خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ
٩٢
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٩٣
-البقرة

جواهر التفسير

سبق ذكر قصتي اتخاذهم العجل ورفع الطور فوقهم في هذه السورة وليست إعادتهما هنا تكرارا وإنما لما يترتب عليها مما لم يذكر فيما سبق من الفوائد، والواو عاطفة والمعطوف عليه قوله: { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ } والقصد منه تعليم الإِنتقال في مجادلتهم إلى ما يزيد إبطال دعواهم الإِيمان بما أنزل اليهم خاصة، وذلك أنه بعد أن كذبهم في ذلك بقوله: { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ } أتى بأسلوب الترقي إلى ذكر أحوالهم في مقابلتهم دعوة موسى الذي قد قابلوا دعوته بالعصيان قولا وفعلا أفاده العلامة بن عاشور.
وهو مبني على جواز عطف الخبر على الإِنشاء والعكس، وحجته ظاهرة لوفرة شواهده من القرآن؛ ومن كلام العرب وسيأتي بيان فائدة إعادة القصتين في تفصيل تفسير الآيتين إن شاء الله.
والبينات هي الآيات التسع التي ذكرها الله في قوله:
{ { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [الإِسراء: 101]، وقوله: { { فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ } [النمل: 12]، فإنها حجة على بني إسرائيل كما أنها حجة على فرعون وآله، ومن بين هذه الآيات العصى واليد، وقيل هي دلائل توحيد الله عز وجل، وقيل: هي التوراة، وصدر به القطب -رحمه الله - في الهيميان، وأيده بقوله: "فيكون هذا ترشيحا وتقوية في الرد عليهم في ادعائهم الإِيمان بالتوراة، كأنه قيل فلم تقتلون أنيباء الله من قبل إن كنتم مؤمنين بالتوراة. ولقد جاءكم موسى بها، ثم رد عليهم ردا آخر بقوله: { ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ }".
ويرده أن الله عطف اتخاذهم العجل على مجيء موسى إليهم بالبينات ب "ثم" الدالة على المهلة مع أن هذا الاتخاذ سابق على المجيء بالتوراة وقد كان إبان ذهابه عليه السلام إلى ميقات ربه لتلقيها.
فإن قيل إن المهلة هنا رتبية وليست زمنية كما هو شأن ثم غالبا عندما تعطف الجمل، وهو الذي يقتضيه كلام القطب -رحمه الله - حيث قال: ثم رد عليهم ردا آخر بقوله: { ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ }.
فالجواب أن جعلها للمهلة الرتبية دون الزمنية مخالف لما تدل عليه البعدية المنصوص عليها بقوله: { مِن بَعْدِهِ } فإنها ظاهرة الدلالة على أن اتخاذهم العجل كان بعد مجيئه عليه السلام إليهم بالبينات، وهو أبلغ في التشهير بسوء صنيعهم وإقامة الحجة عليهم.
وقد تقدم شرح قصة اتخاذهم العجل، وقد ذكرت هنالك في معرض الامتنان عليهم بعفوه عنهم بعد ارتكابهم هذه الفعلة النكراء، وأعيدت هنا في معرض إقامة الحجة عليهم ودحض شبهتهم التي يتشبثون بها في ترك إيمانهم بخاتم النبيين وذلك أنهم لو كانوا مؤمنين حقا بما أنزل عليهم لما اتخذوا العجل إلها من دون الله، وقد دعاهم موسى عليه السلام إلى توحيد الله عقيدة وعبادة، وأجرى الله تعالى على يديه من الآيات ما يكفي لاستئصال شبهة كل ممار في توحيده، والآيات التسع الموسومة هنا بالبينات، كما أنها حجة على فرعون وآله هي حجة على بني اسرائيل لمعاينتهم لها، وقد كانت مقدمات لخلاصهم مما كانوا يعانونه تحت وطأة قهر المتكبرين، كفرانهم بالله باتخاذهم أندادا له بعد هذه المعاينة أوغل في الظلم وأبعد في الضلالة، وأشد تنافيا مع ما يدعونه من الإِيمان بما أنزل عليهم أي على الأنبياء الذين هم من بني جلدتهم، فإن أولئك النبيين جميعا ما كانوا إلا دعاة توحيد، فأي انحراف عن منهجه كفر برسالتهم وجحد لما أنزل عليهم.
وإسناد الاتخاذ إلى هؤلاء المخاطبين مع كونه من فعل أسلافهم الغابرين، لأنهم يتولونهم عليه، وما زالوا يترسمون خطواتهم في المكابرة والعناد.
ويؤكد وضوح عدم اعتبار اعادة هذه القصة تكرارا فهم مقاصد القرآن في الخطاب، فإنه متعدد المقاصد يأتي خطابه في معارض مختلفة، منها التذكير والامتنان، ومنها التقريع والاحتجاج، ومنها الوعد والوعيد، ومنها الأمر والنهي؛ فلا غرو إذا أعيدت اقصة الواحدة في معرض هذه الأغراض المتنوعة لأنها في كل مقام ذات فائدة جديدة.
والضمير في (بعده) عائد إلى المجيء المفهوم من جاءكم، أو إلى موسى نفسه، المراد ببعده بعد ذهابه إلى الطور، والأول هو الأنسب بالمقام والأبلغ في الاحتجاج عليهم.
وجملة: { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } تذييل، اي وشأنكم الظلم، فالواو عاطفة وليست للحال، أو أنها حالية، أي أتيتم ما أتيتم متلبسين بالظلم، والأول أظهر لأن اتخاذ الند لله سبحانه لا يكون إلا ظلما.
وقد تقدم بيان الظلم أنه وضع الشيء في غير موضعه، وأبشعه الإِشراك بالله الذي خلق كل شيء فقدر تقديرا، ومَنَّ على الإِنسان بأن خلق له ما في الأرض جميعا، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض، جميعا منه، فمن أشرك به شيئا فقد بلغ من الظلم غايته، لأنه أبطل جميع مواهبه، وتجاهل جميع دلائله.
وإعادة قصة رفع الطور فوقهم وأخذ الميثاق منهم لغير ما ذكرت من أجله من قبل فإنها سيقت من قبل في معرض تذكيرهم بنعم الله، ومقابلتهم إياها بالكفران، وذكرت هنا لعدة أغراض:
أولها: قطع حبل الشبهة التي يتشبثون بها في عدم استجابتهم لخاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه كما سبق.
ثانيها: تسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، فإنه صلوات الله وسلامه عليه كان شديد الحرص على إيمانهم لأنهم أعلم من غيرهم بالنبوات ودعوات الأنبياء، وقد كان عندهم من البشائر به صلى الله عليه وسلم ما يبعثهم على المسارعة إلى الإِيمان به لولا الأهواء التي رانت على قلوبهم وغشيت أبصارهم بما حجبها عن الحق، ووجه التسلية أن موسى عليه السلام من بني جلدتهم وقد بعث في وسطهم في أحلك الظروف وهم يتجرعون مرارة العذاب من فرعون وآله، فكان خلاصهم على يديه، وشاهدوا منه من المعجزات ما يستأصل شأفة كل ريب ويسكن اضطراب كل نفس، ولكنهم مع ذلك كانوا أقسى قلبا وأشد عتوا، إذ قابلوا كل ذلك بالعناد وصارحوه عليه السلام بالرفض لما كان يدعوهم إليه من الحق، فلا يستغرب إذا رفضوا الإِيمان برسول بعث من جنس غير جنسهم، وفي بيئة غير بيئتهم فإن الإِصرار على الباطل ديدنهم، والكفر بالنبيين وما جاءوا به سبيلهم.
ثالثها: استئصال ما عسى أن يلابس النفوس الضعيفة الإِيمان من الريب بسبب هذا العناد منهم، فرب أحد تحدثه نفسه بأن هذه الدعوة لو كانت حقا لكانوا أسرع الناس إلى قبولها والالتفات حولها لما يتميزون به من علم الكتاب، فإذا ذكر بمواقفهم مع أنبيائهم انجلى عنه ما كان غاشيا من الارتياب، فإن موقفهم من دعوة خاتم النبيين ليس إلا صورة مكررة من مواقفهم مع أنبيائهم الذين جاءوهم بالخلاص والهدى والبرهان.
وقد اختلفت العبارة في ذكر هذه القصة هنا عما تقدم فقد أمروا هناك - بعد فرض أخذ ما أوتوه بقوة - بذكر ما فيه، وأمروا هنا بالسمع، ومؤدى العبارتين واحد، فإن الذكر المأمور به هناك ليس هو تحريك اللسان بألفاظ ما أوتوا من الكتاب فحسب ولكنه التلاوة الحقة المقرونة بالتفهم والتدبر حتى يتحول المتلو إلى أمر واقع راسخ في حياتهم الفكرية، ظاهر في حياتهم العملية، والسمع الذي أمروا به هنا ليس هو مجرد إصغاء الأذن وإنما هو الطاعة والقبول والتطبيق، فإن السمع يطلق على القبول في الاستعمال العربي، ومنه قول المصلي: "سمع الله لمن حمده"، ومثله قول الشاعر:

دعوت الله حتى خفت ألا يكون الله يسمع ما أقول

فإنه من المعلوم بداهة أنه لا يعني به عدم السمع من الله لصوت ما يقول، وإنما قصد به عدم التقبل والاستجابة.
وقد سيقت القصة من أولها مساق الخطاب للحاضرين كما ترون في قوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ }، ثم التفت عن الخطاب إلى الحكاية عن الماضين عندما جاء الجواب حيث قال: { قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا }، واختلف المفسرون في هذا الجواب أكان نطقا منهم باللسان أم كان مفهوما من واقع حالهم؛ فجمهور السلف على أنه كان قولا صريحا، وأنهم قالوا له سمعنا قولك عصينا أمرك.
قال الزمخشري: "فإن قلت كيف طابق قوله جوابهم قلت طابقه من حيث انه قال لهم اسمعوا وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة".
ونقل الفخر عن أبي مسلم قوله: "وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه، كقوله تعالى:
{ أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82]، وكقوله: { { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت: 11].
قال الفخر: "والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير الدليل لا يجوز".
وهذا الذي جوزه أبو مسلم، قطع به الإِمام محمد عبده حيث قال: "وليس المراد أنهم نطقوا بهاتين الكلمتين (سمعنا وعصينا) بل المراد أنهم بمثابة من قال ذلك، ومثل هذا التجوز معروف في عهد العرب وفي هذا العهد يعبرون عن حال الإِنسان وغيره بقول يحكيه عن نفسه حتى حكى مثله ذلك عن الحيوانات والطيور وعن الجمادات أيضا، وهو أسلوب أظن أنه يوجد في كل لغة أو في اللغات الراقية فقط".
وجزم بهذا أيضا الإِمام ابن عاشور غير أنه قصره على (عصينا)، وحمل عليه ما نقله الفخر عن أبي مسلم، وعبارته "فالوجه في معنى هذه الآية هو ما نقله الفخر عن أبي مسلم أن قولهم (عصينا) كان بلسان الحال، يعين فيكون قالوا، مستعملا في حقيقته ومجازه، أي قالوا سمعنا وعصوا، فكأن لسانهم يقول عصينا".
والجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد في الاستعمال الواحد مرفوض عند أكثر المحققين، لأن التجوز لا يصار إليه إلا مع قرينة، وهي ناقلة لمفهوم اللفظ في الاستعمال عما وُضع له، فلا يجوز معها أن يراد به أصله الموضوع له، وحمل كلام أبي مسلم الي نقله الفخر على قصد هذا المعنى غير واضح.
هذا ويرجح قول من ذهب إلى أن المراد بهذا القول واقع حالهم استحالة أن يكونوا في حالة رفع الطور فوقهم قادرين على المصارحة بالعصيان، فإن ذلك مما لا تطاوع عليه طبائع البشر، كما يستأنس له بقوله تعالى فيما سبق: { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ } فإن العصيان المذكور هنا هو عين التولي المذكور هناك، والأصل في البعدية أن تكون زمانية.
وذكر الإِمام ابن عاشور احتمال أن يكون قولهم: (عصينا) وقع في زمن متأخر عن وقت نزول التوراة بأن قالوا عصينا في حثهم على بعض الأوامر مثل قولهم لموسى حين قال لهم ادخلوا القرية:
{ لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً } [المائدة: 24].
ثم قفى ذلك بيان ما خلفته في نفوسهم عبادة العجل من أثر إذ قال { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ }، والإِشراب المزج بين شيئين، وأصله في مزج الجامد بالمائع، واستعمل في الخلط بين المائعين، وتوسع فيه حتى أطلق على اللونين كقولهم بياض مشرب بحمرة، وهذه العبارة أدل على تغلغل حب العجل وعبادته في أعماق نفوسهم بحيث صور كالماء الساري في منافذ الجسم حتى تخلل جميع قلوبهم، واستولى على كل جانب منها، وذلك أقصى ما يصل إليه حب شيء كما قال الشاعر:

إذ ما القلب أشرب حب شيء فلا تأمل له عنه انصرافا

وإيثار عبارة الإِشراب على غيرها كالإِطعام، لأن الماء يسري حيث لا يسري الطعام، ولذلك قال الأطباء الماء مطية الطعام والدواء، لأنه ينقل ما يتحلل فيه من عناصرهما إلى جوانب الجسم؛ وإذا أرادت العرب المبالغة في وصف الحب أو نحوه من الأعراض استعملت هذه العبارة ونحوها كما في البيت المتقدم، وقول أحد النابغتين:

تغلغل حب عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ولا حزن ولم يبلغ سرور

وقول غيره:

جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي فأصبح لي عن كل شغل بها شغل

وذهب أسراء الألفاظ إلى أن معنى إشرابهم العجل أنهم شربوا من ماء البحر المختلط ببرادته عدما نسف فيه كما أخبر الله تعالى، وذلك أنهم قالوا: إن موسى عليه السلام ذبح العجل ثم برده بالمبرد وألقاه في البحر فاختلط بمائه وأمر بني إسرائيل بالشرب منه، فكل من كان في قلبه حب له خرج على شاربه الذهب؛ وقد رد المحققون هذا القول، وهو جدير بالرد، إذ لو كان المراد بالإِشراب سقيهم ذلك الماء لما عُدِّيَ إلى القلوب، فإن الماء أولى به مجاريه في البطن من القلوب، ولم يثبت هذا القول عمن نُسب إليهم من الصحابة والتابعين، وإنما أسنده ابن جرير إلى السدي المشهور بنقل الإِسرائيليات، وإلى ابن جريج وله في هذا الشأن عجائب، فلا يترك ما ذهب إليه الجمهور ودل عليه اللفظ لأجل ما رُوي عنهما.
وربط سبحانه هذا الإِشراب بكفرهم لأن اتخاذهم العجل معبودا من دون الله تعالى من أعظم الكفر، ومن شأن المعصية أن ترين على القلب حتى تجر إلى أمثالها، وقد جر عليهم هذا الإِتخاذ حب العجل حتى استمر ذلك في نفوسهم بعد ذبحه ونسفه في البحر لتتضاعف أوزارهم، فالباء للسببية.
وبعد التوطئة للرد على دعواهم الإِيمان بذكر طائفة من أعمالهم المنافية له جاء بالرد الصريح في قوله: { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ }، وإسناد الأمر إلى الإِيمان تهكم على حد قوله تعالى حكاية عن أصحاب الأيكة:
{ { يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } [هود: 87].
وأضاف الإِيمان إلى ضميرهم ولم يعرفه بأداة التعريف المشهورة لأن شأن الإِيمان أن يقي صاحبه الإِصرار على الباطل، وأي باطل أفظع مما أسند إليهم هنا من قتلهم النبيين واتخاذهم العجل ونقضهم الميثاق، فلو كانوا مؤمنين حقا لما وقع ذلك منهم، فإن كل ذلك ينافي كل المنافاة ما أنزل عليهم.
وبما أن هذا التذييل الذي ختمت به الآية هو مناط الرد عليهم كان في حكم التقرير لما قبله من الردود فلذلك فصل عنه.
وقد أتى الإِمام ابن عاشور في خاتمة تفسيره لهذا الكلام الإِلهي بما يجدر نقله بنصه وفصه لتعميم فائدته؛ قال: "وإنما جعل هذا مما أمرهم به إيمانهم مع أنهم لم يدعوا ذللك لأنهم لما فعلوه وهم يزعمون أنهم متصلبون في التمسك بما أنزل اليهم حتى أنهم لا يخالفونه قيد فتر، ولا يستمعون لكتاب جاء من بعده، فلا شك أن لسان حالهم ينادي بأنهم لا يفعلون فعلا إلا وهو مأذون فيه من كتابهم، هذا وجه الملازمة.
وأما كون هذه الأفعال مذمومة شنيعة فذلك معلوم بالبداهة فأنتج ذلك أن إيمانهم بالتوراة يأمرهم بارتكاب الفظائع، هذا ظاهر الكلام، والمقصود منه القدح في دعواهم الإِيمان بالتوراة، وإبطال ذلك بطريق يستنزل طائرهم، ويرمي بهم في مهواة الإِستسلام للحجة، فأظهر إيمانهم المقطوع بعدمه في مظهر الممكن المفروض ليتوصل من ذلك إلى تبكيتهم وإفحامهم نحو:
{ { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } [الزخرف: 81]، ولهذا أضيف الإِيمان إلى ضميرهم لإِظهار أن الإِيمان المذموم هو إيمانهم الذي دخله التحريف والإِضطراب لما هو معلوم من أن الإِيمان بالكتب والرسل وإنما هو لصلالح الناس، والخروج بهم من الظلمات إلى النور، فلا جرم من أن يكون مرتكبو هذه الشنائع ليسوا من الإِيمان بالكتاب الذي فيه هدى ونور في شيء، فبطل بذلك كونهم مؤمنين وهو المقصود.
فقوله: { بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ } جواب الشرط مقدم عليه، أو قل دليل الجواب، ولأجل هذا جيء في هذا الشرط بإن التي من شأن شرطها أن يكون مشكوك الحصول، وينتقل من الشك في حصوله إلى كونه مفروضا كما يفرض المحال، وهو المراد هنا، لأن المتكلم عالم بانتفاء الشرط، ولأن المخاطبين يتوقعون وقوع الشرط، فكان مقتضى ظاهر حال المتكلم أن لا يؤتى بالشرط التمضمن لكونه مؤمنين إلا منفيا، ومقتضى ظاهر حال المخاطب أن لا يؤتى به إلا مع إذا، ولكن المتكلم مع علمه بانتفاء الشرط فرضه كما يفرض المحال استنزالا لطائرهم، وفي الإِتيان بإن إشعار بهذا الغرض حتى يقعوا في الشك في حالهم، وينتقلوا من الشك إلى اليقين بأنهم غير مؤمنين حين مجيء الجواب وهو (بئسما يأمركم) وإلى هذا أشار صاحب الكشاف كما قال التفتازاني، وهو لا ينافي كون القصد التبكيت لأنها معان متعاقبة يفضي بعضها إلى بعض، فمن الفرض يولد التشكيك ومن التشكيك يظهر التبكيت.
ولا معنى لجعل، { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } ابتداء كلام وجوابه محذوفا تقديره وإيمانكم لا يأمركم بقتل الأنبياء وعبادة العجل... الخ، لأنه قطع لأواصر الكلام مع أن قوله: { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ... } الخ يتطلبه مزيد تطلب، ونظائره في آيات القرآن كثيرة، على أن معنى ذلك التقدير لا يلاقي الكلام المتقدم المثبت أن إيمانهم أمرهم بهذه المذام، فكيف ينفي بعد ذلك أن يكون إيمانهم يأمرهم.
و(بئسما) هنا نظير (بئسما) المتقدم في قوله: { بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ } سوى أن هذا لم يؤت له باسم مخصوص بالذم لدلالة قوله: { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } والتقدير بئسما يأمركم به إيمانكم عبادة العجل".