خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

الۤر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ
١
-إبراهيم

روح المعاني

{ بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ الۤر } مر الكلام فيما يتعلق به { كِتَـٰبٌ } جوز فيه أن يكون خبراً ـ لألر ـ على تقدير كونه مبتدأ أو لمبتدأ مضمر على تقدير كونه خبراً لمبتدأ محذوف أو مفعولاً لفعل محذوف أو مسروداً على نمط التعديد، وجوز أن يكون خبراً ثانياً للمبتدأ الذي أخبر عنه ـ بألر ـ وأن يكون مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه موصوفاً في التقدير أي كتاب عظيم، وقوله تعالى: { أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ } إما في موضع الصفة أو الخبر وهو مع مبتدآته قيل في موضع التفسير، وفي إسناد الإنزال إلى ضمير العظمة ومخاطبته عليه الصلاة والسلام مع إسناد الإخراج إليه صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه: { لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ } ما لا يخفى من التفخيم والتعظيم، واللام متعلقة بأنزلناه، والمراد من الناس جميعهم أي أنزلناه إليك لتخرجهم كافة بما في تضاعيفه من البينات الواضحة المفصحة عن كونه من عند الله تعالى الكاشفة عن العقائد الحقة من عقائد الكفر والضلال وعبادة الله عز وجل من الآلهة المختلفة كالملائكة وخواص البشر والكواكب والأصنام التي كلها ظلمات محضة وجهالات صرفة إلى الحق المؤسس على التوحيد الذي هو نور بحت وقرىء { ليخرج الناس } بالياء التحتانية في { يخرج } ورفع { الناس } به.

{ بِإِذْنِ رَبّهِمْ } أي بتيسيره وتوفيقه تعالى وهو مستعار من الإذن الذي يوجب تسهيل الحجاب لمن يقصد الورود، ويجوز أن يكون مجازاً مرسلاً بعلاقة اللزوم، وقال محي السنة: إذنه تعالى أمره، وقيل: علمه سبحانه وقيل: إرادته جل شأنه وهي على ما قيل متقاربة، ومنع الإمام أن يراد بذلك الأمر أو العلم وعلله بما لا يخلو عن نظر. وفي الكلام على ما ذكر أولاً ثلاث استعارات. إحداها ما سمعت في الإذن والأخريان في { ٱلظُّلُمَـٰتِ } و { ٱلنُّورِ } وقد أشير إلى المراد منهما، وجوز العلامة الطيبـي أن تكون كلها استعارة مركبة تمثيلية بتصوير الهدى بالنور والضلال بالظلمة والمكلف المنغمس في ظلمة الكفر بحيث لا يتسهل له الخروج إلى نور الايمان إلا بتفضل الله تعالى بإرسال رسول بكتاب يسهل عليه ذلك كمن وقع في تيه مظلم ليس منه خلاص فبعث ملك توقيعاً لبعض خواصه في استخلاصه وضمن تسهيل ذلك على نفسه ثم استعمل هنا ما كان مستعملاً هناك فقيل: { كِتَابٌ أَنزَلْنَـٰهُ } إلى آخره، وكان الظاهر ـ بإذننا ـ إلا أنه وضع ذلك الظاهر موضع الضمير، وقيل: { رَّبِّهُمْ } للإشعار بالتربية واللطف والفضل وبأن الهداية لطف محض، وفيه أن الكتاب والرسول والدعوة لا تجدي دون إذن الله تعالى كما قال سبحانه: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء } [القصص: 56] اهـ، وما ذكره من الاستعارة التمثيلية مع بلاغته وحسنه لا يخلو عن بعد، وكأنه للإنباء عن كون التيسير والتوفيق منوطين بالإقبال إلى الحق كما يفصح عنه قوله تعالى: { { وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } [الرعد: 27] استعير لذلك الإذن الذي هو ما علمت، وأضيف إلى ضمير الناس اسم الرب المفصح عن التربية التي هي عبارة عن تبليغ الشيء إلى كماله المتوجه إليه، وشمول/ الإذن بذلك المعنى للكل واضح وعليه يدور كون الإنزال لإخراجهم جميعاً، وعدم تحقق الإذن بالفعل في بعضهم لعدم تحقق شرطه المستند إلى سوء اختيارهم ورداءة استعدادهم غير مخل بذلك، ومن هنا فساد قول الطبرسي: إن اللام لام الغرض لا لام العاقبة والإ لزام أن يكون جميع الناس مؤمنين والواقع بخلافه.

وذكر الإمام أن المعتزلة استدلوا بهذه الآية على أن أفعال الله تعالى تعلل برعاية المصالح، ثم ساق دليل أصحابه على امتناع ذلك وذكر أنه إذا ثبت الامتناع يلزم تأويل كل ما أشعر بخلافه، وتأويله بحمل اللام على لام العاقبة ونحوها، ونُقِلَ عن ابن القيم وغيره القول بالتعليل وأنه مذهب السلف وأن في الكتاب والسنة ما يزيد على عشرة آلاف موضع ظاهرة في ذلك وتأويل الجميع خروج عن الإنصاف، وليس الدليل على امتناع ذلك من المتانة على وجه يضطر معه إلى التأويل، وللشيخ إبراهيم الكوراني في بعض "رسائله" كلام نفيس في هذا الغرض سالم فيما أرى عن العلة إن أردته فارجع إليه، والباء متعلقة ـ بتخرج ـ على ما هو الظاهر، وجوز أن يكون متعلقاً بمضمر وقع حالاً من مفعوله أي ملتبسين بإذن ربهم، ومنهم من جوز كونه حالاً من فاعله أي ملتبساً بإذن ربهم. وتعقب بأنه يأباه إضافة الرب إليهم لا إليه صلى الله عليه وسلم. وردَّ بما رد فتأمل.

واستدل بالآية القائلون بأن معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم من الرسول صلى الله عليه وسلم حيث ذكر فيها أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي يخرج الناس من ظلمات الضلال إلى نور الهدى. وأجيب بأن الرسول عليه الصلاة والسلام كالمنبه وأما المعرفة فإنما تحصل من الدليل، واستدل بها أيضاً كل من المعتزلة وأهل السنة على مذهبه في أفعال العباد وتفصيل ذلك في "تفسير الإمام" [الرازي].

{ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما تقدم أعني قوله تعالى: { إِلَى ٱلنُّورِ } وقال غير واحد: إن { صِرٰطِ } بدل من { ٱلنُّورِ } وأعيد عامله وكرر لفظاً ليدل على البدلية كما في قوله تعالى: { { لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [الأعراف: 75] ولا يضر الفصل بين البدل والمبدل منه بما قبله لأنه غير أجنبـي إذ هو من معمولات العامل في المبدل منه على كل حال. واستشكل هذا مع الاستعارة السابقة بأن التعقيب بالبدل لا يتقاعد عن التعقيب بالبيان في مثل قوله تعالى: { { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ } [البقرة: 187] وأجيب بأن الصراط استعارة أخرى للهدى جعل نوراً أولاً لظهوره في نفسه واستضاءة الضلال في مهواة الهوى به، ثم جعل ثانياً جادة مسلوكة مأمونة لا كبنيات الطرق دلالة على تمام الإرشاد.

وفي "الإرشاد" ((أن إخلال البيان والبدل بالاستعارة إنما هو في الحقيقة لا في المجاز)) وهو ظاهر، وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقاً بمحذوف على أنه جواب سائل يسأل إلى أي نور؟ فقيل: { إِلَىٰ صِرٰطِ } إلى آخره، وإضافة الصراط إليه تعالى لأنه مقصده أو المبين له، وتخصيص الوصفين الجليلين بالذكر للترغيب في سلوكه إذ في ذلك إشارة إلى أنه يعز سالكه ويحمد سابله، وقال أبو حيان: النكتة في ذلك أنه لما ذكر قبل إنزاله تعالى لهذا الكتاب وإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة لإنزاله مثل هذا الكتاب المعجز الذي لا يقدر عليه سواه، وصفة الحمد لإنعامه بأعظم النعم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ووجه التقديم والتأخير على هذا ظاهر.

وقال الإمام: ((إنما قدم ذكر { ٱلْعَزِيزِ } على ذكر { ٱلْحَمِيدِ } لأن الصحيح أن أول العلم بالله تعالى العلم بكونه تعالى قادراً ثم بعد ذلك العلم بكونه عالماً ثم بعد ذلك العلم بكونه غنياً عن الحاجات، والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغني فلما كان العلم بكونه تعالى قادراً متقدماً على العلم بكونه عالماً بالكل غنياً عنه لا جرم قدم ذكر العزيز على ذكر/ الحميد)) اهـ ولم نر تفسير { ٱلْحَمِيدِ } بما ذكر لغيره، وفي "المواقف" و "شرح أسماء الله تعالى الحسنى" لحجة الإسلام الغزالي وغيرهما أن { ٱلْحَمِيدِ } هو المحمود المثنى عليه وهو سبحانه محمود بحمده لنفسه أزلاً وبحمد عباده له تعالى أبداً، وبين هذا وما ذكره الإمام بعد بعيد، وأما ما ذكره في { ٱلْعَزِيز } فهو قول لبعضهم؛ وقيل: هو الذي لا مثل له. وربما يقال على هذا: إن التقديم للاعتناء بالصفات السلبية كما يؤذن به قولهم: التخلية أولى من التحلية وكذا قوله تعالى: { { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [الشورى: 11] ولعل كلامه قدس سره بعد لا يخلو عن نظر.