خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ سُوۤءُ ٱلْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ
١٨
-الرعد

روح المعاني

{ لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ } إذ دعاهم إلى الحق بفنون الدعوة التي من جملتها ضرب الأمثال فإن له لما فيه من تصوير المعقول بصورة المحسوس تأثيراً بليغاً في تسخير/ النفوس، والجار والمجرور خبر مقدم، وقوله سبحانه: { ٱلْحُسْنَىٰ } أي المثوبة الحسنى وهي الجنة كما قال قتادة وغيره، وعن مجاهد الحياة الحسنى أي الطيبة التي لا يشوبها كدر أصلاً. وعن ابن عباس أن المراد جزاء الكلمة الحسنى وهي لا إله إلا الله وفيه من البعد ما لا يخفى مبتدأ مؤخر { وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ } سبحانه وعاندوا الحق الجلي { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى ٱلأَرْضِ } من أصناف الأموال { جَمِيعاً } بحيث لم يشذ منه شاذ في أقطارها أو مجموعاً غير متفرق بحسب الأزمان { وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } أي بالمذكور مما في الأرض ومثله معه جميعاً ليتخلصوا عما بهم، وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان، والموصول مبتدأ والجملة الشرطية خبره وهي على ما قيل واقعة موقع السوأى المقابلة للحسنى الواقعة في القرينة الأولى فكأنه قيل: وللذين لم يستجيبوا له السوأى. وتعقب بأن الشرطية وان دلت على سوء حالهم لكنها بمعزل عن القيام مقام لفظ السوأى مصحوباً باللام الجارة الداخلة على الموصول أو ضميره وعليه يدور حصول المرام؛ فالذي ينبغي أن يعول عليه أن الواقع في تلك المقابلة سوء الحساب في قوله تعالى:

{ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوء ٱلْحِسَـٰبِ } وحيث كان اسم الإشارة الواقع مبتدأ في هذه الجملة عبارة عن الموصول الواقع مبتدأ في الجملة السابقة كان خبره أعني الجملة الظرفية خبراً عن الموصول في الحقيقة ومبيناً لإبهام مضمون الشرطية الواقعة خبراً عنه أولا ولذلك ترك العطف فكأنه قيل: والذين لم يستجيبوا له لهم سوء الحساب وذلك في قوة أن يقال: وللذين لم يستجيبوا له سوء الحساب مع زيادة تأكيد فتم حسن المقابلة على أبلغ وجه وآكده. واعتذر بأنه يمكن أن يكون المراد أن { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } إلى آخر الآية واقع موقع ذلك على معنى أن رعاية حسن المقابلة لقوله تعالى: { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ } تقتضي أن يقال: وللذين لم يستجيبوا له السوأى ولا يزاد على ذلك لكنه جيء بقوله سبحانه: { لَوْ أَنَّ لَهُمْ } الخ بدل ما ذكر، ولعل في كلام الطيبـي ما يستأنس به لذلك. وإلى اعتبار السوأى في المقابلة ذهب أيضاً صاحب "الكشف" قال: إن قوله تعالى: { لَوْ أَنَّ لَهُمْ } في مقابلة الحسنى بدل السوأى مع زيادة تصوير وتحسير، وأوثر الإِجمال في الأول دلالة على أن جزاء المستجيبين لا يدخل تحت الوصف فتدبر، والمراد بسوء الحساب أي الحساب السيء على ما روي عن إبراهيم النخعي والحسن أن يحاسبوا بذنوبهم كلها لا يغفر لهم منها شيء وهو المعنى بالمناقشة. وعن ابن عباس هو أن يحاسبوا فلا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيآتهم { وَمَأْوَاهُمُ } أي مرجعهم { جَهَنَّم } بيان لمؤدى ما تقدم وفيه نوع تأييد لتفسير الحسنى بالجنة { وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } أي المستقر، والمخصوص بالذم محذوف أي مهادهم أو جهنم.

وقال الزمخشري: اللام في قوله تعالى: { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ } متعلقة بـ { { يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } [الرعد: 17] وقوله سبحانه: { ٱلْحُسْنَىٰ } صفة للمصدر أي استجابوا الاستجابة الحسنى، وقوله عز وجل: { وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ } معطوف على الموصول الأول، وقوله جل وعلا: { لَوْ أَنَّ لَهُمْ } الخ كلام مستأنف مسوق لبيان ما أعد لغير المستجيبين من العذاب، والمعنى كذلك يضرب الله تعالى الأمثال للمؤمنين المستجيبين والكافرين المعاندين أي هما مثلا الفريقين انتهى، قال أبو حيان: والتفسير الأول أولى لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين، والله تعالى قد ضرب أمثالاً كثيرة في هذين وفي غيرهما ولأن فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف هذا ولأن تقدير الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة ومقابلها ليس نفي الاستجابة مطلقاً وإنما/ هو نفى الاستجابة الحسنى والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقاً ولأنه حينئذ يكون { لَوْ أَنَّ لَهُمْ } الخ كلاماً مفلتاً أو كالمفلت إذ يصير المعنى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين لو أن لهم الخ، ولو كان هناك حرف يربط { لَوْ } بما قبلها زال التفلت، وأيضاً أنه يوهم الإشتراك في الضمير وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً: وتعقب بأنه لا كلام في أولوية التفسير الأول لكن كون ما ذكر وجهاً لها محل كلام إذ لا مقتضى في التفسير الثاني لتقييد الأمثال عموماً بمثل هذين، ألا ترى قوله تعالى: { كَذٰلِكَ } ثم إن فيه تفهيم ثواب المستجيبين أيضاً ألا يرى إلى القصر المستفاد من تقديم الظرف، وأيضاً قوله تعالى: { ٱلْحُسْنَىٰ } صفة كاشفة لا مفهوم لها فإن الاستجابة لله تعالى لا تكون إلا حسنى وكيف يكون قوله سبحانه: { لَوْ أَنَّ لَهُمْ } الخ مفلتاً وقد قالوا: إنه كلام مبتدأ لبيان حال المستجيبين يعنون أنه استئناف بياني جواب للسؤال عن مآل حالهم ثم كيف يتوهم الإشتراك مع كون تخصيصه بالكافرين معلوماً انتهى.

قال بعض المحققين: إن ما ذكر متوجه بحسب بادىء الرأي والنظرة الأولى أما إذا نظر بعين الانصاف بعد تسليم أن ذاك أولى وأقوى علم أن ما قاله أبو حيان وارد فإن قوله تعالى: { كَذٰلِكَ } يقتضي أن هذا شأنه وعادته عز شأنه في ضرب الأمثال فيقتضي أن ما جرت به العادة القرآنية مقيد بهؤلاء وليس كذلك، وما ذكره المتعقب ولو سلم فهو خلاف الظاهر. وأما قوله: إن المستجيبين معلوم مما ذكره ففرق بين العلم ضمناً والعلم صراحة، وأما أن الصفة مؤكدة أو لا مفهوم لها فخلاف الأصل أيضاً، وكون الجملة غير مرتبطة بما قبلها ظاهر، والسؤال عن حال أحد الفريقين مع ذكرهما ملبس، وعود الضمير على ما قبله مطلقاً هو المتبادر وما ذكر لا يدفع الإيهام.

وفي "إرشاد العقل السليم" بعد نقل التفسير الأخير وحمل الأمثال فيه على الأمثال السابقة: ((وأنت خبير بأن عنوان الاستجابة وعدمها لا مناسبة بينه وبين ما يدور عليه أمر التمثيل وأن الاستعمال المستفيض دخول اللام على من يقصد تذكيره بالمثل. نعم قد يستعمل في هذا المعنى أيضاً كما في قوله تعالى: { { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لّلَّذِينَ آَمَنوا ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ } [التحريم: 11] ونظائره، على أن بعض الأمثال المضروبة لا سيما المثل الأخير الموصول بالكلام ليس مثل الفريقين بل مثل للحق والباطل ولا مساغ لجعل الفريقين مضروباً لهم أيضاً بأن يجعل في حكم أن يقال: كذلك يضرب الله الأمثال للناس إذ لا وجه حينئذ لتنويعهم إلى المستجيبين وغير المستجيبين))؛ ويؤيد هذا ما في "الكشف" حيث قال: إن جعل { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ } من تتمة الأمثال لا من صلة { يَضْرِبُ } [الرعد: 17] متكلف لأنهما مثلا الحق والباطل بالاصالة ومن صلة { يَضْرِبُ } أبعد لأن الأمثال إنما ضربت لمن يعقل. ثم إن كون المراد بالأمثال الأمثال السابقة مبني على أن ما تقدم كان أمثالاً والمشهور أنه مثلان، نعم أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: هذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد، وبعد هذا كله لا شك في سلامة التفسير الأول من القيل والقال وإنه الذي يستدعيه النظم الجليل لأن تمام حسن الفاصلة أن تكون كاسمها ولهذا انحط قول امرىء القيس:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى بصبح وما الإصباح منك بأمثل

عن قول المتنبـي:

إذا كان مدحاً فالنسيب المقدم أكل فصيح قال شعراً متيم

وهو الذي فهمه السلف من الآية، ومن هنا كان أكثر الشيوخ يقفون على الأمثال ويبتدؤن بقوله تعالى: { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ } وقال صاحب "المرشد": إنه وقف تام والوقف على { ٱلْحُسْنَىٰ } حسن وكذا على { لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } / والعجب من الزمخشري كيف اختار خلاف ذلك مع وضوحه والله تعالى أعلم.

ومن باب الإشارة: { المر } أي الذات الأحدية واسمه العليم واسمه الأعظم ومظهره الذي هو الرحمة { تِلْكَ ءايَـٰتُ } علامات { { ٱلْكِتَـٰبِ } [الرعد: 1] الجامع الذي هو الوجود المطلق { ٱللَّهُ ٱلَّذِى رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } أي بغير عمد مرئية بل بعمد غير مرئية، وجعل الشيخ الأكبر قدس سره عمادها الإنسان الكامل، وقيل: النفس المجردة التي تحركها بواسطة النفس المنطبعة وهي قوة جسمانية سارية في جميع أجزاء الفلك لا يختص بها جزء دون جزء لبساطته وهي بمنزلة الخيال فينا وفيه ما فيه، وقيل: رفع سمٰوات الأرواح بلا مادة تعمدها بل مجردة قائمة بنفسها { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } بالتأثير والتقويم، وقيل: عرش القلب بالتجلي { وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ } شمس الروح بإدراك المعارف الكلية واستشراف الأنوار العالية { وَٱلْقَمَرَ } قمر القلب بإدراك ما في العالمين والاستمداد من فوق ومن تحت ثم قبول تجليات الصفات { كُـلٌّ يَجْرِى لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى } وهو كماله بحسب الفطرة { يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ } في البداية بتهيئة الاستعداد وترتيب المبادي { يُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ } في النهاية بترتيب الكمالات والمقامات { لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ } عند مشاهدة آيات التجليات { { تُوقِنُونَ } [الرعد: 2] عين اليقين. وقال ابن عطاء: يدبر الأمر بالقضاء السابق ويفصل الآيات بأحكام الظاهر لعلكم توقنون أن الله تعالى الذي يجري تلك الأحوال لا بد لكم من الرجوع إليه سبحانه { وَهُوَ ٱلَّذِى مَدَّ ٱلأَرْضَ } أي أرض قلوب أوليائه ببسط أنوار المحبة { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ } المعرفة لئلا تتزلزل بغلبة هيجان المواجيد وجعل فيها { أَنْهَاراً } من علوم الحقائق { وَمِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } وهي ثمرات أشجار الحكم المتنوعة { يُغْشِي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ } تجلي الجلال وتجلي الجمال { { إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الرعد: 3] في آيات الله تعالى، قال أبو عثمان: الفكر إراحة القلب من وساوس التدبير، وقيل: تصفيته لوارد الفوائد، وقيل: الإشارة في ذلك إلى مد أرض الجسد وجعل رواسي العظام فيها وأنهار العروق وثمرات الأخلاق من الجود والبخل والفجور والعفة والجبن والشجاعة والظلم والعدل وأمثالها والسواد والبياض والحرارة والبرودة والملاسة والخشونة ونحوها، وتغشية ليل ظلمة الجسمانيات نهار الروحانيات وفي ذلك آيات لقوم يتفكرون في صنع الله تعالى وتطابق عالميه الأصغر والأكبر { وَفِى ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَـٰوِرٰتٌ } فقلوب المحبين مجاورة لقلوب المشتاقين وهي لقلوب العاشقين وهي لقلوب الوالهين وهي لقلوب الهائمين وهي لقلوب العارفين وهي لقلوب الموحدين، وقيل: في أرض القلوب قطع متجاورات قطع النفوس وقطع الأرواح وقطع الأسرار وقطع العقول والأولى تنبت شوك الشهوات والثانية زهر المعارف والثالثة نبات كواشف الأنوار والرابعة أشجار نور العلم { و } فيها { جَنَّـٰتٌ مّن أَعْنَـٰبٍ } أي أعناب العشق { وَزَرْعٌ } أي زرع دقائق المعرفة { وَنَخِيلٌ } أي نخل الإيمان { صِنْوٰنٌ } في مقام الفرق { وَغَيْرُ صِنْوٰنٍ } في مقام الجمع، وقيل: صنوان إيمان مع شهود وغير صنوان إيمان بدونه { يُسْقَىٰ بِمَاء وٰحِدٍ } وهو التجلي الذي يقتضيه الجود المطلق { { وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِى ٱلأُكُلِ } [الرعد: 4] في الطعم الروحاني، وقيل: أشير أيضاً إلى أن في أرض الجسد قطعاً متجاورات من العظم واللحم والشحم والعصب وجنات من أشجار القوى الطبيعية والحيوانية والإنسانية من أعناب القوى الشهوانية التي يعصر منها هوى النفس والقوى العقلية التي يعصر منها خمر المحبة والعشق وزرع القوى الإنسانية ونخيل سائر الحواس الظاهرة والباطنة صنوان كالعينين والأذنين وغير صنوان كاللسان وآلة الفكر والوهم يسقى بماء واحد وهو ماء الحياة ونفضل بعضها على بعض في أكل الإدراكات/ والملكات كتفضيل مدركات العقل على الحس والبصر على اللمس وملكة الحكمة على العفة وهكذا { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } بعد ظهور الآيات { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } ولم يعلموا أن القادر على ذلك قادر على أن يحيـي الموتى. وقيل: إن منشأ التعجب أنهم أنكروا الخلق الجديد يوم القيامة مع أن الإنسان في كل ساعة في خلق آخر جديد بل العالم بأمره في كل لحظة يتجدد بتبدل الهيآت والأحوال والأوضاع والصور، وإلى كون العالم كل لحظة في خلق جديد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره فعنده الجوهر وكذا العرض لا يبقى زمانين كما أن العرض عند الأشعري كذلك، وهذا عند الشيخ قدس سره مبني على أن الجواهر والأَعراض كلها شؤنه تعالى عما يقوله الظالمون علواً كبيراً وهو سبحانه كل يوم أي وقت في شأن، وأكثر الناس ينكرون على الأشعري قوله بتجدد الأعراض، والشيخ قدس سره زاد في الشطرنج جملاً ولا يكاد يدرك ما يقوله بالدليل بل هو موقوف على الكشف والشهود، وقد اغتر كثير من الناس بظاهر كلامه فاعتقدوه من غير تدبر فضلوا وأضلوا { أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } فلم يعرفوا عظمته سبحانه { وَأُوْلَـٰئِكَ ٱلأَغْلَـٰلُ فِى أَعْنَـٰقِهِمْ } فلا يقدرون أن يرفعوا رؤوسهم المنتكسة إلى النظر في الآيات { { وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } [الرعد: 5] لعظم ما أتوا به { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ } بمناسبة استعدادهم للشر { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلَـٰتُ } عقوبة أمثالهم { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } أنفسهم باكتساب الأمور الحاجبة لهم عن النور ولم ترسخ فيهم { { وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } [الرعد: 6] لمن رسخت فيه { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } لعمى بصائرهم عن مشاهدة الآيات الشاهدة بالنبوة { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ } تشهد له صلى الله عليه وسلم بذلك { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِر } ما عليك إلا إنذارهم لا هدايتهم { { وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ } [الرعد: 7] هو الله تعالى، وقيل: لكل طائفة شيخ يعرفهم طريق الحق { ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ } فيعلم ما تحمل أنثى النفس من ولد الكمال أي ما في قوة كل استعداد { وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ } أي تنقص أرحام الاستعداد بترك النفس وهواها { وَمَا تَزْدَادُ } بالتزكية وبركة الصحبة { وَكُلُّ شىْء } من الكمالات { عِندَهُ } سبحانه { { بِمِقْدَارٍ } [الرعد: 8] معين على حسب القابلية { سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ } في مكمن استعداده { وَمَنْ جَهَرَ بِهِ } بإبرازه إلى الفعل { وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلَّيلِ } ظلمة ظلمه نفسه { { وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ } [الرعد: 10] بخروجه من مقام النفس وذهابه في نهار نور الروح { لَهُ مُعَقّبَـٰتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } إشارة إلى سوابق الرحمة الحافظة له من خاطفات الغضب أو الإمدادات الملكوتية الحافظة له من جن القوى الخيالية والوهمية والسبعية والبهيمية وإهلاكها أياه { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ } من النعم الظاهرة أو الباطنة { حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } من الاستعداد وقوة القبول؛ قال النصر أبادي: إن هذا الحكم عام لكن مناقشة الخواص فوق مناقشة العوام، وعن بعض السلف أنه قال: إن الفأرة مزقت خُفِّي وما أعلم ذلك إلا بذنب أحدثته وإلا لما سلطها عليَّ وتمثل بقول الشاعر:

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

{ { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } [الرعد: 11] إذ الكل تحت قهره سبحانه، قال القاسم: إذا أراد الله تعالى هلاك قوم حسن موارده في أعينهم حتى يمشون إليها بتدبيرهم وأرجلهم، ولله تعالى در من قال:

إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجنى عليه اجتهاده

/ { هُوَ ٱلَّذِى يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ } أي برق لوامع الأنوار القدسية { خَوْفًا } خائفين من سرعة انقضائه أو بطء رجوعه { وَطَمَعًا } طامعين في ثباته أو سرعة رجوعه { { وَيُنْشِىء ٱلسَّحَابَ ٱلثّقَالَ } [الرعد: 12] بماء العلم والمعرفة، وقيل: يري المحبين برق المكاشفة وينشيء للعارفين سحاب العظمة الثقال بماء الهيبة فيمطر عليهم ما يحييهم به الحياة التي لا تشبهها حياة، وأنشدوا للشبلي:

أظلت علينا منك يوماً غمامة أضاءت لنا رقاً وأبطا رشاشها
فلا غيمها يصحو فييأس طامع ولا غيثها يأتي فيروي عطاشها

وعن بعضهم أن البرق إشارة إلى التجليات البرقية التي تحصل لأرباب الأحوال وأشهر التجليات في تشبيهه بالبرق التجلي الذاتي، وأنشدوا:

ما كان ما أوليت من وصلنا إلا سراجاً لاح ثم انطفى

وذكر الإمام الرباني قدس سره في "المكتوبات" أن التجلي الذاتي دائمي للكاملين من أهل الطريقة النقشبندية لا برقى وأطال الكلام في ذلك مخالفاً لكبار السادة الصوفية كالشيخ محيـى الدين قدس سره وغيره، والحق أن ما ذكره من التجلي الذاتي ليس هو الذي ذكروا أنه برقي كما لا يخفى على من راجع كلامه وكلامهم { وَيُسَبّحُ ٱلرَّعْدُ } أي رعد سطوة التجليات الجلالية ويمجد الله تعالى عما يتصوره العقل ملتبساً { بِحَمْدِهِ } وإثبات ما ينبغي له عز شأنه { وَٱلْمَلاۤئِكَةُ } وتسبح ملائكة القوى الروحانية { مِنْ خِيفَتِهِ } من هيبة جلاله جل جلاله { وَيُرْسِلُ ٱلصَّوٰعِقَ } هي صواعق السبحات الإلهية عند تجلي القهر الحقيقي المتضمن للطف الكلى { فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء } فيحرقه عن بقية نفسه، وفي الخبر "إن لله تعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" وقال ابن الزنجاني: الرعد صعقات الملائكة والبرق ذفرات أفئدتهم والمطر بكاؤهم، وجعل الزمخشري هذا من بدع المتصوفة، وكأني بك تقول: إن أكثر ما ذكر في باب الإشارة من هذا الكتاب من هذا القبيل. والجواب إنا لا ندعي إلا الإشارة وأما أن ذلك مدلول اللفظ أو مراد الله تعالى فمعاذ الله تعالى من أن يمر بفكري، واعتقاد ذلك هو الضلال البعيد والجهل الذي ليس عليه مزيد، وقد نص المحققون من الصوفية على أن معتقد ذلك كافر والعياذ بالله تعالى، ولعلك تقول: كان الأولى مع هذا ترك ذلك فنقول: قد ذكر مثله من هو خير منا والوجه في ذكره غير خفي عليك لو أنصفت { وَهُمْ يُجَـٰدِلُونَ فِى ٱللَّهِ } بالتفكر في ذاته والنظر للوقوف على حقيقة صفاته { وَهُوَ } سبحانه { شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ } [الرعد: 13] في دفع الأفكار والأنظار عن حرم ذاته وحمى صفاته جل جلاله:

هيهات أن تصطاد عنقاء البقا بلعابهن عناكب الأفكار

{ لَهُ دَعْوَةُ ٱلْحَقّ } أي الحقة الحقيقة بالإجابة لا لغيره سبحانه { وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ } الأصنام { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء إِلاَّ كَبَـٰسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ٱلْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ } أي إلا استجابة كاستجابة من ذكر لأن ما يدعونه بمعزل عن القدرة { وَمَا دُعَاء ٱلْكَـٰفِرِينَ } المحجوبين { { إِلاَّ فِى ضَلَـٰلٍ } [الرعد: 14] أي ضياع لأنهم لا يدعون الإله الحق وإنما يدعون إلهاً توهموه ونحتوه في خيالهم { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ } ينقاد { مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } من الحقائق والروحانيات { طَوْعًا وَكَرْهًا } شاؤا أم أبوا { وَظِلَـٰلُهُم } هياكلهم { { بِٱلْغُدُوّ وَٱلآصَالِ } [الرعد: 15] أي دائماً؛ وقيل: يسجد من في السمٰوات وهو الروح والعقل والقلب وسجودهم طوعاً ومن في الأرض النفس وقواها وسجودهم كرهاً. / وقيل: الساجدون طوعاً أهل الكشف والشهود والساجدون كرهاً أهل النظر والاستدلال { أَنزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَاء } من سماء روح القدس { مَاء } أي ماء العلم { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ } أي أودية القلوب { بِقَدَرِهَا } بقدر استعدادها { فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَدًا } من خبث صفات أرض النفس { رَّابِيًا } طافياً على ذلك { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى ٱلنَّارِ } نار العشق من المعارف والكشوف والحقائق والمعاني التي تهيج العشق { ٱبْتِغَاء حِلْيَةٍ } طلب زينة النفس لكونها كمالات لها { أَوْ مَتَـٰعٍ } من الفضال الخلقية التي تحصل بسببها فإنها مما تتمتع به النفس ما { زَبَدٌ } خبث { مّثْله } كالنظر إليها ورؤيتها والإعجاب بها وسائر ما يعد من آفات النفس { فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً } منفياً بالعلم { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ } من المعاني الحقة والفضائل الخالصة { { فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ } [الرعد: 17] أرض النفس، وقال بعضهم: أنه تعالى شبه ما ينزل من مياه بحار ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله إلى قلوب الموحدين والعارفين والمكاشفين والمريدين بما ينزل من السماء إلى الأودية، فكما تحمل الأودية حسب اختلافها ماء المطر تحمل تلك القلوب مياه هاتيك البحار حسب اختلاف حواصلها وأقدار استعداداتها في المحبة والمعرفة والتوحيد، وكما أن قطرات الأمطار تكون في الأودية سيلاً فيحتمل السيل زبداً وحثالة وما يكون مانعاً من الجريان يكون تواتر أنوار الحق سبحانه سيل المعارف والكشوفات فيسيل في أودية القلوب فيحتمل من أوصاف البشرية وما دون الحق الذي يمنع القلوب من رؤية الغيوب ما يحتمله فيذهب جفاء فتصير حينئذ مقدسة عن زبد الرياء والسمعة والنفاق والخواطر المذمومة وتبقى سائحة في أنوار الأزل والأبد بلا مانع من العرش إلى الثرى، وشبه سبحانه أعمال الظاهر والباطن وما ينفتح بمفاتيحها من الغيب بجواهر الأرض والفضة وغيرهما إذا أذيبا للانتفاع بهما وبين تعالى أن لهما زبداً مثل زبد السيل وأنه يذهب ويمكث أصلهما الصافي، فكذلك أعمال الظاهر والباطن تدخل في بودقة الإخلاص ويوقد عليهما نيران الامتحان فيذهب ما فيه حظ النفس ويبقى ما هو خالص لله تعالى، وهكذا الخواطر يبقى منها خاطر الحق ويضمحل سريعاً خاطر الباطل، وعن بعضهم القلوب أوعية وفيها أودية فقلب يسيل فيه ماء التوبة وقلب يسيل فيه ماء الرحمة وقلب يسيل فيه ماء الخوف وقلب يسيل فيه ماء الرجاء وقلب يسيل فيه ماء المعرفة وقلب يسيل فيه ماء الأُنس وكل ماء من هذه المياه ينبت في القلب نوعاً من القربة والقرب من الله عز وجل ومن القلوب ما حرم ذلك والعياذ بالله تعالى، وقال ابن عطية: روى عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: { أَنزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَاء مَآء } الخ يريد بالماء الشرع والدين وبالأودية القلوب ومعنى سيلانها بقدرها أخذ النبيل بحظه والبليد بحظه، ثم قال: وهذا قول لا يصح ـ والله تعالى أعلم ـ عن ابن عباس لأنه ينحو إلى قول أصحاب الرموز، وقد تمسك به الغزالي وأهل ذلك الطريق، وفيه إخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير داع إلى ذلك، وإن صح ذلك عن ابن عباس فيقال فيه: إنما قصد رضي الله تعالى عنه أن قوله تعالى: { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَـٰطِلَ } [الرعد: 17] معناه الحق الذي يتقرر في القلوب والباطل الذي يعتريها اهـ ونحن نقول: إن صح ذلك فمقصود الحبر منه الإشارة وإن كان يريد غير ظاهر فيه، وحجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة أشد الناس على أهل الرموز القائلين بأن الظاهر ليس مراد الله تعالى كما لا يخفى على متتبعي كلامه، وسمعت من بعض الناس أن أهل الكيمياء تكلموا في هذه الآية على ما يوافق غرضهم ولم أقف على ذلك { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ } بتصفية الاستعداد عن كدورات صفات النفس { ٱلْحُسْنَىٰ } المثوبة الحسنى وهو الكمال الفائض عليهم عند الصفاء { وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ } تعالى وبقوا/ في الرذائل البشرية والكدورات الطبيعية { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ } الجهة السفلية من الأموال والأسباب التي انجذبوا إليها بالمحبة فأهلكوا أنفسهم بها { وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } ما ينالهم من الحجاب والحرمان { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ سُوء ٱلْحِسَـٰبِ } لوقوفهم مع الأفعال في مقام النفس { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } الحرمان { وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } [الرعد: 18] جهنم والعياذ بالله تعالى ونسأله العفو والعافية.