خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ
٤٩
-البقرة

جواهر التفسير

شروع في تفضيل النعم بعدما ذكرت مجملة في لفظ (نعمتي) المفيدة للاستغراق، لأن تعريف اسم الجنس بأل أو الإِضافة دال على قصد جميع أفراد مدلولاته، وقبل الشروع في هذا التفصيل ذُكِّروا بنعمة كبرى تعد أساسا لهذه النعم - وهي تفضيلهم على العالمين - وذلك لأجل تحريك هممهم الخاملة عن الخير وإثارة عزائمهم المتوانية عن الحق كما سبق تفصيله.
وقصة تنجية بني إسرائيل من عذاب فرعون وآله، وإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض جاءت مفصلة في القرآن المكي السابق نزوله على هذه السورة، وإنما ذكرت هنا عرضا لقصد التذكير، والقرآن الكريم - كما قلت من قبل - ليس هو كتابا تأريخيا معنيا بعرض أحداث الزمن وقضايا التأريخ وإنما هو كتاب دعوة يخاطب الإِنسان من حيث هو إنسان، وبما أن كل جيل من هذا الجنس هو حلقة في سلسلة الأجيال المتعاقبة منذ خلق الإِنسان وإلى نهاية وجوده في هذه الأرض كان جديرا أن تستفيد هذه الأجيال من جميع الأحداث التي مرت بمن قبلها، فإن السنن الكونية التي تحكم الإِنسان - بمشيئة الله - لا تتبدل، فأسباب الفوز والنجاح والاستقرار والاطمئنان وأسباب الفشل والاضطراب والذمار هي هي لا تختلف باختلاف العصور.
دعوة الاسلام إلى النظر في أحوال الأمم
وإذا كانت جميع الأحداث جديرة بأن يستفاد منها فإن أولى ما يستفاد منه تلك الأحداث التي مرت بصفوة خلق الله من النبيين والمرسلين وهم يبلغون رسالات الله ويؤدون أماناته إلى أممهم وما يترتب على ذلك من تكذيب الأمم لهم واعتراضهم عليهم ووقوف المتكبرين في وجوههم وقطعهم السبل عليهم وما تسفر عنه المعركة - بعد جهد دائب وعناء طويل - من انتصار الحق وانهزام الباطل:
{ { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [يوسف: 111].
وما أحق هذه الأمة التي أنزل عليها القرآن وأكرمت بخاتم رسل الله عليه أفضل الصلاة والسلام أن تعتبر - وهي تتلو كتاب ربها - بكل ما جرى على الأمم من قبلها في حال برها وفجورها، وشكرانها وكفرانها، واجتماعها وتشتتها، فإن سنن الله لا تتبدل:
{ { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } [الأحزاب: 62]، وما أجدرها بالإِطلاع على سنن الاجتماع في الأمم السابقة والمعاصرة لها ذلك لأنها أمة دعوة، وصاحب الدعوة مضطر الى الاستفادة ممن سبقه في هذا المضمار، ومضطر إلى معرفة أحوال الناس ودراسة أوضاعهم ليدرك كيف يدعو بينهم ويصل الى إقناعهم، وحسبنا دليلا على ذلك أن الله تعالى أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم في بداية تأريخ الدعوة بمكة المكرمة والمؤمنون قلة تنشب فيهم مخالب الجاهلية وأظفارها، أنزل عليه نبأ ما يجري في العالم من أحداث آن ذاك وأنبأه بما وصل إليه العراك الطويل بين الدولتين الكبريين السائدتين في العالم المتحضر يومئذ من انتصار دولة فارس الشرقية على دولة الروم الغربية وما سيعقب هذا الانتصار من انتصار معاكس لم يكن أحد يسحب له حسابا أو يفكر فيه، وذلك قوله عز من قائل: { { غُلِبَتِ ٱلرُّومُ فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } [الروم: 2-5].
وكفى بهذا شاهدا بعالمية هذا الدين وعالمية الدعوة إليه وأن على رجاله أن لا يكونوا حبساء متقوقعين في محيط ضيق، بل عليهم أن ينطلقوا في أرجاء الأرض ويكتشفوا ما يدور لدى أممها وشعوبها وإلا فما كان الداعي لأن ينزل قرآن - يتلى في الصلوات ما دامت حياة على الأرض - لينبئ آحادا أو عشرات من المؤمنين بنبأ عالم هم بمنأى عنه وليست بينهم وبينه علاقة دينية ولا سياسية مع كونهم قد أهمتهم أنفسهم بما يلقونه من التحدي ويكابدونه من المشاق لولا أن الله أراد أن يهيئ نفوسهم ويعد كواهلهم للاضطلاع برسالة عالمية ومهمة إنسانية لا تختص بشعب دون شعب، ولا أرض دون أخرى.
وقد أدرك السلف الصالح حاجة الدعوة إلى دراسة أوضاع الناس السياسية والاجتماعية، فكانوا لا يألون جهدا في البحث والتنقيب عما يفيدهم ويفيد دعوتهم من ذلك ليكونوا على خبرة مما يأتون ويذرون، وعلى بينة مما كانت تفرزه الأحداث من نتائج يمكن تداركها بوسيلة أو أخرى، أو يمكن استغلالها لمصلحة الحق والدعوة إليه، وحسبي أن أذكر نموذجا حيا من تلك الشخصيات السلفية الفذة التي كان لها دور تأريخي لا تغيره الأحداث ولا يمحوه الزمن، ذلكم هو الإِمام العملاق أبوعبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي رضي الله تعالى عنه الذي لم يمنعه الإِرهاب الأموي مع ما ابتُلي به من فقر وضعف وعمى أن يشتغل بأحوال الناس ويُعنى بقضايا المسلمين، ويكل إلى الحجاج من تلامذته ومريديه أن يلتقوا بإخوانهم المسلمين الوافدين إلى رحاب بيت الله العتيق من أنحاء المعمورة، ويكتشفوا منهم ما يعانونه من مشكلات ويقاسونه من الإِرهاب والظلم، أو ما عرفوه بالسماع من أحوال غيرهم، وكان أولئك التلامذة والمريدون يجمعون حصيلة هذه المعلومات بعدما يلتقطونها من الأفواه فينقلونها الى شيخهم الكبير وقائدهم المحنك ليدرس الأحوال كأنه ينظر اليها من كثب في وقت لم تكن تعرف فيه وسيلة من وسائل الإِعلام إلا تناقل الألسن للأحداث وسير الركبان بأخبارها، ولم يكن يألوا جهدا أن يفكر في حل لكل مشكلة وعلاج لكل مشكلة وعلاج لكل معضلة؛ فعندما علم بما كان المسلمون البربر في بلاد المغرب يعانون من قسوة ولاة بني أمية الذين لم تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلا، وما كانوا يفكرون فيه من وسائل التخلص من هذا العسف والظلم أرسل إليهم على الفور أحد رجاله الأفذاذ - سلمة بن سعدرحمه الله - الذي لم يتردد لحظة في قبول أوامره قائده والقيام بما وكله إليه على أحسن وجه حتى نتج عن ذلك قيام تلك الدولة العادلة التي أذاقت أبناء تلك المنطقة لذة العدل بعدما تجرعوا مرارة الظلم.
وبما أن السلف كانوا أغزر فهما لكتاب الله وأكثر دراية بمراشده استفادوا بتلاوتهم إياه من النواحي الاجتماعية كما استفادوا من الناحية الدينية، فقد أثار في نفوسهم الهمة والرغبة في فهم أوضاع البشر والإِطلاع على عجائب الأرض والتفكر في سنن الكون، وقد أدى بهم ذلك إلى التضحية بجزء ثمين من وقتهم لأجل هذه الغاية، ومن أمثال هؤلاء الإِمام أبويعقوب يوسف بن ابراهيم الوارجلاني الذي تحمل المشاق وصبر على وعثاء السفر حتى توغل في أعماق افريقيا السوداء لأجل الوقوف على خط الاستواء والاستفادة في أقيسة الطول والعرض فكان رائدا في هذا العلم وعلما من أعلامه كما كان علما من أعلام الشريعة.
وقد سبق ابن خلدون صاحب العبر الأوربيين بقرون في دراسة أصول الاجتماع وقواعد العمران، فكانت عِبره مرجعا لجميع عشاق هذا العلم.
وقد بلغت عناية السلف بالعلوم الإِنسانية أنهم كانوا ينقلون الأحداث والتواريخ بالأسانيد كما ينقلون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما ساء فهم الناس للقرآن وأخذا يتلونه للأسجاع والأنغام لا للاستفادة بفهم مراشده ودراسة مقاصده زهدوا في هذه العلوم فصاروا أكثر الناس تخلفا فيها حتى أن من يعنى بها من أبنائهم لا يتلقاها إلا من الغربيين وبحسب المفاهيم التي يعتقدونها والأساليب التي يتبعونها، فلذلك أصبحنا أكثر الناس إفلاسا في تأريخ أنفسنا فضلا عن تأريخ غيرنا.
هذا وقد سبق الكلام في (إذ) وذكر جانب من اختلاف النحويين فيها في مثل هذا المقام في تفسير قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ }. وبناء على ما اخترته هناك من جواز نصبها على المفعولية، فهي هنا معطوفة على مفعول (اذكروا) - وهو (نعمتي) - وهو من باب عطف الشيء على ما يصح إبداله منه، وجعل الزمن نفسه مذكورا مع أن المقصود بالذكر أحداثه لأن ذلك أبلغ في الدلالة على عموم هذه الأحداث، ولا يمنع توسط: { وَٱتَّقُواْ يَوْماً... } الآية بين المعطوف والمعطوف عليه من العطف لأنه ليس أجنبيا من كل وجه ولأن المعطوف والمعطوف عليه ليسا كالعامل والمعمول ومع ذلك يُفصل بينهما في كثير من الحالات.
والتذكير بالنعمة مقرونا بذكر البلاء ليكون أبلغ وقعا في النفس فإن كل نعمة لا يقدرها قدرها إلا من سلبها، فنعمة الغنى لا يعرف كنهها إلا من يكابد مشقة الفقر، ونعمة الصحة لا يدرك حجمها إلا من يعاني من بلوى المرض، ولذة النعيم لا يدريها إلا من تذوق آلام البؤس، وقد أريد لهؤلاء المخاطبين أن يستحضروا حالة آبائهم وهم يرزحون تحت نير فرعون وآله، ويتململون في قيود المهانة والذلة، ويواجهون في كل يوم صنوفا من البلاء، ويتحملون ضروبا من العذاب، وكيف كانت عناية الله بهم إذ غشيتهم نعمته بقدر ما لم يكونوا يتصورونه فأنقذتهم من كل ما كانوا فيه، وأخرجتهم من الذلة إلى العز، ومن الفقر إلى الغنى، ومن التعب إلى الراحة، ومن البؤس إلى النعيم، والتذكير بهذا الأسلوب أدعى إلى الارعواء عن الغي، والاستجابة إلى الرشد، والقيام بواجب شكر المنعم قدر المستطاع.
وتذكير الأولاد بما أُنعم على آبائهم لأنهم امتداد لهم، أو لأنهم مخاطبون باعتبار أنهم جميعا أمه إسرائيلية، وهذا هو الذي ذهب إليه الإِمام محمد عبده، وهذا نصف المحكى عنه في المنار: "خاطب الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما كان لآبائهم لأن الإِنعام على أمة بعنوان أنها أمة كذا هو إنعام شامل للأمة من أصابه ذلك الإِنعام من أفرادها ومن لم يصبه، ويصح الامتنان به على اللاحقين منهم والسابقين، كما يصح الفخر به منهم أجمعين، كما أن الإِنعام على شخص بشيء يختص بعضو من أعضائه كلبوس يلبسه أو لذيذ طعام يطعمه يكون إنعاما على الشخص ولا يقال إنه إنعام على لسان فلان ولا على رأسه أو يده ورجله، ولأن ما وصل الى مجتمع بعنوان ذلك الاجتماع والرابطة التي ربطت أفراده بعضه ببعض يكون له أثر في مجموع الأفراد، لا سيما إن كان الواصل من نقمة أو نعمة مسببا عن عمل الأمة، شرا أو خيرا، ويكون لذلك أثر في الأمة يورثه السلف الخلف ما بقيت الأمة، وأنواع البلاء التي ذُكِّر بها اليهود في القرآن كانت لشعب إسرائيل من حيث هو شعب إسرائيل لأن الجرائم التي كان البلاء عقوبة عليها إنما كانت من مجموع الشعب من حيث هو شعب إسرائيل، ثم إن الله تعالى كان يتوب على الشعب بعد كل بلاء ويفيض عليهم النعم، فتكون العقوبة تربية وتعليما تفيد المعتبرين بها نعمة وسعادة.
لا أقول إن هذا الخطاب إيماء أو إشارة للمخاطبين بأن يستحضروا تأريخ أمتهم الماضي ليتذكروا صنع الله تعالى فيهم فيعتبروا بما أصابهم من نعماء وضراء، وسعادة وشقاء، ويتفكروا فيما حل بهم من بعدهم وما ينتظر أن يحل بهم، وإنما الكلام نص صريح لا يحتاج إلى التأويل، فالروابط الاجتماعية بين أفراد الأمم وجماعاتها كالروابط الحيوية بين أعضاء الشخص الواحد بلا فرق، تعثر الرجل فتخدش أو توثأ، والألم يلم بالشخص كله من حيث هو شخص حي بحياة واحدة تستوي فيها رجله وسائر أعضائه، ولذلك يسعى بجملته لإِزالة ألم الرجل ويتوقى أسباب العثار بعد ذلك مستعينا بكل أعضائه وقواه.
والتنجية التخليص من الأذى، وأصلها - عند القرطبي - الإِلقاء على نجوة من الأرض، وعند غيره هي الأصل وأخذت منها النجوة لارتفاعها وخلوصها عن سائر الأرض، ولأنها مظنة النجاة.
والآل هم الأهل والعشيرة والأتباع وليس خاصا بذوي القرابة النسبية، والدليل على شموله الأتباع هذه الآية وأمثالها، فإنه مما يدرك بداهة أن الذين كانوا يسومون بني إسرائيل الخسف وينزلون بهم سوء العذاب لم يكونوا خاصة فرعون فحسب بل هم جميع أتباعه، كما أن الذين عوقبوا بالغرق مع فرعون ما كانوا ذوي قرابته وحدهم بل جميع جنوده كما نص عليه قوله تعالى:
{ { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ... } الآية [القصص: 40]، ويدل أيضا على شمول الآل لجميع الأتباع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "آل محمد كل تقي" وقد أجاد الإِمام اللغوي نشوان ابن سعيد الحميري صاحب شمس العلوم حيث قال:

آل النبي هم أتابع ملته من الأعاجم والسودان والعرب
لو لم يكن آله إلا قرابته صلى المصلي على الغاوي أبي لهب

ولأجل دلالته على التبعية خُصت إضافته - عند بعض - إلى من كان ذا مكانة لفضله وصلاحه، أو لقوته ونفوذه، فمن الأول آل النبي، ومن الثاني آل فرعون، وبما أن فرعون نفسه كان مصدر بلاء بني اسرائيل لأنه هو الذي مكن لآله من سومهم سوء العذاب وأمرهم به يتبادر هنا سؤال، لم جُعلت النجاة منهم ولم تجعل منه؟
والجواب: أن ذلك لأن النفس ترتاح إذا خُلصت من قهر من يباشرها بالعذاب، وتشتفي اذا ما تلقى جزاءه العادل على فعله ذلك ولم يكن فرعون نفسه يتولى تعذيبهم بيديه، وإنما أولئك الأتباع كانوا ينفذون أمره ويبلغونه قصده ولعل منهم من كان يتجاوز حدود ما أُمر به فيفرط في التنكيل بهم والنيل منهم، وهذا هو دبدن حواشي الظلمة وأعوانهم، ومن ناحية أخرى فإن القائد بجنده، بهم يصول ويجول، ويعد ويتوعد، ويصل ويقطع لولاهم لما كان له شأن ولا اختص بمزية بين الناس.
وفرعون لقب لحكام مصر قبل البطالسة، وقد شاع عند المفسرين أن فرعون الذي تردد ذكره في القرآن وتربى في حجره موسى بن عمران فكان - بمشيئة الله - هلاكه على يديه هو أحد العمالقة الذين تغلبوا على حكم مصر السفلي، أي الشطر الشمالي من القطر المصري؛ وباستقراء التأريخ المصري القديم يتضح خلاف ذلك فإن الحكم العمليقي لمصر قد انتهى عام 1700ق.م عندما ظهرت العائلة الثامنة عشرة وذلك قبل ميلاد موسى عليه السلام بعهد طويل، فإنما كان ميلاده ونبوته عليه السلام إبان حكم العائلة التاسعة عشرة التي شمل حكمها القطر المصري بشطريه الجنوبي والشمالي.
وبسبب هذا الوهم قالت طائفة بأن هذا اللقب خاص بحكام العمالقة، وليس الأمر كذلك كما علمت وفي مقابل هذا الرأي ذهب آخرون إلى أنه لقب عام لكل حكام مصر قبل الإِسلام - أي قبل ظهور النبي الخاتم عليه أفضل الصلاة والسلام - ويرد ذلك بأنه لم يعهد إطلاقه على أحد إبان خضوع مصر للإِمبراطورية الرومانية، وعندما وجه النبي صلى الله عليه وسلم نداءه إلى حاكمها المحلي المقوقس يدعوه إلى دين الله لم يطلقه عليه.
وهو في أصله جامد غير مشتق لكن بما أنه أطلق على أعتى الناس وأمردهم صار كالعلم على العتو والتمرد فاشتق منه بعضهم تفرعن إذا عتا حيث قال:

قد جاءه موسى الكلوم فزاد في أقصى تفرعنه وفرط عرامِه

وبداية الوجود الإِسرائيلي بمصر كانت بدخول يوسف عليه السلام فيها الذي مكن الله له في أرضها حتى أصبح عزيزها، وانضم إليه أبوه يعقوب عليه السلام - وهو إسرائيل - ومعه بنوه، فكانوا نواة للمجتمع الإِسرائيلي، بأرض الكنانة، وقد جعل الله في ذريتهم البركة فتناموا حتى بلغ عددهم - فيما قيل - حال خروجهم من مصر نحو ستمائة ألف مع أن مدة بقائهم فيها نحو أربعمائة عام، وقد كانوا بداية الأمر على وفاق مع المصريين غير أن نمو عددهم المتزايد وبقاءهم محافظين على عاداتهم وعباداتهم غير ذائبين في الشعب المصري، كان ذلك كله مصدر قلق للمصريين إذ لم يأمنوا أن يصبحوا في يوم من الأيام أكثر عددا وأقوى عدة مع احتمال ارتباطهم بالشعوب المجاورة التي كانت تثور في وجه فرعون مصر فيخمد ثوراتها بعنفٍ تنتج عنه خسائر فادحة في ماله ورجاله، ومن بين هذه الشعوب الشعوب الكائنة بأطراف جزيرة العرب، وهذا الذي دعا فرعون وآله إلى التفكير في وسائل التخلص منهم ليأمنوا هذا الجانب، فأخذوا يستذلونهم ويكلفونهم من مشاق الأعمال ما لا تقواه نفوسهم وأجسادهم رجاء انقراضهم بقلة نسلهم، وتفشى الأمراض والموت فيهم، ولكن - لأمر أراده الله - كانوا مع ذلك يتكاثرون، ولم يمت في نفوسهم الشعور بالعزة والإِباء لاعتقادهم أنهم شعب الله وصفوته من خلقه، وقد كان بقاء هذه القوة المعنوية في نفوسهم شبحا مخيفا يتراءاه آل فرعون لأن انقراض الشعوب أو الأمم إنما يكون بموت معنوياتها، وإذا بقيت المعنويات فلا مطمع في انقراضها رغم التعذيب البدني والتصفية الجسدية.
وما من شك في أن الإِذلال الدائم لأي مجتمع أو شعب أخطر وسيلة في إعدام نخوته وإبادة شعوره بالعز والإِباء، فإن نسول المستذلين لا تكون إلا ذليلة، وماذا عسى ان تكون حالة جيل يفتح عينيه فيرى أصوله نرزح في قيود الذل وتحت وطأة القهر والاستعباد؟ فهل يكون مثل هذا الجيل إلا أكثر ذلا وأشد خنوعا، وأعظم رضى بكل ما يلقاه من قاهريه ومستذليه؟ غير أن هذه الطريقة تحتاج إلى صبر طويل المدى حتى تعطي نتائجها، ولم يكن فرعون وآله يملكون مثل هذا الصبر، ومن ثم استعجلوا النتيجة بإبادة الذكران من المواليد الإِسرائيليين واستبقاء إناثهم للإِمعان في الإِهانة، وهذا لأن الذكور بهم امتداد حياة الأمم والشعوب والقبائل، وماذا عسى أن تكون حالة الإِناث وما لهن من حام للذمار، أو كاشف للعار؟ ولو قدرت لهن ذرية فلن تكون امتدادا لأصولهن، وإنما يكونون امتدادا لآبائهم الآخرين.
هذا ما يدل عليه قوله تعالى: { يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ }، وقد ذهب أكثر المفسرين في تفسيره مذاهب لا تستند على حجة سوى روايات ليس لها من أصل وإن عُزيت إلى من عزيت اليه من السلف، منها أن فرعون أخبرته الكهنة عن إظلال زمن مولود إسرائيلي يكون هلاكه على يديه، ومنها أنه رأى في نومه نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وسلمت بني اسرائيل فأُولت له رؤياه بما سبق ذكره، ومنها أنه نُمي إليه حديث تردده ألسنة بني اسرائيل مفاده أن الله تعالى وعد عبده الخليل ابراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا، وأنهم يتطلعون إلى هذا الوعد ليتخلصوا مما هم فيه من النكد.
وهذه الأقوال ظاهرة البطلان؛ أما الأول والثاني فبطلانهما من حيث إن الرؤيا والكهانة لو أفادا علما يقينيا بأمر ما مع تحديد زمنه لبطل إعجاز النبوات بالإِخبار عن المغيبات لتساوي الكل في ذلك، وأين النبوة من الكهانة؟ والرؤيا الصادقة وإن كانت في كثير من أحوالها نافذة للاطلاع على بعض الأحوال المستقبلة، فإنها تختلف عن الوحي الظاهري لأنها تأتي مطوية في غُلفٍ تختلف رقة وغلظة ولذلك تحتاج إلى تأويل يصدر عن فهم وإدراك عميقين، ويبعد أن يكرم الله بالرؤيا الصادقة أمثال فرعون ممن ران على نفوسهم الكفر واستولى على وجدانهم الضلال، ومن ناحية أخرى فإنه من المستبعد أن يجرأ أحد على فرعون الجبار العنيد ذي البطش الشديد فيخبره بانتهاء ملكه على يدي ناشئ من بني إسرائيل.
وأما القول الثالث فبطلانه من حيث إن أخبار النبوات لم تكن لتؤثر على نفسية فرعون بعدما تكبر وطغى وبلغ به غروره أن قال:
{ { فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات: 24]، وقال: { { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } [القصص: 38]، فإن تأثيرها على نفسه نافذة إلى تصديقها والإِيمان بها وأنى لمن لم يؤمن بالله رأسا بل ادعى أنه هو الإِله الواحد أن يؤمن أو يتأثر بشيء مما تردده الألسن عن أخبار الأنبياء؟ وهب ذاك صحيحا فإن ذرية إبراهيم لم تكن منحصرة في ولد إسرائيل، فليس تذبيحه لأبناء الإِسرائيليين كافيا في الاحتياط عما يحذره من ذلك.
والمراد بسومهم سوء العذاب إذاقتهم إياه وإلصاقه بهم وفُسر بإيلائهم إياه، وحروفه توحي بالمداومة، ومن ذلك سميت الماشية التي لا تعلف سائمة لمداومتها الرعي، وقد شاع عند العرب قولهم (سامه الخسف)، أو (أسامة خطة خسف) إذا ألزمه ذلك، ومنه قول عمرو بن كلثوم:

إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا

وقد سبق تفسير العذاب وهو كله سيء، وإنما أضيف هنا الى سوء للإِمعان في الدلالة على كونه متناهيا في الإِيلام.
وفصلت هنا جملة { يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } لأجل كون تذبيح الأبناء من أكثر أنواع العذاب لما فيه من الإِيلام النفسي، فهي هنا مبدلة من جملة { يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } ووصلت في سورة إبراهيم للدلالة على أن هناك أنواعا أخرى من العذاب كانوا يسامونها، وقد رُويت عن مفسري السلف روايات في بيان أنواع هذا العذاب يفيد مجملها أن جميع الأعمال الشاقة والرديئة كانوا يحملونها دون غيرهم، وبالجمع بين فائدتي الفصل في هذه السورة والوصل في سورة إبراهيم يستفاد أن هذه البدلية هنا هي بدلية بعض من كل، وأن العطف هناك عطف خاص على عام.
ولا معنى لقول القرطبي إن الواو في (سورة إبراهيم) زائدة مستدلاله بقول الشاعر:

"فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى"

أي قد انتحى، وقول الآخر:

إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

والذي دعا القرطبي الى القول بزيادتها قبل (انتحى) من الشاهد الأول توهمه أن انتحى جواب للشرط وليس كذلك، فإن جواب الشرط في أول البيت الذي يليه ونص البيتين:

ولما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
أخذت بفودي رأسها فتمايلت عليّ هضيم الكشح ريا المخلخل

وأما الشاهد الثاني فقد نظر فيه إلى وحدة المعطوف والمعطوف عليه من حيث الذات ونسى أنه من باب عطف الصفات بعضها على بعض، فالمعطوف فيه غير المعطوف عليه، وإن يكن الموصوف بها واحدا، وقد تقدم ذلك.
والذي رجح العطف في سورة إبراهيم سبق قول الله فيها:
{ { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ } [إبراهيم: 5]، فإنه يشير إلى نعم متعددة أسبغها الله عليهم في هذه الأيام، وإنما عظم شأن هذه النعم حتى عبر عن أوقاتها بأيام الله لعظم الشدائد التي سبقتها، فبقدر هول المحنة تعظم نعمة الخلاص منها.
وقراءة الجمهور (يذبِّحون) بالتشديد، وقرأ ابن محيصن بالتخفيف والتشديد أبلغ لدلالته على الكثرة، والذبح معروف وأصله الشق، ولذا يُسمى تشقق الأصابع ذُباحا.
وأسند التذبيح إلى الآل لأنهم يباشرونه وإن كان فرعون هو الآمر به، واستدل به على أن من باشر قتل أحد بأمر ظالم فالمباشر هو المقتول به، وفي هذه المسألة خلاف بين الفقهاء، قيل يقتلان جميعا، هذا بأمره وهذا بمباشرته القتل، وهو المروي عن النخعي، وقيل بالتفصيل فان كان المأمور يعلم أن الآمر ظالم ولم يكن مكرها قتلا معا، وإلا قتل الآمر دون المأمور، وهو المروي عن مالك والشافعي، وعليه فعلى المأمور نصف الدية، وقيل بتفصيل آخر وهو قتلهما معان ان كان للآمر سلطان على المأمور، وإلا فيقتل المأمور وحده، وهو الذي عليه أصحابنا، وعليه أكثر المالكية، وقيل غير ذلك.
والمراد بالأبناء الأطفال كما يقتضيه الظاهر، وذهب قوم إلى أن المراد به الرجال البالغون، قال ابن عاشور: "وهذا الوجه أظهر وأوفق بأحوال الأمم، إذ الظنون أن المحق والاستئصال إنما يقصد به الكبار ولأنه على الوجه الأول تكون الآية سكتت عن الرجال إلا أن يقال إنهم كانوا يذبحون الصغار قطعا للنسل، ويسبون الأمهات استعبادا لهن، ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدريج، وإبقاء الرجال في مثل هذه الحالة أشد من قتلهم، أو لعل تقصيرا ظهر من نساء بني إسرائيل مرضعات الأطفال مربيات الصغار، وكان سببه شغلهن بشؤون أبنائهن، فكان المستعبدون لهن إذا غضبوا من ذلك قتلوا الطفل".
وعمدة أصحاب هذا القول مقابلة الأبناء بالنساء، وليس في ذلك دليل لما قالوه كما سيأتي إن شاء الله، والقول الأول هو للجمهور وبه نصت التوراة، ويقويه أن أم موسى عندما خشيت عليه القتل أوحى الله إليها أن تجعله في التابوت وأن تلقيه في البحر، وأن امرأة فرعون قالت لآل فرعون عندما التقطوه:
{ { لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } [القصص: 9]، فلو كان القتل للرجال البلغ لما كان لخوف أم موسى عليه سبب، ولا لقول أمرأة فرعون وجه.
واستحياء النساء طلب حياتهن بالإِعراض عن قتلهن، وعُد ذلك من سوء العذاب الذي يسومونهم إياه لأن القصد منه سيء للغاية إذ لم يريدوا باستحيائهن تسليمهن من القتل، وإنما أرادوا به هتك أعراضهن وإنزال صنوف المهانة بهن وذلك أبلغ في إيذائهم وإيذائهن من القتل. فلربما تمنى الحر الأبي موته أو موت كرائمه عندما يجدهن معرضات لمثل هذا البلاء، وكم سارعت الحرائر إلى الموت من تلقاء أنفسهن خشية العار واتقاء سوء الأحدوثة.
وعُبر عن البنات بالنساء ولم يُعبر عن الأبناء بالرجال لأنهم بقتلهم في طور الطفولة حيل بينهم وبين الوصول إلى طور الرجولة، بخلافهن فإن استحياءهن سبب لبلوغهن مبلغ النساء البالغات.
وذهب بعض المفسرين في استحياء النساء مذهبا بعيدا وهو أن المراد به اكتشاف أحيائهن - أي فروجهن - ابتغاء معرفة كونهن حوامل أو غير حوامل، وهو ضعيف، فإن الحمل له قرائن بارزة وعلامات ظاهرة فما الذي يدعوهم إلى اكتشاف الفروج لأجل التفتيش عنه، وليس فيها قرائن الحمل وعلاماته.
والبلاء الاختبار، ومنه قوله تعالى:
{ { لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } [النمل: 40]، ويكون بالنعمة وبضدها، ومن هنا اختلف في المشار إليه بقوله: { وَفِي ذَلِكُمْ }، قيل: هو المحنة المتمثلة في سوم العذاب وتذبيح الأبناء واستحياء النساء، وقيل: هو نعمة التنجية من ذلك، ورَجَّح الأول بعضهم بكونه أقرب مذكور، والثاني آخرون لأن السياق في الحديث عن التنجية، وذهب بعض اللغويين إلى أن ما كان بالمحنة يأتي فعله مجردا ومزيدا على وزن افتعل، فيقال فيه بلوته وابتليته، وما كان بالنعمة فيأتي فعله مزيدا بالهمزة غالبا ومجردا منها قليلا، فيقال: أبليته في الغالب، وبلوته في النادر، وقد جمع الشاعر اللغتين في قوله:

جزى الله بالإِحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو