خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
٨
-البقرة

جواهر التفسير

ذكر صفات المنافقين:
بعدما ذكر الله تعالى فريق الكفار المصارحين بما تنطوي عليه نفوسهم من الضلال وما تغلي به صدورهم من عداوة الحق وأهله، عطف على قصتهم قصة فريق آخر، لا يقل عن ذلك الفريق خطورة على الاسلام وأهله، بل هو أشد منه خطرا، وأبلغ منه ضررا - كما سيأتي بيانه - وهو فريق يرتدي أردية الاسلام ليغطي بها خفايا الكفر وبواطن الضلال، وهذه الصفة سميت في العرف الشرعي بالنفاق.
وقصة المنافقين هنا جاءت في جمل متتابعة منتظمة في سلك من الآي، معطوفة على ما سبق وقد كان هذا العطف مثار اهتمام الباحثين من المفسرين وغيرهم، وقد ظل أكثرهم يتخبط في قيود الاشكال حتى جاء من أزاح الستار عن وجهه وكشف ما خفي من حقيقته، وهو العلامة جار الله الزمخشري، في تفسيره المشهور "الكشاف" فقد بين فيه أنه عطف قصة على قصة أخرى وكل واحدة من القصتين تحتوي على مجموعة من الجمل، وبهذا تندفع الحاجة إلى مناسبة للعطف كالتي تكون بين الجملتين إن عطفت إحداهما على الأخرى، وإنما يكفي في مثل هذا الموضع التناسب بين الغرضين من القصتين دون احاد الجمل الواقعة فيهما.
ولم تفصل هذه القصة عما قبلها كما في قوله تعالى: { إنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ.. } (الآية)، لأن الفصل هناك لأجل تطلع السامعين بعد ذكر فريق المؤمنين إلى خبر ذلك الفريق الآخر الذي ظاهر قوله عقيدته الضالة الفاسدة، فكان السامع كالسائل عنه، فجاء الفصل لاستئناف بيانه.
أما هذا الفريق فلالتوائه في معاملته وستره قبائح طواياه بمحاسن ظاهره، كان أغمض حالا وأندر وصفا، وأغرب تصورا، بحيث لا يخطر بالبال وجود مثله، فلم يكن داع إلى استئناف بيانه لأن السامعين - لفراغ بالهم منه - لم يكونوا يتطلعون إلى خبره، ومن ثم كان هذا العطف.
وقبل الكلام عن تفاصيل ما تحتويه الآية الكريمة جملة وإفرادا أرى من المناسب أن أذكر النفاق ومدلوله اللغوي والعرفي.
مدلول النفاق ومعناه:
أما لغة: فهو من نَفَّق اليربوع تنفيقا، ونافق نفاقا إذا دخل في نافقائه، وذلك أن لبيت اليربوع بابين؛ ظاهرا وخفيا، فإذا أراد أحد اصطياده وترصد له في بابه الظاهر، خرج من بابه الخفي، وفات المصطاد. ويسمى الظاهر قاصعاء، والخفي نافقاء. ويقال إذا خرج من النافقاء نَفِقَ - بكسر الفاء وفتحها - وانتَفَقَ ونَفَّق.
وأما اصطلاحا فهو الدخول في الاسلام من وجه والخروج عنه من وجه آخر، وهو بهذا المعنى اسم جديد جاء به القرآن ولم تكن العرب تعرفه في جاهليتها، وهو مأخوذ من المعنى اللغوي المتقدم.
فإن المنافق بصنيعه هذا يشبه اليربوع في مخادعته لمن يحاول اصطياده بدخوله من باب ظاهر وخروجه من باب خفي.
وكما يطلق النفاق شرعا على مخالفة العقيدة للقول، يطلق كذلك على عدم التزام واجبات الاسلام العملية، والتلبس بالأعمال والأخلاق المنافية لصفاء الدين وطهارته، والدلائل على ذلك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال صحابته - رضي الله عنهم - كثيرة يشد بعضها بعضا، منها ما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا أئتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" ، وفي رواية للنسائي: "إذا وعد أخلف" بدلا من "إذا ائتمن خان"
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"آية المنافق ثلاث؛ إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر" . وفي رواية مسلم: "وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم" بعد قوله "آية المنافق ثلاث". وفي رواية لهما وللترمذي والنسائي مثل ما تقدم ولكن بإبدال "إذا ائتمن خان" من قوله "إذا عاهد غدر". وأخرج النسائي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "ثلاث من كن فيه فهو منافق؛ إذا حدث كذب وإذا ائتمن خان وإذا وعد أخلف فمن كانت فيه واحدة منهن لم تزل فيه خصلة من النفاق حتى يتركها" .
وأخرج البخاري عن زيد بن عبدالله بن عمر قال: قال ناس لابن عمر: إنا لندخل إلى سلطاننا وأمرائنا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، فقال: كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نص في أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يَعُدّون مخالفة الحق في العمل من النفاق، وهذا هو قول أصحابنا - رحمهم الله - وهو الذي اعتمده الحافظ بن حجر في شرحه لأحاديث النفاق من صحيح البخاري، وعزاه كل من ابن حجر والعيني في شرحيهما على البخاري إلى القرطبي، وعزاه العيني إلى الخطابي ونسبه الترمذي في جامعه إلى أهل العلم.
قسما النفاق:
وبهذا يتبين لك أن النفاق ينقسم إلى: نفاق عقيدة، ونفاق عمل.
وبما أن كثيرا من علماء المذاهب ينكرون نفاق العمل ولا يرون النفاق إلا في إبطان خلاف الظاهر من الاعتقاد، أشكلت عليهم هذه الأحاديث، وجرهم ذلك إلى تأويلها بما يتفق مع رأيهم، وإن خالف ظاهر مدلولها. والحق أن الكتاب والسنة فوق الآراء والمذاهب، فيجب أن تخضع لهما الآراء دون العكس، وليس في نسبة ثلاث خصال أو أربع إلى النفاق ما يمنع من كون النفاق العملي ينسحب حكمه على كل ما خالف الدين من الأعمال، فإن ذكر هذه الخصال لا يقتضي الحصر، وإنما هو من باب التمثيل والتقريب للأذهان، ومما هو ظاهر بداهة أن التمثيل بها دال على خطورتها، ومقتض للتحذير منها والعدد هنا ليس له مفهوم.
والنوع الأول من النفاق هو الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما هاجر إلى المدينة، ولم يكن في عهد الدعوة المكي وجود للمنافقين، إذ لم يكن ثم مناخ ملائم لِنَبْتِ النفاق، فقد كان السلطان بأيدي المشركين وكان المسلمون معرضين للأذى من قِبَلهم، فلم يكن داع لأن يتملق أحد إلى المسلمين بإعلان الاسلام مع استسرار ضده كما ألمحت إلى ذلك في مقدمة تفسير هذه السورة.
وعندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تتلبس دار الهجرة بادىء الأمر بالنفاق، إذ كان الناس فيها بين مؤمن صادق الايمان، وكافر يجاهر بكفره، سواء كان يهوديا أو وثنيا، حتى تحقق للاسلام النصر المؤزر في غزوة بدر الكبرى التي كانت إيذانا بظهور الحق واكتساحه الباطل، فرجفت القلوب المريضة ممن تخلف عن ركب الايمان من الأوس والخزرج وأحلافهم من اليهود، وكان بنو قينقاع أحلاف الخزرج، وبنو قريظة والنضير أحلاف الأوس.
واليهود من طبعهم الحقد الأسود، والكراهة المتأصلة للحق والعداء المستحكم لأهله، وقد شعروا أن دعوة الحق التي اتخذت من المدينة مركزا لها سوف تبتز منهم سلطانهم الروحي وسوف تكشف ما كانوا يطوونه عن الناس من قبائح صنعهم عبر تاريخهم الطويل، كقتلهم الأنبياء بغير حق وافترائهم على الله بتحريف ما أنزل، فكان ذلك الشعور نارا حامية تتأجج بين جوانحهم فتلهب صدورهم بإوار الحسد للدعوة ورجالها.
ومن بين أفراد الأوس والخزرج من كان لم تُرق له هذه الدعوة، كعبد الله بن أُبَيّ ابن سلول، الذي فكر أن الايمان والهجرة قد اختطفا من يديه أعز ما كان يطمح إليه؛ وهو تتويجه ملكا على يثرب بعد التناحر الطويل بين قبيلتيها، وكان ذلك على وشك أن يتم لولا إكرام الله المدينة ومن فيها بإبدالهم ما فيه عز الدنيا وسعادة الآخرة، وهو إشراق أنوار النبوة في ربوعها، وتحول أهلها من الضلالة إلى الهدى، ومن التشتت إلى الوئام، فلا عجب إذا وقف عبدالله بن أبيّ موقف الخصم اللدود من هذه الدعوة لهذا السبب، مع ما كان متلبسا به من خبث الطوية وانحراف الطبع وفساد الفطرة، وعندما هزت أصداء الانتصار الحاسم الذي أحرزه الاسلام في غزوة بدر أركان المشركين والمفسدين، أخذ يحسب يهود المدينة والذين بقوا على الكفر من الأوس والخزرج ألف حساب لمستقبل هذا الدين، فدلتهم خسة طباعهم على إظهار - هذه المجموعة المتخلفة عن الايمان من الأوس والخزرج مع ثلة من اليهود - الاسلام بألسنتهم مع بقائهم على عقيدة الكفر وشرور الأعمال وخبث النوايا، وكانوا يهدفون من ذلك إلى أمرين:
أولهما: الأمن على أنفسهم وأموالهم من سطوة الاسلام مع ما في ذلك من مشاركة المسلمين في منافع الحياة الدنيا.
ثانيهما: انتهاز الفرص المواتية لطعن الاسلام من الخلف وإثارة الاضطراب بين المسلمين من الداخل.
فتم بهذا ميلاد عهد المواجهة بين الاسلام وعدو ماكر خبيث يرتدي ملابس الأصدقاء، ذلكم العدو هو النفاق الذي كان يعد أخطر من الكفر الصريح، غير أن الوحي كان واقفا لهؤلاء المنافقين بالمرصاد، فكان ينزل بين حين وآخر ببيانه البليغ ليفضح طواياهم، ويعرّي دخائلهم، ويكشف مؤامراتهم.
وبما أن هذه الطائفة جمعت بين الكفر بالله الذي أخلدت إليه في سريرتها وبين الهزء بالمؤمنين، ومعاملتهم بالكذب والخداع كانت بحق أشد وأنكى وأدهى وأمر من الطائفة السالفة الذكر وهي طائفة الكفار، ولذلك خصت تلك بآيتين فقط، بينما تتابعت في هذه إحدى عشرة آية تصمهم بقوارع إنكارها، وتمطرهم بصيب وعيدها.
ومما يجب أن لا يعزب عن فهم اللبيب أن هذه الطائفة لم تنته بانتهاء عهد النبوة، ولم تنعدم بانعدام أولئك الأفراد، فما أكثر المنافقين في عصور ما بعد النبوة الذين يتمسحون بالدين لقصد نقض عراه، ودك قواعده، ومن بين هؤلاء من يخدع الناس بمظهر عنايته بالدين.
فيجب على المسلمين أن يكونوا من أمثالهم على بصيرة، وكفى بالقرآن كاشفا عن سماتهم التي يتميزون بها وأحوالهم التي يختصون بها دون غيرهم.
ولعمري ليست هذه العناية البالغة بهتك أستار المنافقين وإعلان أسرارهم على الملأ لأجل حفنة منهم كانت تندس بين صفوف الاسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هي لأجل تنبيه الأمة بمخاطر أعقابهم الذين لا يخلو منهم عصر ولا يسلم منهم جيل.
وأكثر المنافقين في عهده صلى الله عليه وسلم لم يكونوا معروفين بأعيانهم، وإنما يهتدى إليهم بهذه السمات الخاصة بهم، خلافا لمن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحيط بجميعهم علما، فإننا إذا تصفحنا آيات القرآن وجدنا ما يدل على خلاف ذلك، كقوله تعالى:
{ { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } [التوبة: 101]. وقوله: { { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً } [الأحزاب: 60]، وقوله: { { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } [القتال: 30].
وفيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستدل عليهم بفلتات ألسنتهم وسائر بوادرهم، كما يستدل عليهم بما يبدو على قسمات وجوههم من شارات المكر وإشارات الزور، ولا يمنع ذلك أن تكون منهم جماعة مكشوفة بأعيانها كما يدل على ذلك حديث حذيفة - رضي الله عنه - ومن هؤلاء الذين تآمروا على النبي صلى الله عليه وسلم على رأس العقبة عند عودته من تبوك بمحاولة إثارة دابته حتى يسقط عنها، وقد أخبر الله نبيه بشأنهم وكانوا أربعة عشر كما جاء به حديث حذيفة عند مسلم.
وقوله تعالى: { ومن الناس } شروع في الاخبار عن هذه الطائفة المتلوية والكشف عن صفاتها، وهو خبر مقدم على المبتدأ، وهو مَنْ، سواء قلنا إنها موصولة أو موصوفة، وقد استشكل اعتبار من الناس خبرا لأن الخبر ما تحصل به الفائدة، وكون هؤلاء من الناس ليس أمرا عازبا عن الأفهام حتى يحتاج إلى البيان، والكل يعرف أنهم ليسوا من الملائكة ولا الجن ولا البهائم، والنظر إلى ما بعد المبتدأ يقضي على هذا الاشكال، إذ ليس القصد الاخبار عن إنسانيتهم وإنما الاخبار عن وجود طائفة من الناس تتلون في حالاتها وتتلوى في معاملاتها تدعي الايمان بألسنتها وتهدم ما تدعيه بأفعالها لأن أفئدتها فارغة من جوهر الايمان، ويغنيكم هذا النظر عن كثير من التأويلات التي لجأ إليها المفسرون، كقول السيد الجرجاني بأن مضمون الجار والمجرور هنا مبتدأ على معنى وبعض الناس وخبره مَنْ موصولة كانت أو موصوفة، وقول بعضهم بأن صفات هؤلاء لما كانت تنافي الانسانية كانت حالهم جديرة بالاستغراب، وحسن أن يخبر عنهم بأنهم من الناس، ويرده وقوع مثل هذا التركيب حيث لا يتأتى مثل هذا الاعتبار كقوله تعالى:
{ { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } [الأحزاب: 23]، وكقول بعض المفسرين بأن هؤلاء لسوء حالهم وفساد أخلاقهم حقيقون بأن يستحيى من ذكر أشخاصهم، فلذلك اكتفى سبحانه في الاخبار عنهم بقوله { ومن الناس }، ونحو ذلك ما جاء في الأخبار "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد التعريض ببعض الناس قال: ما بال رجال يفعلون كذا .." والناس جمع إنسي - بكسر الهمزة وياء النسب - عوضا عن أناسي، وهو الجمع القياسي له، ولا يبعد أن يكون اسم جمع وليس بجمع لخروجه عن أقيسة الجموع المطردة.
ويرى بعض أئمة العربية أن (أل) فيه عوض عن همزة أناس، ويرد ذلك قول عبيد بن الأبرص:

إن المنايا يَطلِعْنَ على الأناس الامنينا

حيث جمع بينهما مع عدم اجتماع العوض والمعوض عنه. و(أل) فيه للجنس لأنه المتبادر عند الاطلاق، وجوّز بعضهم أن تكون للعهد والمعهود هم الناس المومى إليهم بقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أو الناس المعهودون عند النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنهم متصفون بهذا الشأن، والعهد ذكري على الأول. ذهني على الثاني، والراجح كونها للجنس؛ لأن اعتبارها للعهد والمعهود الذين كفروا ينافي ما تقدم ذكره؛ من أن هؤلاء قسم برأسه لاختلافهم عن الكفار في غموض حالهم والتواء مسلكهم.
أما اعتبار المعهودين قوما يعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بهذا الشأن، فهو ينافي أن هذه الآيات هي التي جاءت لتعريف أحوالهم وتعرية صفاتهم وكشف بواطنهم، كما ينافي ما رجحناه من قبل واستدللنا له من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحيط بأعيانهم علما فما بالكم بالمؤمنين.
وقولهم: آمنا بالله واليوم الآخر إيهام للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنهم أمسكوا من الايمان بطرفيه وأحاطوا من اليقين بقطريه، ذلك لأن الايمان بالله يعني الايمان بصفاته وأفعاله؛ بما في ذلك بعث الرسل وإنزال الكتب، فيدخل فيه ضمنا الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، والايمان باليوم الآخر يستلزم العمل الصالح الذي هو عدة المؤمنين وزادهم لذلك اليوم، فهم بقولهم هذا يوهمون المؤمنين بأنهم جمعوا بين رسوخ العقيدة وصلاح العمل، ومما يتبادر أيضا أن الايمان بالله المعبود يقتضي الوفاء بحق عبادته على أنه في الحقيقة مبدأ للاعتقادات الحقة جميعها، لأن من لم يؤمن بإله واحد لا يصل إلى الايمان بالرسول ولا غيره من سائر أركان الايمان، كما أن الايمان باليوم الآخر هو الباعث على صالح الأعمال، والوازع عن سيئها.
وجوّز بعض أئمة التفسير أن يكون اقتصارهم على ذكر هذين الركنين من أركان الايمان لأمر في نفوسهم، وهو أنهم يأنفون من ذكر الايمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه ما وجدوا إلى ترك ذكرهما سبيلا، ويوهمون من يسمعهم من المؤمنين بقولهم هذا أنهم أرادوا به الاكتفاء وليس الأمر كذلك. ومن حيث أن جلهم أو جل قادتهم من اليهود وهم عندهم بقية من التصديق باليوم الآخر كما يصدقون بوجود الله لم يجدوا في ذكر هذين الركنين ما يخل بما استقروا عليه من الاعتقاد.
وما جوّزه مدفوع بما في صدر سورة المنافقين وهو قوله تعالى:
{ { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [المنافقون: 1]، فإنه نص على أنهم كانوا يؤكدون له صلى الله عليه وسلم تصديقهم برسالته بأوضح بيان، ولا أدل على ذلك من تصدير كلامهم المحكي بالشهادة التي هي - في حقيقتها - اعتراف باللسان بما اطمأن إليه القلب وصدق به العقل، مع تأكيد ذلك باللام المقوية لما في إن من التوكيد، وذلك يدل على أنهم كانوا يجهدون في إيهام النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنهم مصدقون برسالته عليه أفضل الصلاة والسلام، ومنخرطون في سلك الذين أخلصوا الايمان بها، وحرضوا على الوفاء بحقها، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى في نفس سورة المنافقون { ٱتَّخَذْوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً }.
وبهذا تدركون أن الوجه في الاقتصار على ذكر الايمان بالله واليوم الآخر هو ما أسلفناه من قبل.
واليوم الآخر بدايته قيام الساعة، ونهايته استقرار السعداء في الجنة، والأشقياء في النار.
والايمان به يشمل الايمان بالبعث والحساب، والثواب والعقاب، وقيل بدايته قيام الساعة وليست له نهاية، فإن اليوم المحدد هو ما اكتنفه الليل في أوله وآخره، واليوم الآخر لا ليل بعده ولذلك كان آخرا.
ومهما يكن المراد به فإنه لا بد في تحقق الايمان به من الايمان بما أسلفناه.
وهؤلاء المنافقون ليسوا من الايمان في شيء وإنما تستروا بظواهر الايمان حفاظا على سلامة حياتهم، وحرصا على تأمين مصالحهم الدنيوية، فلذلك كشف الله ما ستروا، وأبطل ما ادعوه بقوله { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }، وجاء نفي الايمان عنهم بصيغة تختلف عن صيغة ادعائهم له، فهم ادعوه بقولهم { آمنا } وهو جملة فعلية تنبىء عن حدوث الايمان، ورد عليهم بقوله { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } وهو جملة إسمية دالة على الاستمرار والدوام، وهي أبلغ في الدلالة على نفي ما ادعوه، لأن انتظامهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الايمان الحقيقي لهم، وانتفاء اللازم أقوى دليل على انتفاء الملزوم، واستمرار النفي أدل على انتفاء حدوث الواقع المزعوم مطلقا، ويتأكد ذلك النفي بدخول الباء وهذا هو سبب العدول في الرد عما يطابق قولهم، نحو { وما آمنوا } وفي هذا الرد ما يدل على بطلان قول من زعم من المرجئة أن الايمان هو مجرد القول، ولو لم يقترن به اعتقاد فإن المنافقين كانوا يزعمون بملء أفواههم أنهم آمنوا وينطقون بالشهادتين أمام جماهير المؤمنين، ولم يغنهم ذلك شيئا عند الله لخلو بواطنهم من أصل الايمان.