خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ
١
-هود

روح المعاني

{ بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } { الۤر } اسم للسورة على ما ذهب إليه الخليل وسيبويه وغيرهما أو للقرآن على ما روي عن الكلبـي والسدي، وقيل: إنها إشارة إلى اسم من أسمائه تعالى أو صفة من صفاته سبحانه، وقيل: هي إقسام منه تعالى بما هو من أصول اللغات ومبادي كتبه المنزلة ومباني أسمائه الكريمة، وقايل وقيل، وقد تقدم الكلام فيما ينفعك هنا على أتم تفصيل، واختار غير واحد من المتأخرين كونها اسماً للسورة وأنها خبر مبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة ـ بالر ـ وقيل: محلها الرفع على الابتداء أو النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اذكر أو اقرأ، وقوله سبحانه: { كِتَابٌ } خبر لها على تقدير ابتدائيتها أو لمبتدأ محذوف على غيره من الوجوه، والتنوين فيه للتعظيم أي كتاب عظيم الشأن جليل القدر.

{ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } أي نظمت نظماً محكماً لا يطرأ عليه اختلال فلا يكون فيه تناقض أو مخالفة للواقع والحكمة أو شيء مما يخل بفصاحته وبلاغته فالإحكام مستعار من إحكام البناء بمعنى اتقانه أو منعت من النسخ لبعضها أو لكلها بكتاب آخر كما وقع للكتب السالفة فالإحكام من أحكمه إذا منعه؛ ويقال: أحكمت السفيه إذا منعته من السفاهة، ومنه قول جرير:

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم إن أغضبا

/ وقيل: المراد منعت من الفساد أخذاً من أحكمت الدابة إذا جعلت في فمها الحكمة وهي حديدة تجعل في فم الدابة تمنعها من الجماح، فكأن ما فيها من بيان المبدأ والمعاد بمنزلة دابة منعها الدلائل من الجماح، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مكنية. وتعقب بأن تشبيهها بالدابة مستهجن لا داعي إليه، ولعل الذوق يفرق بين ذلك وبين تشبيهها بالجمل الأنوف الوارد في بعض الآثار لانقيادها مع المتأولين لكثرة وجوه احتمالاتها الموافقة لأغراضهم. واعترض بعضهم على إرادة المنع من الفساد بأن فيه إيهام ما لا يكاد يليق بشأن الآيات الكريمة من التداعي إلى الفساد لولا المانع، فالأول إذ يراد معنى المنع أن يراد المنع من النسخ ويراد من الكتاب القرآن وعدم نسخه كلاً أو بعضاً على حسب ما أشرنا إليه؛ وكون ذلك خلاف الظاهر في حيز المنع.

وادعى بعضهم أن المراد بالآيات آيات هذه السورة وكلها محكمة غير منسوخة بشيء أصلاً، وروي ذلك عن ابن زيد وخولف فيه. وادعى أن فيها من المنسوخ أربع آيات قوله سبحانه: { { إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْء وَكِيلٌ } [هود: 12] { { وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ } [هود: 121] والتي تليها ونسخت جميعا بآية السيف و { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَٰوةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } [هود: 51] الآية ونسخت بقوله سبحانه { { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَـٰجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآء لِمَن نُّرِيدُ } [الإسراء: 18] ولا يخلو عن نظر، ويجوز أن يكون المعنى منعت من الشبه بالحجج الباهرة وأيدت بالأدلة الظاهرة أو جعلت حكمية أي ذات حكمة لاشتمالها على أصول العقائد والأعمال الصالحة والنصائح والحكم، والفعل على هذا منقول من حكم بالضم إذا صار حكيماً، ومنه قول نمر بن تولب:

وأبغض بغيضك بغضاً رويدا إذا أنت حاولت أن تحكما

فقد قال الأصمعي: إن المعنى إذا حاولت أن تكون حكيماً، وفي إسناد الإحكام على الوجوه المذكورة إلى الآيات دون الكتاب نفسه لا سيما إذا أريد ما يشمل كل آية آية من حسن الموقع والدلالة على كونه في أقصى غاياته ما لا يخفى.

{ ثُمَّ فُصّلَتْ } أي جعلت مفصلة كالعقد المفصل بالفرائد التي تجعل بين اللآلىء، ووجه جعلها كذلك اشتمالها على دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص أو فصل فيها مهمات العباد في المعاش والمعاد على الإسناد المجازي أو جعلت فصلاً فصلاً من السور ويراد بالكتاب القرآن، وقيل: يصح أن يراد به هذه السورة أيضاً على أن المعنى جعلت معاني آياتها في سور ولا يخفى أنه تكلف لا حاجة إليه. أو فرقت في التنزيل فلم تنزل جملة بل نزلت نجماً نجماً على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، و{ ثُمَّ } على هذا ظاهرة في التراخي الزماني لما أن المتبادر من التنزيل المنجم فيه التنزيل المنجم بالفعل، وإن أريد جعلها في نفسها بحيث يكون نزولها منجماً حسب الحكمة فهو رتبـي لأن ذلك وصف لازم لها حقيق بأن يرتب على وصف أحكامها، وهي على الأوجه الأول للتراخي الرتبـي لا غير، وقيل: للتراخي بين الأخبارين. واعترض بأنه لا تراخي هناك إلا أن يراد بالتراخي الترتيب مجازاً أو يقال بوجوده باعتبار ابتداء الخبر الأول وانتهاء الثاني. وأنت تعلم أن القول بالتراخي في الرتبة أولى خلا أن تراخى رتبة التفصيل بأحد المعنيين الأولين عن رتبة الأحكام أمر ظاهر وبالمعنى الثالث فيه نوع خفاء، ولا يخفى عليك أن الاحتمالات في الآية الحاصلة من ضرب معاني الأحكام الأربعة في معاني التفصيل كذلك وضرب المجموع في احتمالات المراد ـ بثم ـ تبلغ اثنين وثلاثين أو ثمانية وأربعين احتمالاً ولا حجر.

والزمخشري ذكر للأحكام على ما في «الكشف» ثلاثة أوجه. / أخذه من أحكام البناء نظراً إلى التركب البالغ حد الإعجاز، أو من الأحكام جعلها حكيمة، أو جعلها ذات حكمة فيفيد معنى المنع من الفساد، وللتفصيل أربعة: جعلها كالقلائد المفصلة بالفرائد لما فيها من دلائل التوحيد وأخواتها، وجعلها فصولاً سورة سورة وآية آية. وتفريقها في التنزيل، وتفصيل ما يحتاج إليه العباد وبيانه فيها روي هذا عن مجاهد، وقال: إن معنى { ثُمَّ } ليس التراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل. والظاهر أنه أراد أنها في جميع الاحتمالات كذلك، وفيه أيضاً أنه إذا أريد بالإحكام أحد الأولين وبالتفصيل أحد الطرفين فالتراخي رتبـي لأن الأحكام بالمعنى الأول راجع إلى اللفظ والتفصيل إلى المعنى، وبالمعنى الثاني وإن كان معنوياً لكن التفصيل إكمال لما فيه من الإجمال، وان أريد أحد الأوسطين فالتراخي على الحقيقة لأن الإحكام بالنظر إلى كل آية في نفسها وجعلها فصولاً بالنظر إلى بعضها مع بعض أو لأن كل آية مشتملة على جمل من الألفاظ المرصفة وهذا تراخ وجودي، ولما كان الكلام من السائلات كان زمانياً أيضاً، ولكن الزمخشري آثر التراخي في الحال مطلقاً حملاً على التراخي في الإخبار في هذين الوجهين ليطابق اللفظ الوضع وليظهر وجه العدول من الفاء إلى ثم، وإن أريد الثالث وبالتفصيل أحد الطرفين فرتبـي وإلا فإخباري، والأحسن أن يراد بالإحكام الأول وبالتفصيل أحد الطرفين وعليه ينطبق المطابقة بين { حَكِيم } و { خبير } و { أُحْكِمَتْ } و { فُصّلَتْ } ثم قال: ومنه ظهر أن التراخي في الحال يشمل التراخي الرتبـي والإخباري انتهى فليتأمل. وقرىء { أُحْكِمَتْ } بالبناء للفاعل المتكلم و { فُصّلَتْ } بفتحتين مع التخفيف وروي هذا عن ابن كثير، والمعنى ثم فرقت بين الحق والباطل، وقيل: { فُصِّلَتْ } هنا مثلها في قوله تعالى: { وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ } [يوسف: 94] أي انفصلت وصدرت.

{ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } صفة لكتاب وصف بها بعد ما وصف بإحكام آياته وتفصيلها الدالين على علو مرتبته من حيث الذات إبانة لجلالة شأنه من حيث الإضافة أو خبر ثان للمبتدأ الملفوظ أو المقدر أو هو معمول لأحد الفعلين على التنازع مع تعلقه بهما معنى أي من عنده أحكامها وتفصيلها واختار هذا في «الكشف». وفي «الكشاف» أن فيه طباقاً حسناً لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور ففي الآية اللف والنشر، وأصل الكلام على ما قال الطيبـي: أحكم آياته الحكيم وفصلت الخبير ثم عدل عنه إلى أحكمت حكيم وفصلت خبير على حد قوله تعالى: { يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلآصَالِ * رِجَالٌ } [النور: 36-37] على قراءة البناء للمفعول، وقوله:

لبيك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح

ثم إلى ما في النظم الجليل لما في الكناية من الحسن مع إفادة التعظيم البالغ الذي لا يصل إلى كنهه وصف الواصف لا سيما وقد جيء بالاسمين الجليلين منكرين بالتنكير التفخيمي.

و{ لَّدُنْ } من الظروف المبنية وهي لأول غاية زمان أو مكان، والراد هنا الأخير مجازاً، وينبت لشبهها بالحرف في لزومها استعمالاً واحداً وهي كونها مبدأ غاية وامتناع الإخبار بها وعنها ولا يبنى عليها المبتدأ بخلاف عند و ـ لدي ـ فإنهما لا يلزمان استعمالاً واحداً بل يكونان لابتداء الغاية وغيرها ويبنى عليهما المبتدأ كما في قوله سبحانه: { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } [الأنعام: 59] { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [ق: 35] قيل: ولقوة شبهها بالحرف وخروجها عن نظائرها لا تعرب إذا أضيفت. نعم جاء عن قيس إعرابها تشبيهاً / بعند وعلى ذلك خرجت قراءة عاصم { { بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ } [الكهف: 2] بالجر وإشمام الدال الساكنة الضم واقترانها بمن كما في الآية، وكذا إضافتها إلى مفرد كيفما كان هو الغالب وقد تتجرد عن ـ من ـ وقد تضاف إلى جملة اسمية كقوله:

وتذكر نعماه لدن أنت يافع

وفعلية كقوله:

صريح غوان راقهن ورقنه لدن شب حتى شاب سود الذوائب

ومنع ابن الدهان من إضافتها إلى الجملة وأول ما ورد من ذلك على تقدير أن المصدرية بدليل ظهورها معها في قوله:

وليت فلم تقطع لدن ان وليتنا قرابة ذي قربـى ولاحق مسلم

ولا يخفى ما في التزام ذلك من التكلف لا سيما في مثل ـ لدن أنت يافع ـ وتتمحض للزمان إذا أضيفت إلى الجملة، وجاء نصب غدوة بعدها في قوله:

لدن غدوة حتى دنت لغروب

وخرج على التمييز، وحكى الكوفيون رفعها بعدها وخرج على إضماء كان، وفيها ثمان لغات. فمنهم من يقول { لدن } بفتح اللام وضم الدال وسكون النون وهي اللغة المشهورة، وتخفف بحذف الضمة كما في عضد وحينئذ يتلقى ساكنان. فمنهم من يحذف النون لذلك فيبقى ـ لد ـ بفتح اللام وسكون الدال. ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال فتحا فيقول { لدن } بفتح اللام والدال وسكون النون. ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال كسرا فيقول { لدن } بفتح اللام وكسر الدال وسكون النون ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول { لدن } بفتح اللام وسكون الدال وكسر النون، وقد يخفف بنقل ضمة الدال إلى اللام كما يقال في عضد عضد بضم العين وسكون الضاد على قلة، وحينئذ يلتقي ساكنان أيضاً. فمنهم من يحذف النون لذلك فيقول ـ لد ـ بضم اللام وسكون الدال. ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول { لدن } بضم اللام وسكون الدال وكسر النون فهذه سبع لغات. وجاء ـ لد ـ بحذف نون { لدن } التي هي أم الجميع وبذلك تتم الثمانية، ويدل على أن أصل ـ لد ـ لدن إنك إذا أضفته لمضمر جئت بالنون فتقول: من لدنك ولا يجوز من ـ لدك ـ كما نبه عليه سيبويه، وذكر لها في «همع الهوامع» عشر لغات ما عدا اللغة القيسية فليراجع.