خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ
٨٧
-البقرة

جواهر التفسير

هذا انتقال من مواجهة بني إسرائيل بالإِنكار عليهم لما كان منهم من نقض الميثاق وتبديل أوامر الله إلى مواجهتهم بإنكار ما هو أفظع من ذلك، وهو مقابلة الرسل الذين بعثهم الله منهم وفيهم وإليهم بأنواع التحديات من بينها قتل بعضهم مع أن بعث الرسل داعية الارعواء عن الغي، والإِقلاع عن الإِثم، وسلوك المنهج السوي، وقد سبق ذكر إيتاء موسى الكتاب في صدر قصتهم في السورة، وإنما أعيد هنا مؤكدا بقد التحقيقية المقرونة بلام القسم ليكون توطئة لذكر المرسلين الذين جاءوا من بعده لتأكيد التمسك بالتوراة، واتباع شريعتها، والرجوع إلى حكمها، فإن جميع أنبياء بني اسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهما السلام ما جاءوا بشريعة مستقلة، ولا بكتاب جديد، وإنما جاؤوا مؤكدين شريعة موسى، ومبينين معاني التوراة التي عزت عن أفهامهم لتقادم العهد، أو لتراكم الجهل، والإِهمال الذي ينشأ عنه تلاشي نسخ التوراة حتى تجدد نزولها ثانية على أحد أولئك الرسل وهو عزير عليه السلام، وهذا لا ينافي إيتاء داود عليه السلام الزبور، فإن الزبور ليس كتاب شريعة وإنما هو كتاب موعظة.
والتقفية جعل أحد قافيا غيره أي تابعا له في جهة قفاه وهي مؤخرة العنق، يقال قفاه يقفوه قفْواً وقُفوَّا، فإذا أريدت تعديته إلى مفعولين ضُعِّف كما في الآية نحو قفى زيد عمرا خالدا أي جعلهُ قفاه، ويطلق على مجرد الاتباع حتى فيما ليست له قفاً حقيقة نحو قوله تعالى: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } والمراد في الآية إرسال الرسل إثر موسى عليه السلام لتكون دعوتهم امتدادا لدعوته، ورسالتهم استمرارا لرسالته، وسماهم رسلا وإن لم يأتوا برسالة جديدة لأنهم مطالبون بالإِبلاغ، فلم يكن ما يوحى إليهم خاصا بهم فحسب حتى يحصروا في صفة النبوة، ولأن بيان ما خفى من مقاصد التوراة لقومهم، وتقويم نصوصها المحرفة في حكم رسالة جديدة جاءوا بها.
وعيس تعريب ليشوع أو يسوع قلبت حروفه في تعريبه تجنبا للثقل الناشئ عن ترتيب حروفه، فإن الشين ذاتها ثقيلة وقد توسطت حرفي علة واختتمت حروفه بالعين وهي من حروف الحلق, وبإهمال الشين وتقديم العين خف النطق به، ولم يعسر معه التنفس، وقد ساعد على ذلك حركات الحروف في ترتيبها المعرب، ومعناه بالعبرانية السيد أو المبارك.
وهو آخر أنبياء بني إسرائيل، وقد كانت ولادته في عهد الإِمبراطور الروماني أغسطس وكان ممثله في حكم الأرض المقدسة هيرودس، ووُلد بقرية تسمى بيت لحم.
ومريم أمه، وهو اسم أعجمي ليس له اشتقاق عربي، وما شاع من أن مريم وصف للمرأة المتباعدة عن محادثة النساء أو أنها التي تأنس بالرجال، كقول رؤبة:

قلت لزير لم تزره مريمه ....................

فهو ناشئ عن اصطلاح متنصرة العرب، ولعلهم أخذوا ذلك من كون مريم عليها السلام نذرتها أمها لله - أي لخدمة بيته المقدس - عندما كانت جنينا في رحمها، وهي صفة تختص بالرجال، وستأتي قصتها إن شاء الله في سورة آل عمران.
وقد كانت رسالة عيسى عليه السلام عندما بلغ من العمر ثلاثين عاما - على ما قيل - ورفعه الله إليه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
ورسالة عيسى عليه السلام في عمومها مقررة لما جاءت به رسالة موسى عقيدة وشريعة ما عدا بعض النواسخ المشار إليها بقوله تعالى:
{ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [آل عمران: 50]، فإن بني إسرائيل بكفرهم حُرمت عليهم طيبات من المطعومات تأديبا لهم وعقوبة، وقد كان هذا التحريم موقوتا رُفع في شريعة عيسى صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه.
والبينات التي أوتيها هي المذكورة في سورتي آل عمران والمائدة، وهي خلقه من الطين صورا للطير تنقلب طيورا بنفخة فيها، وإبراؤه الأكمه والأبرص وإحياؤه الموتى، وإخباره بما يؤكل وما يدخر في البيوت، وقيل: هي الإِنجيل لأنه بيان للناس وبلاغ، وتأييده بروح القدس قرنه بجبريل، فإن الله سماه روحا في قوله:
{ { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [الشعراء: 193]، وقوله: { { تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا } [القدر: 4]، وإضافته إلى القدس من باب إضافة الموصوف إلى مصدر صفته، كإضافة محمد إلى الصدق في قولك محمد الصدق بمعنى الصادق، أي الروح المقدس، والتقديس التطهير كما سبق، وقيل المراد به روح الله، وعليه فتسمية الله جبريل روحا وإضافته إليه لما أودع فيه من سره الغيبي الأقدس الذي لا يحيط به علم ما مكنه من الاتيان بما لا يقوى عليه أحد من خلق الله، وقيل: المراد بروح القدس روح عيسى عليه السلام نفسه التي قدسها الله باصطفاء صاحبها لما اصطفاه له، وقيل: الإِنجيل، وتسميته روحا كتسمية القرآن بذلك في قوله تعالى: { { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52]، وأرجح هذه الأقوال أولها، وما يعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم لحسان: "اهجهم وروح القدس معك" وفي رواية: "وجبريل معك" . ومما قاله حسان:

وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس له كفاء

والهمزة في قوله: { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ... } الخ، للاستفهام المنقول إلى التوبيخ والتقريع، وذلك أنهم جعلوا ما جاءت به الرسل تبعا لهوى أنفسهم، فما وافق هواهم قبلوه، وما خالفه رفضوه مع أن النفس لا تدعو غالبا إلا إلى السوء والشر والمفسدة، والإِيمان يقتضي إخضاع هواها لما جاءت به رسل الله من الحق، وليس بعد الوحي برهان ولا حكم.
والهوى مصدر هوى يهوى بمعنى أحب، ويغلب في الشر، ويندر في الخير كقول عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أرى ربك إلا يسارع في هواك".
والاستكبار والتكبر بمعنى واحد، وهو إظهار الكبر على الغير، والاستكبار أدل على التكلف في محاولة إظهار ذلك ولذلك يوصف الله تعالى بالتكبر دون الاستكبار لأن الكبرياء صفة لا تليق بغيره، ولا تكون إلا في ذاته، وإنما غاية ما يكون في الغير إدعاؤها فحسب، والمراد به في الآية أنهم يشمخون بأنوفهم كلما جاءهم رسول منهم بما يخالف ما تطبعوا به من الفساد وتخلقوا به من الرذائل فيقابلون أولئك المرسلين إما بالتكذيب وإما بالقتل.
والتعبير عن القتل بصيغة المضارعة الدالة على الحضور لأجل تبشيعه وتهويل أمره عند السامعين، وذلك بتصويره بصورة الأمر الواقع حال الخطاب وإحضاره للنفوس بكل ما فيه من بشاعة، وفظاعة يحس بهما من شاهد ارتكابه (وليس الخبر كالعيان).
وقيل عُبر عنه بالمضارعة للإِشعار بأنهم في حكم من استمر عليه، فإنهم ما كانوا يتورعون عن مثله إبان نزول الآية، فكم حاولوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم لولا أن عصمه الله منهم وقد سّمته إحدى نسائهم في أكلة أهدتها إليه بخيبر، وقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام:
"ما زالت أكلة خيبر تعاودني، وهذا زمان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم" والقول الأول أصح وأبين، فإن استمرارهم على التكذيب المعبر عنه بصيغة المضي أبين وأدخل في الواقع من القتل.
وقد سبق القول في قتلهم الأنبياء كما سبقت التفرقة بين الرسول والنبي عن من يفرق بينهما، وبقى مما ينبغي التنبيه عليه أن الرسول بمعنى المرسَل - بفتح السين - وهو فعول بمعنى مفعول، ونحوه نادر كالحلوب والركوب.