خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
٥٨
-يونس

روح المعاني

{ قُلْ } تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمر الناس بأن يغتنموا ما في القرآن العظيم من الفضل والرحمة أي قل لهم { بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ } متعلق بمحذوف، وأصل الكلام ليفرحوا بفضل الله تعالى وبرحمته ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإفادة اختصاصه بالمجرور ثم أدخل عليه الفاء لإفادة معنى السببية فصار بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ثم جىء بقوله سبحانه: { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } للتأكيد والتقرير ثم حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه، والفاء الأولى قيل جزائية والثانية زائدة للتأكيد، والأصل إن فرحوا بشيء فبذلك ليفرحوا لا بشيء آخر ثم زيدت الفاء لما ذكر ثم حذف الشرط، وقيل: إن الأولى هي الزائدة لأن جواب الشرط في الحقيقة فليفرحوا ـ وبذلك ـ مقدم من تأخير لما أشير إليه، وزيدت فيه الفاء للتحسين، ولذلك جوز أن يكون بدلاً من قوله سبحانه: { بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ } وحينئذٍ لا يحتاج إلى القول بحذف متعلقه ونظير ذلك في الاختلاف في تعيين الزائد فيه قول النمر بن تولب:

لا تجزعي إن منفساً أهلكته فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي

ومن غريب العربية ما أشار إليه بعضهم أن الآية من باب الاشتغال وقد أقيم اسم الإشارة مقام ضمير المعمول وتوحيده باعتبار ما ذكر ونحوه كما هو شائع فيه، ووجه غرابته أن المعروف في شرط الباب اشتغال العامل بضمير المعمول ولم يذكر أحد من النحاة اشتغاله باسم الإشارة إليه، وجوز أن يقدر متعلق الجار والمجرور فليعتنوا أي بفضل الله ورحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا، والقرينة على تقدير ذلك أن ما يفرح به يكون مما يعتني ويهتم بشأنه، أو تقديم الجار والمجرور على ما قيل، وقال الحلبـي: الدلالة عليه من السباق واضحة وليس شرط الدلالة أن تكون لفظية، فقول أبـي حيان: إن ذلك إضمار لا دليل عليه مما لا وجه له، وأن يقدر جاءتكم بعد { قُلْ } مدلولاً عليه بما قبل أي قل جاءتكم موعظة وشفاء وهدى ورحمة بفضل الله وبرحمته ولا يجوز تعلقه بجاءتكم المذكور لأن { قُلْ } تمنع من ذلك، ـ وذلك ـ على هذا إشارة إلى المصدر المفهوم من / الفعل وهو المجىء أي فبمجىء المذكورات فليفرحوا، وتكرير الباء في { بِرَحْمَتِهِ } على سائر الأوجه للإيذان باستقلالها في استيجاب الفرح.

والمراد بالفضل والرحمة إما الجنس ويدخل فيه ما في مجىء القرآن من الفضل والرحمة دخولاً أولياً وإما ما في مجيئه من ذلك، ويؤيده ما روي عن مجاهد أن المراد بالفضل والرحمة القرآن. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال " قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله" وروي ذلك عن البراء وأبـي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما موقوفاً. وجاء عن جمع جم أن الفضل القرآن والرحمة الإسلام وهو في معنى الحديث المذكور. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج الخطيب وابن عساكر عنه تفسير الفضل بالنبـي عليه الصلاة والسلام والرحمة بعلي كرم الله تعالى وجهه، والمشهور وصف النبـي صلى الله عليه وسلم بالرحمة كما يرشد إليه قوله تعالى: { { وَمَآ أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } [الأنبياء: 107] دون الأمير كرم الله تعالى وجهه، وإن كان رحمة جليلة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقيل: المراد بهما الجنة والنجاة من النار. وقيل غير ذلك.

ولا يجوز أن يراد بالرحمة على الوجه الأخير من أوجه الإعراب ما أريد بها أولاً بل هي فيه غير الأولى كما لا يخفى. وروى رويس عن يعقوب أنه قرأ { فلتفرحوا } بتاء الخطاب ولام الأمر على أصل المخاطب المتروك بناءً على القول بأن أصل صيغة الأمر الأمر باللام فحذفت مع تاء المضارعة واجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بالساكن لا على القول بأنها صيغة أصلية، وقد وردت هذه القراءة في حديث صحيح عن النبـي صلى الله عليه وسلم، وقد أخرجه جماعة منهم أبو داود وأحمد والبيهقي من طرق عن أبـي بن كعب رضي الله تعالى عنه مرفوعاً، وقرأ بها أيضاً ابن عباس وقتادة وغيرهما. وفي تعليقات الزمخشري على «كشافه» كأنه صلى الله عليه وسلم إنما آثر القراءة بالأصل لأنه أدل على الأمر بالفرح وأشد تصريحاً به إيذاناً بأن الفرح بفضل الله تعالى وبرحمته بليغ التوصية به ليطابق التقرير والتكرير وتضمين معنى الشرط لذلك، ونظيره مما انقلب فيه ما ليس بفصيح فصيحاً قوله سبحانه: { { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [الصمد: 4] من تقديم الظرف اللغو ليكون الغرض اختصاص التوحيد انتهى، وهو مأخوذ من كلام ابن جني في توجيه ذلك، ونقل عن «شرح اللب» في توجيهه أنه لما كان النبـي صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الحاضر والغائب جمع بين اللام والتاء قيل: وكأنه عنى أن الأمر لما كان لجملة المؤمنين حاضرهم وغائبهم غلب الحاضرون في الخطاب على الغائبين وأتى باللام رعاية لأمر الغائبين، وهي نكتة بديعة إلا أنه أمر محتمل، وما نقل عن صاحب «الكشاف» أولى بالقبول. وقرىء { فافرحوا } وهي تؤيد القراءة السابقة لأنها أمر المخاطب على الأصل. وقرىء { فليفرحوا } بكسر اللام.

{ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } من الأموال والحرث والإنعام وسائر حطام الدنيا فإنها صائرة إلى الزوال مشرفة عليه وهو راجع إلى لفظ ذلك باعتبار مدلوله وهو مفرد فروعي لفظه وإن كان عبارة عن الفضل والرحمة. ويجوز إرجاع الضمير إليهما ابتداء بتأويل المذكور كما فعل في ذلك أو جعلهما في حكم شيء واحد، ولك أن تجعله راجعاً إلى المصدر أعني المجىء الذي أشير إليه و { مَا } تحتمل الموصولية والمصدرية. وقرأ ابن عامر { تجمعون } بالخطاب لمن خوطب بـ { { يآ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ } [يونس: 57] سواء كان عاماً أو خاصاً بكفار قريش، وضمير { فَلْيَفْرَحُواْ } للمؤمنين أي فبذلك فليفرح المؤمنون فهو خير مما تجمعون أيها المخاطبون وعلى قراءة { فلتفرحوا } و { افرحوا } / يكون الخطاب على ما قيل للمؤمنين، وجوز أن يكون لهم على قراءة الغيبة أيضاً التفاتاً، وتعقب بأن الجمع أنسب بغيرهم وإن صح وصفهم به في الجملة فلا ينبغي أن يلتزم القول بما يستلزمه ما دام مندوحة عنه.