خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ تَاللهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ
٨٥
-يوسف

روح المعاني

{ قَالُواْ } أي الإخوة وقيل غيرهم من أتباعه عليهم السلام { تَالله تَفْتَؤُاْ } أي لا تفتأ ولا تزال { تَذْكُرُ يُوسُفَ } تفجعاً عليه فحذف حرف النفي كما في قوله:

فقلت يمين الله أبرح قاعداً ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

لأن القسم إذا لم يكن معه علامة الإثبات كان على النفي وعلامة الإثبات هي اللام ونون التأكيد وهما يلزمان جواب القسم المثبت فإذا لم يذكرا دل على أنه منفي لأن المنفى لا يقارنهما ولو كان المقصود هٰهنا الإثبات لقيل لتفتأن، ولزوم اللام والنون مذهب البصريين، وقال الكوفيون والفارسي: يجوز الاقتصار على أحدهما وجاء الحذف فيما إذا كان الفعل حالا كقراءة ابن كثير { { لأُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } [القيامة: 1] وقوله:

لأبغض كل أمرىء يزخرف قولاً ولا يفعل

ويتفرع على هذا مسألة فقهية وهي أنه إذا قال: والله أقوم يحنث إذا قام وإن لم يقم لا، ولا فرق بين كون القائل عالماً بالعربية أو لا على ما أفتى به خير الدين الرملي، وذكر أن الحلف بالطلاق كذلك فلو قال: عليَّ الطلاق بالثلاث تقومين الآن تطلق إن قامت ولا تطلق إن لم تقم، وهذه المسألة مهمة لا بأس بتحقيق الحق فيها وإن أدّى إلى الخروج عما نحن بصدده فنقول: قال غير واحد: إن العوام لو أسقطوا اللام والنون في جواب القسم المثبت المستقبل فقال أحدهم: والله أقوم مثلاً لا يحنث بعدم القيام فلا كفارة عليه، وتعقبه المقدسي بأنه ينبغي أن تلزمهم الكفارة لتعارفهم الحلف كذلك، ويؤيده ما في "الظهيرية" أنه لو سكن الهاء أو نصب في بالله يكون يميناً مع أن العرب ما نطقت بغير الجر، وقال أيضاً: إنه ينبغي أن يكون ذلك يميناً وإن خلا من اللام والنون، ويدل عليه قوله في "الولوالجية": سبحان الله أفعل لا إله إلا الله أفعل كذا ليس بيمين إلا أن ينويه، واعترضه الخير الرملي بأن ما نقله لا يدل لمدعاه، أما الأول فلأنه تغيير إعراب لا يمنع المعنى الموضوع فلا يضر التسكين والرفع والنصب لما تقرر من أن اللحن لا يمنع الانعقاد، وأما الثاني فلأنه ليس من المتنازع فيه إذ هو الإثبات والنفي لا أنه يمين، وقد نقل ما ذكرناه عن المذهب والنقل يجب اتباعه، ونظر فيه. أما أولاً فبأن اللحن كما في "المصباح" وغيره الخطأ في العربية، وأما ثانياً فبأن ما في "الولوالجية" من المتنازع فيه فإنه أتى بالفعل المضارع مجرداً من اللام والنون وجعله يميناً مع النية ولو كان على النفي لوجب أن يقال: إنه مع النية يمين على عدم الفعل كما لا يخفى، وإنما اشترط في ذلك النية لكونه غير متعارف. وقال الفاضل الحلبـي: إن بحث المقدسي وجيه، والقول بأنه يصادم المنقول يجاب عنه بأن المنقول في/ المذهب كان على عرف صدر الإسلام قبل أن تتغير اللغة، وأما الآن فلا يأتون باللام والنون في مثبت القسم أصلاً ويفرقون بين الإثبات والنفي بوجود لا ولا وجودها، وما اصطلاحهم على هذا إلا كاصطلاح الفُرس ونحوهم في أيمانهم وغيرها اهـ، ويؤيد هذا ما ذكره العلامة قاسم وغيره من أنه يحمل كلام كل عاقد وحالف وواقف على عرفه وعادته سواء وافق كلام العرب أم لا، ومثله في "الفتح"، وقد فرق النحاة بين بلى ونعم في الجواب أن بلى لإيجاب ما بعد النفي ونعم للتصديق فإذا قيل: ما قام زيد فإن قلت: بلى كان المعنى قد قام وإن نعم كان ما قام، ونقل في "شرح المنار" عن "التحقيق" أن المعتبر في أحكام الشرع العرف حتى يقام كل واحد منهما مقام الآخر، ومثله في "التلويح"، وقول "المحيط" والحلف بالعربية أن يقول في الإثبات والله لأفعلن إلى آخر ما قال بيان للحكم على قواعد العربية، وعرف العرب وعادتهم الخالية عن اللحن وكلام الناس اليوم إلا ما ندر خارج عن هاتيك القواعد فهو لغة اصطلاحية لهم كسائر اللغات الأعجمية التي تصرف فيها أهلها بما تصرفوا فلا يعاملون بغير لغاتهم وقصدهم إلا من التزم منهم الإعراب أو قصد المعنى فينبغي أن يدين، ومن هنا قال السائحاني: إن أيماننا الآن لا تتوقف على تأكيد فقد وضعناها نحن وضعاً جديداً واصطلحنا عليها اصطلاحاً حادثاً وتعارفناها تعارفاً مشهوراً فيجب معاملتنا على قدر عقولنا ونياتنا كما أوقع المتأخرون الطلاق بعليَّ الطلاق ومن لم يدر بعرف أهل زمانه فهو جاهل اهـ، ونظير هذا ما قالوه: من أنه لو أسقطت الفاء الرابطة لجواب الشرط فهو تنجيز لا تعليق حتى لو قال: إن دخلت الدار أنت طالق تطلق في الحال وهو مبني على قواعد العربية أيضاً وهو خلاف المتعارف الآن فينبغي بناؤه على العرف فيكون تعليقاً وهو المروي عن أبـي يوسف. وفي "البحر" أن الخلاف مبني على جواز حذفها اختياراً وعدمه فأجازه أهل الكوفة وعليه فرع أبو يوسف ومنعه أهل البصرة وعليه تفرع المذهب. وفي "شرح نظم الكنز" للمقدسي أنه ينبغي ترجيح قول أبـي يوسف لكثرة حذف الفاء في الفصيح ولقولهم: العوام لا يعتبر منهم اللحن في قولهم: أنت واحدة بالنصب الذي لم يقل به أحد اهـ هذا ثم إن ما ذكر إنما هو في القسم بخلاف التعليق وهو وإن سمي عند الفقهاء حلفاً ويميناً لكنه لا يسمى قسماً فإن القسم خاص باليمين بالله تعالى كما صرح به القهستاني فلا يجري فيه اشتراط اللام والنون في المثبت منه لا عند الفقهاء ولا عند اللغويين، ومنه الحرام يلزمني وعليَّ الطلاق لا أفعل كذا فإنه يراد به في العرف إن فعلت كذا فهي طالق فيجب امضائه عليهم كما صرح به في "الفتح" وغيره قال الحلبـي: وبهذا يندفع ما توهمه بعض الأفاضل من أن في قول القائل: عليَّ الطلاق أجيء اليوم إن جاء في اليوم وقع الطلاق وإلا فلا لعدم اللام والنون. وأنت خبير بأن النحاة إنما اشترطوا ذلك في جواب القسم المثبت لا في جواب الشرط؛ وكيف يسوغ لعاقل فضلاً عن فاضل أن يقول إن إن قام زيد أقم على معنى إن قام زيد لم أقم، على أن أجيء ليس جواب الشرط بل هو فعل الشرط لأن المعنى إن لم أجيء اليوم فانت طالق، وقد وقع هذا الوهم لكثير من المفتين كالخير الرملي وغيره، وقال السيد أحمد الحموي في "تذكرته الكبرى": رفع إليَّ سؤال صورته رجل اغتاظ من ولد زوجته فقال: عليَّ الطلاق بالثلاث إني أصبح أشتكيك من النقيب فلما أصبح تركه ولم يشتكه ومكث مدة فهل والحالة هذه يقع عليه الطلاق أم لا؟ الجواب إذا ترك شكايتة ومضت مدة بعد حلفه لا يقع عليه الطلاق لأن الفعل المذكور وقع في جواب اليمين وهو مثبت فيقدر النفي حيث لم يؤكد/ ثم قال: فأحببت أنا بعد الحمد لله تعالى ما أفتي به هذا المجيب من عدم وقوع الطلاق معللاً بما ذكر فمنبىء عن فرط جهله وحمقه وكثرة مجازفته في الدين وخرقه إذ ذاك في الفعل إذا وقع جواباً للقسم بالله تعالى نحو تفتأ لا في جواب اليمين بمعنى التعليق بما يشق من طلاق وعتاق ونحوهما وحينئذ إذا أصبح الحالف ولم يشتكه وقع عليه الطلاق الثلاث وبانت زوجته منه بينونة كبرى اهـ. ولنعم ما قال. ولله تعالى در القائل

من الدين كشف الستر عن كل كاذب وعن كل بدعي أتى بالعجائب
فلولا رجال مؤمنون لهدمت صوامع دين الله من كل جانب

وفتىء هذه من أخوات كان الناقصة كما أشرنا إليه ويقال فيها: فتأ كضرب وأفتأ كأكرم، وزعم ابن مالك أنها تكون بمعنى سكن وفتر فتكون تامة وعلى ذلك جاء تفسير مجاهد ـ للا تفتأ ـ بلا تفتر عن حبه، وأوله الزمخشري بأنه عليه الرحمة جعل الفتوء والفتور أخوين أي متلازمين لا أنه بمعناه فإن الذي بمعنى فتر وسكن هو فثأ بالمثلثة كما في "الصحاح" من فثأت القدر إذا سكن غليانها والرجل إذا سكن غضبه، ومن هنا خطأ أبو حيان ابن مالك فيما زعمه وادعى أنه من التصحيف. وتعقب بأن الأمر ليس كما قاله فإن ابن مالك نقله عن الفراء وقد صرح به السرقسطى ولا يمتنع اتفاق مادتين في معنى وهو كثير، وقد جمع ذلك ابن مالك في كتاب سماه ـ "ما اختلف إعجامه واتفق إفهامه" ـ ونقله عنه صاحب "القاموس". واستدل بالآية على جواز الحلف بغلبة الظن، وقيل: إنهم علموا ذلك منه ولكنهم نزلوه منزلة المنكر فلذا أكدوه بالقسم أي نقسم بالله تعالى لا تزال ذاكر يوسف متفجعاً عليه.

{ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً } مريضاً مشفياً على الهلاك، وقيل: الحرض من أذابه هم أو مرض وجعله مهزولاً نحيفاً، وهو في الأصل مصدر حرض فهو حرض بكسر الراء، وجاء أحرضني كما في قوله:

إني أمرؤ لج بـي حب فأحرضني حتى بليت وحتى شفني السقم

ولكونه كذلك في الأصل لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع لأن المصدر يطلق على القليل والكثير، وقال ابن إسحٰق: الحرض الفاسد الذي لا عقل له. وقرىء { حرضاً } بفتح الحاء وكسر الراء. وقرأ الحسن البصري { حرضاً } بضمتين ونحوه من الصفات رجل جنب وغرب { أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ } أي الميتين، و { أو } قيل: يحتمل أن تكون بمعنى بل أو بمعنى إلى، فلا يرد عليه أن حق هذا التقديم على { حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً } فإن كانت للترديد فهي لمنع الخلو والتقديم على ترتيب الوجود كما قيل في قوله تعالى: { { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [البقرة: 255] أو لأنه أكثر وقوعاً.