خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ٱلرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ ٱلْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ
٧٤
-هود

روح المعاني

{ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرٰهِيمَ ٱلرَّوْعُ } أي الخوف والفزع، قال الشاعر:

إذا أخذتها هزة (الروع) أمسكت بمنكب مقدام على الهول أروعا

والفعل راع، ويتعدى بنفسه كما في قوله:

(ما راعني) إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الخمخم

والروع بضم الراء النفس وهي محل الروع. والفاء لربط بعض أحوال إبراهيم عليه السلام ببعض غب انفصالها بما ليس بأجنبـي من كل وجه بل له مدخل في السياق والسباق، وتأخر الفاعل عن الظرف لكونه مصب الفائدة، والمعنى لما زال عنه ما كان أوجسه منهم من الخيفة وأطمأنت نفسه بالوقوف على جلية أمرهم { وَجَآءتْهُ ٱلْبُشْرَىٰ يُجَـٰدِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } أي يجادل رسلنا في حالهم وشأنهم، ففيه مجاز في الإسناد. وكانت مجادلته عليه السلام لهم ما قصه الله سبحانه في قوله سبحانه في سورة العنكبوت: { { وَلَمَّا جَآءتْ رُسُلُنَآ إِبْرٰهِيمَ بِٱلْبُشْرَىٰ قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَـٰلِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً } [العنكبوت: 31-32] فقوله عليه السلام: { إِنَّ فِيهَا لُوطاً } مجادلة وعد ذلك مجادلة لأن مآله على ما قيل: كيف تهلك قرية فيها من هو مؤمن غير مستحق للعذاب؟ ولذا أجابوه بقولهم: { { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ } [العنكبوت: 32] وهذا القدر من القول هو المتيقن.

وعن حذيفة أنهم لما قالوا له عليه السلام ما قالوا، قال: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونها؟ وقالوا: لا، قال: فثلاثون؟ قالوا: لا، قال: فعشرون، قالوا: لا، قال: فإن كان فيهم عشرة أو خمسة ـ شك الراوي ـ؟ قالوا: لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجل واحد من المسلمين أتهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك قال: { { إِنَّ فِيهَا لُوطاً } [العنكبوت: 32] فأجابوه بما أجابوه، وروي نحو ذلك عدة روايات الله تعالى أعلم بصحتها، وفسر بعضهم المجادلة بطلب الشفاعة، وقيل: هي سؤاله عن العذاب هل هو واقع بهم لا محالة أم على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الطاعة؟ وأياً مّا كان ـ فيجادلنا ـ جواب ـ لما ـ وكان الظاهر جادلنا إلا أنه عبر بالمضارع لحكاية الحال الماضية واستحضار صورتها، وقيل: إن ـ لما ـ كلو تقلب المضارع ماضياً كما أن ـ أن ـ تقلب الماضي مستقبلاً، وقيل: الجواب محذوف. وهذه الجملة في موضع الحال من فاعله أي أخذ أو أقبل مجادلا لنا، وآثر هذا الوجه الزجاج ولكنه جعله مع حكاية الحال وجهاً واحداً لأنه قال: ولم يذكر في الكلام أخذ لأن الكلام إذا أريد به حكاية حال ماضية قدر فيه أخذ وأقبل لأنك إذا قلت: قام زيد دل على فعل ماض، وإذا قلت: أخذ زيد يقوم دل على حال ممتدة من أجلها ذكر أخذ وأقبل، وصنيع الزمخشري يدل على أنهما وجهان، وتحقيقه على ما في «الكشف» أنه إذا أريد استمرار الماضي فهو كما ذكره الزجاج، وإن أريد التصوير المجرد فلا، وقيل: الجواب محذوف.

والجملة مستأنفة استئنافاً نحوياً أو بيانياً وهي دليل عليه، والتقدير اجترأ على خطابنا أو فطن بمجادلتنا وقال: كيت وكيت، واختاره في «الكشاف»، وقيل: إن هذه الجملة ـ وكذا الجملة التي قبلها ـ في موضع الحال من { إِبْرَاهِيمَ } على الترادف أو التداخل وجواب (لما) قلنا يقدر قبل { يآإِبْرٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا } [هود: 76]، وأقرب الأقوال أولها ((والبشرى إن فسرت بقولهم: { { لاَ تَخَفْ } [هود: 70] فسببية ذهاب الخوف ومجيء السرور للمجادلة ظاهرة، وأما إن فسرت ببشارة الولد ـ كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن قتادة واختاره جمع أو بما يعمها ـ فلعل سببيتها لها من حيث أنها تفيد زيادة اطمئنان قلبه عليه السلام بسلامته وسلامة أهله كافة كذا قاله مولانا شيخ الإسلام، ثم قال: إن قيل: إن المتبادر من هذا الكلام أن يكون إبراهيم عليه السلام قد علم أنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط قبل ذهاب الروع عن نفسه ولكن لم يقدر على مجادلتهم في شأنهم لاشتغاله بشأن نفسه، فلما ذهب عنه الروع فرغ لها مع أن ذهاب الروع إنما هو قبل العلم بذلك لقوله سبحانه: { { قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ } [هود: 70] قلنا: كان لوط عليه السلام على شريعة إبراهيم عليه السلام وقومه مكلفين بها فلما رأى من الملائكة عليهم السلام ما رأى خاف على نفسه وعلى كافة أمته التي من جملتهم قوم لوط، ولا ريب في تقدم هذا الخوف على قولهم: { { لاَ تَخَفْ } [هود: 70] وأما الذي علمه عليه السلام بعد النهي فهو اختصاص قوم لوط بالهلاك لا دخول لهم تحت العموم فتأمل)) انتهى.

وفيه أن كون الكل أمته في حيز المنع، وما أشار إليه من اتحاد الشريعتين إن أراد به الاتحاد في الأصول كاتحاد شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم مع شريعة إبراهيم عليه السلام فمسلم لكن لا يلزم منه ذلك، وإن أراد به الاتحاد في الأصول والفروع فغير مسلم ولو سلم ففي لزوم كون الكل أمته له تردد على أنه لو سلمنا كل ذلك / فلقائل أن يقول: سلمنا أنه عليه السلام لما رأى من الملائكة عليهم السلام ما رأى حصل له خوف على نفسه وعلى كافة أمته التي من جملتهم قوم لوط عليه السلام لكن لا نسلم أن هذا الخوف كان عن علم بأن أولئك الملائكة كانوا مرسلين لإهلاك الكل المندرج فيه قوم لوط بل عن تردد وتحير في أمرهم، وحينئذ لا ينحل السؤال بهذا الجواب كما لا يخفى على المتبصر، وكأنه لذلك أمر بالتأمل. وقد يقال: المفهوم من الكلام تحقق المجادلة بعد تحقق مجموع الأمرين ذهاب الروع ومجيء البشارة، وهو لا يستدعي إلا سبق العلم بأنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط على تحقق المجموع، ويكفي في ذلك سبقه على تحقق البشارة، وهذا العلم مستفاد من قولهم له: { لاَ تَخَفْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ } [هود: 70] وكأنه عليه السلام إنما لم يجادل بعد هذا العلم، وأخر المجادلة إلى مجيء البشارة ليرى ما ينتهى إليه كلام الملائكة عليهم السلام، أو لأنه لم يقع فاصل سكوت في البين ليجادل فيه إلا أن هذا لا يتم إلا أن يكون الإخبار بالإرسال إلى قوم لوط سابقاً على البشارة بالولد، وفيه تردد. وفي بعض الآيات ما هو ظاهر في سبق البشارة على الإخبار بذلك، نعم يمكن أن يلتزم سبق الإخبار على البشارة، ويقال: إنهم أخبروه أولا ثم بشروه ثانياً، ثم بعد أن تحقق مجموع الأمرين قال: { { فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } [الحجر: 57] ويقال: الرماد منه السؤال عن حال العذاب هل هو واقع بهم لا محالة أم هو على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الإيمان؟ وتفسير المجادلة به كما مر عن بعض فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك.