خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَهُ دَعْوَةُ ٱلْحَقِّ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ
١٤
-الرعد

روح المعاني

.

{ لَهُ } أي لله تعالى { دَعْوَةُ ٱلْحَقّ } أي الدعاء والتضرع الثابت الواقع في محله المجاب عند وقوعه، والإضافة للإيذان بملابسة الدعوة للحق واختصاصها به وكونها بمعزل من شائبة البطلان والضلال والضياع كما يقال: كلمة الحق؛ والمراد أن إجابة ذلك له تعالى دون غيره، ويؤيده ما بعد كما لا يخفى وقيل: المراد بدعوة الحق الدعاء عند الخوف فإنه لا يدعى فيه إلا الله تعالى كما قال سبحانه: { { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } [الإسراء: 67] وزعم الماوردي أن هذا أشبه بسياق الآية، وقيل: الدعوة بمعنى الدعاء أي طلب الإقبال، والمراد به العبادة للاشتمال، والإضافة على طرز ما تقدم، وبعضهم يقول: إن هذه الإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة والكلام فيها شهير، وحاصل المعنى أن الذي يحق أن يعبد هو الله تعالى دون غيره.

ويفهم من كلام البعض ـ على ما قيل ـ أن الدعوة بمعنى الدعاء ومتعلقها محذوف أي للعبادة، والمعنى أنه الذي يحق أن يدعى إلى عبادته دون غيره، ولا يخفى ما بين المعنيين من التلازم فإنه إذا كانت الدعوة إلى عبادته سبحانه حقاً كانت عبادته جل شأنه حقاً وبالعكس، وعن الحسن أن المراد من الحق هو الله تعالى، وهو ـ كما في «البحر» ـ ثاني الوجهين اللذين ذكرهما الزمخشري، والمعنى عليه كما قال: له دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب، والأول ما أشرنا إليه أولاً وجعل الحق فيه مقابل الباطل.

وبين صاحب "الكشف" حاصل الوجهين بأن الكلام مسوق لاختصاصه سبحانه بأن يدعى ويعبد رداً لمن يجادل في الله تعالى ويشرك به سبحانه الأنداد ولا بد من أن يكون في الإضافة إشعار بهذا الاختصاص، فإن جعل الحق في مقابل الباطل فهو ظاهر، وإن جعل اسماً من أسمائه تعالى كان الأصل لله دعوته تأكيداً للاختصاص من اللام والإضافة ثم زيد ذلك بإقامة الظاهر مقام المضمر معاداً بوصف ينبـىء عن اختصاصها به أشد الاختصاص فقيل: له دعوة المدعو الحق والحق من أسمائه سبحانه يدل على أنه الثابت بالحقيقة وما سواه باطل من حيث هو وحق بتحقيقه تعالى إياه فيتقيد بحسب كل مقام للدلالة على أن مقابله لا حقيقة له، وإذا كان المدعو من دونه بطلانه لعدم الاستجابة فهو الحق الذي يسمع فيجيب انتهى.

وبهذا سقط ما قاله أبو حيان في الاعتراض على الوجه الثاني من أن مآله إلى الله دعوة الله وهو نظير قولك: لزيد دعوة زيد ولا يصح ذلك، واستغنى عما قال العلامة الطيبـي/ في تأويله: من أن المعنى ولله تعالى الدعوة التي تليق أن تنسب وتضاف إلى حضرته جل شأنه لكونه تعالى سميعاً بصيراً كريماً لا يخيب سائله فيجيب الدعاء فإن ذلك كما ترى قليل الجدوى. ويعلم مما في «الكشف» وجه تعلق هذه الجملة بما تقدم، وقال بعضهم: وجه تعلق هذه والجملة التي قبلها أعني قوله تعالى: { { وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ } [الرعد:13] إن كان سبب النزول قصة أربد وعامر أن إهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من الله تعالى وإجابة لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "اللهم احبسهما عني بما شئت" أو دلالة على رسوله صلى الله عليه وسلم على الحق، وإن لم يكن سبب النزول ذلك فالوجه أن ذلك وعيد للكفرة على مجادلتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بحلول محاله بهم وتهديدهم بإجابة دعائه عليه الصلاة والسلام أن دعا عليهم أو بيان ضلالتهم وفساد رأيهم في عبادة غير الله تعالى، ويعلم مما ذكر وجه التعلق على بعض التفاسير إذا قلنا: إن سبب النزول قصة اليهودي أو الجبار فتأمل.

{ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ } أي الأصنام الذين يدعونهم أي المشركون، وحذف عائد الموصول في مثل ذلك كثير، وجوز أن يكون الموصول عبارة عن المشركين وضمير الجمع المرفوع عائد إليه ومفعول { يَدعون } محذوف أي الأصنام وحذف لدلالة قوله تعالى: { مِن دُونِهِ } عليه لأن معناه متجاوزين له وتجاوزه إنما هو بعبادتها ويؤيد الوجه الأول قراءة البزدوي عن أبـي عمرو { تَدْعُونَ } بتاء الخطاب، وضمير { لا يَسْتَجيبونَ } عليه عائد على { ٱلَّذِينَ } وعلى الثاني عائد على مفعول { يَدعُونَ } وعلى كل فالمراد لا يستجيب الأصنام { لَهُمْ } أي للمشركين { بِشَىْء } من طلباتهم { إِلاَّ كَبَـٰسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ٱلْمَاء } أي لا يستجيبون شيئاً من الاستجابة وطرفاً منها إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد يطلبه ويدعوه { لِيَبْلُغَ } أي الماء بنفسه من غير أن يؤخذ بشيء من إناء ونحوه { فَاهُ وَمَا هُوَ } أي الماء { بِبَالِغِهِ } أي ببالغ فيه أبداً لكونه جماداً لا يشعر بعطشه وبسط يديه إليه، وجوز أبو حيان كون { هُوَ } ضمير الفم والهاء في { بالغه } ضمير الماء أي وما فوه ببالغ الماء لأن كلاً منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحال.

وجوز بعضهم كون الأول ضمير { بَـٰسِط } والثاني ضمير «الماء» قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون الأول عائداً على «باسط» والثاني عائداً على الفم لأن اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له لزم إبراز الفاعل فكان يجب على ذلك أن يقال: وما هو ببالغه الماء، والجمهور على ما سمعت أولاً، والغرض ـ كما قال بعض المدققين ـ نفي الاستجابة على البت بتصوير أنهم أحوج ما يكونون إليها لتحصيل مباغيهم أخيب ما يكون أحد في سعيه لما هو مضطر إليه، والحاصل أنه شبه آلهتهم حين استكفائهم إياهم ما أهمهم بلسان الاضطرار في عدم الشعور فضلاً عن الاستطاعة للاستجابة وبقائهم لذلك في الخسار بحال ماء بمرأى من عطشان باسط كفيه إليه يناديه عبارة وإشارة فهو لذلك في زيادة الكباد والبوار، والتشبيه على هذا من المركب التمثيلي في الأصل أبرز في معرض التهكم حيث أثبت أنهما استجابتان زيادة في التخسير والتحسير، فالاستثناء مفرغ من أعم عام المصدر كما أشرنا إليه، والظاهر أن الاستجابة هناك مصدر من المبنى للفاعل وهو الذي يقتضيه الفعل الظاهر، وجوز أن يكون من المبني للمفعول ويضاف إلى الباسط بناءاً على استلزام المصدر من المبني للفاعل للمصدر من المبني/ للمفعول وجوداً وعدماً فكأنه قيل: لا يستجيبون لهم بشيء فلا يستجاب لهم استجابة كائنة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء كما في قول الفرزدق:

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحت أو مجلف

أي لم يدع فلم يبق إلا مسحت أو مجلف. وأبو البقاء يجعل الاستجابة مصدر المبني للمفعول وإضافته إلى { بَـٰسِط } من باب إضافة المصدر إلى مفعوله كما في قوله تعالى: { { لاَّ يَسْـئَمُ ٱلإِنْسَـٰنُ مِن دُعَاء ٱلْخَيْرِ } [فصلت: 49] والفاعل ضمير { ٱلْمَاء } على الوجه الثاني في الموصول، وقد يراد من بسط الكفين إلى الماء بسطهما أي نشر أصابيعهما ومدها لشربه لا للدعاء، والإشارة إليه كما أشرنا إليه فيما تقدم، وعلى هذا قيل: شبه الداعون لغير الله تعالى بمن أراد أن يغرف الماء بيديه فبسطهما ناشراً أصابعه في أنهما لا يحصلان على طائل، وجعل بعضهم وجه الشبه قلة الجدوى، ولعله أراد عدمها لكنه بالغ بذكر القلة وإرادة العدم دلالة على هضم الحق وإيثار الصدق ولإشمام طرف من التهكم، والتشبيه على هذا من تشبيه المفرد المقيد كقولك لمن لا يحصل من سعيه على شيء: هو كالراقم على الماء؛ فإن المشبه هو الساعي مقيداً بكون سعيه كذلك والمشبه به هو الراقم مقيداً بكونه على الماء كذلك فيما نحن فيه، وليس من المركب العقلي في شيء على ما توهم. نعم وجه الشبه عقلي اعتباري والاستثناء مفرغ عن أعم عام الأحوال أي لا يستجيب الآلهة لهؤلاء الكفرة الداعين إلا مشبهين أعني الداعين بمن بسط كفيه ولم يقبضهما وأخرجهما كذلك فلم يحصل على شيء لأن الماء يحصل بالقبض لا بالبسط. وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أن ذلك تشبيه بعطشان على شفير بئر بلا رشاء ولا يبلغ قعر البئر ولا الماء يرتفع إليه، وهو راجع إلى الوجه الأول وليس مغايراً له كما قيل، وعن أبـي عبيدة أن ذلك تشبيه بالقابض على الماء في أنه لا يحصل على شيء، ثم قال: والعرب تضرب المثل في الساعي فيما لا يدركه بذلك، وأنشد قول الشاعر:

فأصبحت فيما كان بيني وبينها من الود مثل القابض الماء باليد

وقوله:

وإني وإياكم وشوقاً إليكم كقابض ماء لم تسعه أنامله

وهو راجع إلى الوجه الثاني خلا أنه لا يظهر من { بَـٰسِط } معنى قابض فإن بسط الكف ظاهر في نشر الأصابيع ممدودة كما في قوله:

تعود بسط الكف حتى لو أنه أراد انقباضاً لم تطعه أنامله

وكيفما كان فالمراد ـ بباسط ـ شخص باسط أي شخص كان، وما يقتضيه ظاهر ما روي عن بكير بن معروف من أنه قابيل حيث أنه لما قتل أخاه جعل الله تعالى عذابه أن أخذ بناصيته في البحر ليس بينه وبين الماء إلا إصبع فهو يريده ولا يناله مما لا ينبغي أن يعول عليه. وقرىء { كباسط كفيه } بالتنوين أي كشخص يبسط كفيه.

{ وَمَا دُعَاء ٱلْكَـٰفِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَـٰلٍ } أي في ضياع وخسار وباطل، والمراد بهذا الدعاء إن كان دعاء آلهتهم فظاهر أنه كذلك لكنه فهم من السابق وحينئذٍ يكون مكرراً للتأكيد، وإن كان دعاءهم الله تعالى فقد استشكلوا ذلك بأن دعاء الكافرين قد يستجاب وهو المصرح به في الفتاوى، واستجابة دعاء إبليس وهو رأس الكافر/ نص في ذلك. وأجيب بأن المراد دعاؤهم الله تعالى بما يتعلق بالآخرة، وعلى هذا يحمل ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن أصوات الكفار محجوبة عن الله تعالى فلا يسمع دعاؤهم، وقيل: يجوز أن يراد دعاؤهم مطلقاً ولا يقيد بما أجيبوا به.