه وإصرارهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وهذا فرعون الطاغية الذي نازع جبار السماوات والأرض في ألوهيته يرسل الله إليه موسى وهارون ويأمرهما أن يقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى مع ما سبق في علم الله أن موعظته لا تجدي فيه شيئا بل لا تجد مسلكا إلى نفسه التي ران عليها طبع اللؤم والفساد، وهذه أوامر الله وتوجيهاته لخاتم رسله وصفوة خلقه صلى الله عليه وسلم بأن يدأب على الدعوة ويقارع بها قومه مع قوله فيهم:
{ { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [يس: 7]على أن بني اسرائيل قد رقت قلوب طائفة منهم ونارت عقولهم فاتبعوا الحق الذي أنزل كعبد الله بن سلام رضي الله عنه، وفي أمثال هؤلاء يقول الله سبحانه: { { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف: 159]، وقد قال تعالى في صفوة أهل الكتاب عموما: { { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [القصص: 52 - 54].
وهذا التفضيل إنما هو بما جعل الله فيهم من النبوات المتعاقبة - بحيث كانوا أكثر الأمم أنبياء - وبما منحهم الله من النعم الخارقة للعادات كفرق البحر لهم، وإنزال المن والسلوى عليهم، ويستبان ذلك مما حكاه الله تعالى عن موسى من قوله:
{ { ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَٱلَمِينَ } [المائدة: 20].
وقد تقدم تفسير العالمين ولا بد من تقييد مفهومه هنا بما تقتضيه الأدلة، وهو أنهم فضلوا على عالم العصر الذي مُنحوا فيه القيادة الروحية بين الأمم بما أتوه من الآيات وما أكرموا به من النبوات، وعليه يحمل قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [آل عمران: 33]، وقوله: { { وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [الدخان: 32]، أما بعد ما انتزع زمام القيادة من أيديهم ووُضع في أيدي قوم آخرين - وهم أمة خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه - فلا تفضيل لهم على أحد، ومهما يكن لهم من فضل فيما سبق فإنه لا يبلغ إلى شأو فضل هذه الأمة التي قال لها الله: { { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 110]، واذا كان تفضيل بني اسرائيل بسبب تلك النبوات المتعاقبة والرسالات المتتابعة في المحيط الإِسرائيلي فإن تفضيل هذه الأمة بالرسالة العظمى الخاتمة التي هيمنت على جميع الرسالات وجمعت كل ما فيها من الهدى ولم تأفل شمسها منذ سطعت على الوجود، وبأن المضطلع برسالتها هو أفضل النبيين الي يظللهم جميعا لواؤه في المحشر، وكفى بأن جعل الله رسالته رحمة للعالمين.
وذهب الزمخشري - وتابعه كثير من المفسرين - إلى أن المراد بالعالمين هنا الجم الغفير من الناس، كما يقال رأيت عالما من الناس، أي عددا كبيرا منهم، واستدلوا له بقوله تعالى:
{ { بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 71]، وضعفه الفخر الرازي لأن لفظ العالم مشتق من العلم، فكل ما كان دليلا على الله تعالى كان عالما، فكان من العالم. قال: "وهذا تحقيق قول المتكلمين العالم كل موجود سوى الله، وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ العالم ببعض المحدثات".
ورده الشوكاني من وجهين: أولهما: أن دعوى اشتقاق العالم من العلم لا برهان عليه.
ثانيهما: لو سلم صحة هذا الاشتقاق كان المعنى موجودا بما يتحصل معه مفهوم الدليل على الله الذي يصح إطلاق اسم العالم عليه وهو كائن في كل فرد من أفراد المخلوقات التي يستدل بها على الخالق، وغايته أن جميع العالم يستلزم أن يكونوا مفضلين على أفراد كثيرة من المحدثات، وأما أنهم مفضلون على كل المحدثات في كل زمان فليس في اللفظ ما يفيد هذا ولا في اشتقاقه ما يدل عليه.
وهذا ظاهر فإنه من المعلوم أن لفظ العالمين هنا لا يشمل عالم النباتات ولا عالم الجمادات كما لا يشمل عالم الملائكة لعدم وجود النبوات فيهم، وإنما مفهومه محصور في العالم الإِنساني، وهو محمول على طائفة من الناس دون سائرهم.