خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ
٧٠
-هود

روح المعاني

{ فَلَمَّا رَءآ أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ } كناية عن أنهم لا يمدون إليه أيديهم ويلزمه أنهم لا يأكلون، وقيل: { لا } كناية بناءاً على ما روي أنهم كانوا ينكتون اللحم بقداح في أيديهم وليس بشيء، وفي القلب من صحة هذه الرواية شيء إذ هذا النكت أشبه شيء بالعبث، والملائكة عليهم السلام يجلون عن مثله. و { رَأَىٰ } قيل: علمية فجملة { لاَ تَصِلُ } مفعول ثان، والظاهر أنها بصرية. والجملة في موضع الحال ففيه دليل على أن من أدب الضيافة النظر إلى الضيف هل يأكل أولاً لكن ذكروا أنه ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر / لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصراً في الأكل أي لما شاهد منهم ذلك { نَكِرَهُمْ } أي نفرهم { وَأَوْجَسَ } أي استشعر وأدرك، وقيل: أضمر { مِنْهُمْ } أي من جهتهم { خِيفَةً } أي خوفاً، وأصلها الحالة التي عليها الإنسان من الخوف، ولعل اختيارها بالذكر للمبالغة حيث تفرس لذلك مع جهالته لهم من قبل وعدم معرفته من أي الناس يكونون كما ينبـىء عنه ما في الذاريات [25] من قوله سبحانه حكاية عنه: { قَالَ سَلَـٰمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أنهم ملائكة، وظن أنهم أرسلوا لعذاب قومه أو لأمر أنكره الله تعالى عليه.

{ قَالُواْ } حين رأوا أثر ذلك عليه عليه السلام، أو أعلمهم الله تعالى به، أو بعد أن قال لهم ما في الحجر [52] { إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } فإن الظاهر منه أن هناك قولاً بالفعل لا بالقوة كما هو احتمال فيه على ما ستراه إن شاء الله تعالى، وجوز أن يكون ذلك لعلمهم أن علمه عليه السلام أنهم ملائكة يوجب الخوف لأنهم لا ينزلون إلا بعذاب، وقيل: إن الله تعالى جعل للملائكة مطلقاً ما لم يجعل لغيرهم من الاطلاع كما قال تعالى: { يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الإنفطار: 12] وفي «الصحيح» "قالت الملائكة رب عبدك هذا يريد أن يعمل سيئة" الحديث، وهو قول بأن الملائكة يعلمون الأمور القلبية. وفي الأخبار الصحيحة ما هو صريح بخلافه، والآية. والخبر المذكوران لا يصلحان دليلاً لهذا المطلب، وإسناد القول إليهم ظاهر في أن الجميع قالوا { لاَ تَخَفْ } ويحتمل أن القائل بعضهم، وكثيراً ما يسند فعل البعض إلى الكل في أمثال ذلك.

وظاهر قوله سبحانه: { أَنَّآ أَرْسَلْنَا } أنه استئناف في معنى التعليل للنهي المذكور كما أن قوله سبحانه: { { إِنَّا نُبَشّرُكَ } [الحجر: 53] استئناف كذلك فإن إرسالهم إلى قوم آخرين يوجب أمنهم من الخوف أي { أَرْسَلْنَا } بالعذاب { إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ } خاصة، ويعلم مما ذكرنا أنه عليه السلام أحس بأنهم ملائكة، وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد يستدل له بقولهم: { لاَ تَخَفْ إِنَّآ أُرْسِلْنَا } فإنه كما لا يخفى على من له أدنى ذوق إنما يقال لمن عرفهم ولم يعرف فيم أرسلوا فخاف، وأن الإنكار المدلول عليه بنكرهم غير المدلول عليه بما في الذاريات فلا إشكال في كون الإنكار هناك قبل إحضار الطعام وهنا بعده. وأصل الإنكار ضد العرفان، ونكرت وأنكرت واستنكرت بمعنى، وقيل: إن أنكر فيما لا يرى من المعاني ونكر فيما يرى بالبصر، ومن ذلك قول الشاعر

: وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا

فإنه أراد في الأول على ما قيل: أنكرت مودتي، وقال الراغب: إن أصل ذلك أن يرد على القلب ما لا يتصوره وذلك ضرب من الجهل وبه فسر ما في الآية، وفرق بعضهم بين ما هنا وبين ما وقع في الذاريات بأن الأول راجح إلى حالهم حين قدم إليهم العجل والثاني متعلق بأنفسهم ولا تعلق له برؤية عدم أكلهم بل وقع عند رؤيته عليه السلام لهم لعدم كونهم من جنس ما يعهده من الناس، ويحتاج هذا إلى اعتبار حذف المضاف أو ملاحظة الحيثية، واعترض ما قدمناه بأن فيه ارتكاب مجاز، ولعل الأمر فيه سهل.

وذهب بعضهم إلى أنه عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة حتى قالوا له: { لاَ تَخَفْ إِنَّآ أُرْسِلْنَا } وكأن سبب خوفه منهم أنهم لم يتحرموا بطعامه فظن أنهم يريدون به سوءاً إذ كانت العادة إذ ذاك كذلك، وكان عليه السلام نازلاً في طرف من الأرض منفرداً عن قومه، وهي رواية عن ابن عباس أخرجه إسحاق بن بشر/ وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عنه، وقيل: كان سبب خوفه أنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت.

وقال العلامة الطيبـي: الحق أن الخوف إنما صدر عن مجموع كونهم منكرين وكونهم ممتنعين من الطعام كما يعلم من الآيات الواردة في هذه القصة ولأنه لو عرفهم بأنهم ملائكة لم يحضر بين أيديهم الطعام ولم يحرضهم على الأول وإنما عدلوا إلى قولهم: { إِنَّآ أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ } ليكون جامعاً للمعاني بحيث يفهم منه المقصود أيضاً انتهى.

وفيه إشارة إلى الردّ على الزمخشري، وقد اختلف كلامه في تعليل الخوف فعلله تارة بعرفانه أنهم ملائكة وأخرى بأنهم لم يتحرموا طعامه، ولعله أراد بذلك العرفان العرفان بعد إحضار الطعام، وما ذكره الطيبـي من أنه لو عرفتهم بأنهم ملائكة لم يحضر الخ غير قادح إذ يجوز أن يخافهم بعد الإحضار أولاً لعدم التحرم ثم بعد تفرس أنهم ملائكة خافهم لأنهم ملائكة أرسلوا للعذاب، والزمخشري حكى أحد الخوفين في موضع والآخر في آخر.

قال بعض المحققين والتعليل بأنهم ملائكة هو الوجه لينتظم قوله سبحانه: { { لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَـٰمٍ عَلِيمٍ } [الحجر: 53] مع ما قبله إذ لو كان الوجل لكونهم على غير زي من عرف ونحوه لم يحسن التعليل بقوله تعالى: { إِنَّا نُبَشّرُكَ } فإنه إنما هو تعليل للنهي عن الوجل من أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب كأنهم قالوا: لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم وإنا أرسلنا إلى قوم لوط فجاء على اختصارات القرآن بذكر أحد التعليلين في أحد الموضعين والآخر في الآخر، ولا شك أن في الحجر اختصاراً لطي حديث الرواع، والتعجيل بالعجل الحنيذ وعدم تحرمهم بطعامه لما أن المقصود من سوق القصة هنالك الترغيب والترهيب للاعتبار بحال إبراهيم عليه السلام وما لقي من البشرى والكرامة، وحال قوم لوط عليه السلام وما منوا به من السوأى والملامة، ألا ترى إلى قوله سبحانه: { { نَبّيء عِبَادِي أَنّيۤ أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } إلى قوله جل وعلا: { عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } [الحجر: 49-51] فاقتصر على ما يفيد ذلك الغرض، وأما في هذه السورة فجيء بها للإرشاد الذي بنى عليه السورة الكريمة مع إدماج التسلية ورد ما رموه به عليه الصلاة والسلام من الافتراء، وفي كل من أجزاء القصة ما يسد من هذه الأغراض فسرد على وجهها، وفي سورة الذاريات للأخيرين فقط فجىء بما يفيد ذلك فلا عليك إن رأيت اختصاراً أن تنقل إليه من المبسوط ما يتم به الكلام بعد أن تعرف نكتة الاختصار، وهذا من خواص كتاب الله تعالى الكريم انتهى ولا يخلو عن حسن، وفيه ذهاب إلى كون جملة { إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ } استئنافاً في موضع التعليل كما هو الظاهر.

وقال شيخ الإسلام عليه الرحمة: الظاهر ما ذكر إلا أنه ليس كذلك فإن قوله تعالى: { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ * قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } [الحجر: 57-58] صريح في أنهم قالوه جواباً عن سؤاله عليه السلام، وقد أوجز الكلام اكتفاءاً بذلك انتهى.

وتعقب بأنه قد يقال: إن ذلك لا يقدح في الحمل على الظاهر لجواز أن يكونوا قالوا ذلك على معنى التعليل للنهي عن الخوف، ولكنه وإن أريد منه الإرسال بالعذاب لقوم لوط عليه السلام مجمل لم يؤت به على وجه يظهر منه ما نوع هذا العذاب هل هو استئصال أم لا؟ فسأل عليه السلام لتحقيق ذلك فكأنه قال: أيها المرسلون إلى قوم لوط ما هذا الأمر العظيم الذي أرسلتم به؟ فأجابوه بما يتضمن بيان ذلك مع الإشارة إلى علة نزول ذلك الأمر بهم وهو قولهم: { { إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * إِلآ ءالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } [الحجر: 58-59] الآية فإن انفهام عذاب الاستئصال لقوم لوط عليه السلام من ذلك ظاهر، وكذا الإشارة إلى العلة.

/ والحاصل أن السؤال في تلك الآية عن الخطب وهو في الأصل الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب، ويراد من السؤال عنه تحقيق أمر لم يعلمه عليه السلام من كلامهم قبل إما لأنه لم يعلم ذلك منه أو لأنه كان مشغولاً عن كمال التوجه ليعلم عليه السلام منه ذلك، وفي خطابه عليه السلام لهم عليهم السلام بعنوان الرسالة ما يؤيد تقدم قولهم: { أَنَّآ أَرْسَلْنَا } على هذا السؤال لكنه أسقط هناك تعويلاً على ما هنا ولا بدع في الإسقاط من المتأخر تعويلاً على المتقدم، وتأخر الحجر والذاريات عن هود تلاوة مما لا كلام فيه، وتأخرهما نزولاً مما رواه ابن ضريس في «فضائل القرآن» عن محمد بن عبد الله بن أبـي جعفر الرازي عن عمر بن هٰرون عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس، وذكر أنها كلها نزلت بمكة وأن بين هود والحجر سورة واحدة، وبين الحجر والذاريات ثلاث عشرة سورة فليتأمل في هذا المقام، ويفهم من كلام بعضهم أنه عليه السلام لم يتحقق كونهم ملائكة إلا بعد أن مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فحينئذ عرفهم وأمن منهم، ولم يتحقق صحة الخبر عندي، والذي أميل إليه أنه عليه السلام عرفهم قبل ذلك وأن خوفه منهم لكونهم ملائكة لم يدر لأي شيء نزلوا، ويبعد عند من عرف حال إبراهيم عليه السلام القول بأنه خاف بشراً وبلغ منه الخوف حتى قَالَ { { إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } [الحجر: 52] لا سيما إذا قلنا: إنا من خافهم كانوا ثلاثة وأنه عليه السلام لم يكن في طرف من الأرض بل كان بين أصحابه، أو كان هناك لكن بين خدمه وغلمانه.