خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِىۤ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ
٣٧
-إبراهيم

روح المعاني

{ رَبَّنَا } قال في «البحر» كرر النداء رغبة في الإجابة والالتجاء إليه تعالى، وأتى بضمير الجماعة لأنه تقدم ذكره عليه السلام وذكر بنيه في قوله: { { وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ } [إبراهيم: 35] وتعقب بأن ذلك يقتضي ضمير الجماعة في { { رَبّ إِنَّهُنَّ } [إبراهيم: 36] الخ مع أنه جيء فيه بضمير الواحد، فالوجه إن ذلك لأن الدعاء المصدر به وما هو بصدد تمهيد مبادىء إجابته من قوله: { إِنَّى أَسْكَنتُ } الخ متعلق بذريته، فالتعرض لوصف ربوبيته تعالى لهم أدخل في القبول وإجابة المسؤول، والتأكيد لمزيد الاعتناء فيما قصده من الخبر { وَمِنْ } في قوله { مِن ذُرّيَّتِى } بمعنى بعض وهي في تأويل المفعول به أي أسكنت بعض ذريتي، ويجوز أن يكون المفعول محذوفاً والجار والمجرور صفته سدت مسده أي أسكنت ذرية من ذريتي { وَمِنْ } تحتمل التبعيض والتبيين. وزعم بعضهم أن { مِنْ } زائدة على مذهب الأخفش لا يرتضيه سليم البصيرة كما لا يخفى، والمراد بالمسكن إسمٰعيل عليه السلام ومن سيولد له فإن إسكانه حيث كان على وجه الاطمئنان متضمن لإسكانهم، والداعي للتعميم على ما قيل قوله الآتي: { لِيُقِيمُواْ } الخ، ولا يخفى أن الإسكان له حقيقة ولأولاده مجاز، فمن لم يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز يرتكب لذلك عموم المجاز، وهذا الإسكان بعدما كان بينه عليه السلام وبين أهله ما كان. وذلك أن هاجر أم إسمٰعيل كانت أمة من القبط لسارة فوهبتها من إبراهيم عليه السلام فلما ولدت له إسمٰعيل غارت فلم تقاره على كونه معها فأخرجها وابنها إلى أرض مكة فوضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلا المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى منطلقاً فتبعته هاجر فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء قالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم قالت: إذن لا يضيعنا ثم رجعت، وانطلق عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت وكان إذ ذاك مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال: { رَبّ إِنّى أَسْكَنتُ - إِلَى - لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } ثم إنها جعلت ترضع ابنها وتشرب مما في السقاء حتى إذا نفد عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت/ عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر فهبطت حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزته ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحداً فلم تر ففعلت ذلك سبع مرات ولذلك سعى الناس بينهما سبعاً، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضاً فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتغرف منه في سقائها وهو يفور فشربت وأرضعت ولدها وقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن هٰهنا بيت الله تعالى يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله سبحانه لا يضيع أهله، ثم إنه مرت بهما رفقة من جرهم فرأوا طائراً عائفاً فقالوا: لا طير إلا على الماء فبعثوا رسولهم فنظر فإذا بالماء فأتاهم فقصدوه وأم إسماعيل عنده، فقالوا: أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت، فلما أدرك إسماعيل عليه السلام زوجوه أمرأة منهم وتمام القصة في كتب السير.

{ بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ } وهو وادي مكة شرفها الله تعالى، ووصفه بذلك دون غير مزروع للمبالغة لأن المعنى ليس صالحاً للزرع، ونظيره قوله تعالى: { { قُرْءاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } [الزمر: 28] وكان ذلك لحجريته، قال ابن عطية: وإنما لم يصفه عليه السلام بالخلو عن الماء مع أنه حاله إذ ذاك لأنه كان علم أن الله تعالى لا يضيع إسماعيل عليه السلام وأمه في ذلك الوادي وأنه سبحانه يرزقهما الماء فنظر عليه السلام النظر البعيد، وقال أبو حيان بعد نقله وقد يقال: إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء إذ لا يمكن أن يوجد زرع إلا حيث الماء فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء اهـ، وقال بعضهم: إن طلب الماء لم يكن مهماً له عليه السلام لما أن الوادي مظنة السيول والمحتاج للماء يدخر منها ما يكفيه وكان المهم له طلب الثمرات فوصف ذلك بكونه غير صالح للزرع بياناً لكمال الافتقار إلى المسؤول فتأمل.

{ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ } ظرف لأسكنت كقولك: صليت بمكة عند الركن، وزعم أبو البقاء أنه صفة واد أو بدل منه، واختار بعض الأجلة الأول إذ المقصود إظهار كون ذلك الإسكان مع فقدان مباديه لمحض التقرب إلى الله تعالى والالتجاء إلى جواره الكريم كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الحرمة المؤذن بعزة الملتجأ وعصمته عن المكاره، فإنهم قالوا: معنى كون البيت محرماً أن الله تعالى حرم التعرض له والتهاون به أو أنه لم يزل ممنعاً عزيزاً يهابه الجبابرة في كل عصر أو لأنه منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذا سمي عتيقاً على ما قيل، وأبعد من قال إنه سمي محرماً لأن الزائرين يحرمون على أنفسهم عند زيارته أشياء كانت حلالاً عليهم، وسماه عليه السلام بيتاً باعتبار ما كان فإنه كان مبنياً قبل، وقيل: باعتبار ما سيكون بعد وهو ينزع إلى اعتبار عنوان الحرمة كذلك.

{ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلٰوةَ } أي لأن يقيموا، فاللام جارة والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها، والجار والمجرور متعلق ـ بأسكنت ـ المذكور، وتكرير النداء وتوسيطه لإظهار كمال العناية بإقامة الصلاة فإنها عماد الدين ولذا خصها بالذكر من بين سائر شعائره، والمعنى على ما يقتضيه كلام غير واحد على الحصر أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع الخالي من كل مرتفق ومرتزق إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع مستسعدين بجوارك الكريم متقربين إليك بالعكوف عند بيتك والطواف به والركوع والسجود حوله مستنزلين رحمتك التي آثرت بها سكان حرمك. وهذا الحصر ـ على ما ذكروا ـ مستفاد من السياق فإنه عليه السلام لما قال: { بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ } نفى أن يكون/ إسكانهم للزراعة ولما قال: { عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ } أثبت أنه مكان عبادة فلما قال: { لِيُقِيمُواْ } أثبت أن الإقامة عنده عبادة وقد نفى كونها للكسب فجاء الحصر مع ما في { رَبَّنَا } من الإشارة إلى أن ذلك هو المقصود. وعن مالك أن التعليل يفيد الحصر، فقد استدل بقوله تعالى: { { لِتَرْكَبُوهَا } [النحل: 8] على حرمة أكلها وفي «الكشف» أن استفادة الحصر من تقدير محذوف مؤخر يتعلق به الجار والمجرور أي ليقوموا أسكنتهم هذا الإسكان، أخبر أولاً أنه أسكنهم، بواد قفر فأدمج فيه حاجتهم إلى الوافدين وذكر وجه الإيثار لشرف الجوار بقوله: { عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ } ثم صرَّح ثانياً بأنه إنما آثر ذلك ليعمروا حرمك المحرم وبنى عليه الدعاء الآتي، ومن الدليل على أنه غير متعلق بالمذكور تخلل { رَبَّنَا } ثانياً بين الفعل ومتعلقه وهذا بين ولا وجه لاستفادة ذلك من تكرار { رَبَّنَا } إلا من هذا الوجه اهـ، واختار بعضهم ما ذكرنا أولاً في وجه الاستفادة وقال: إنه معنى لطيف ولا ينافيه الفصل بالنداء لأنه اعتراض لتأكيد الأول وتذكيره فهو كالمنبه عليه فلا حاجة إلى تعلق الجار بمحذوف مؤخر واستفادة الحصر من ذلك، وهو الذي ينبغي أن يعول عليه، ويجعل النداء مؤكداً للأول يندفع ما قيل: إن النداء له صدر الكلام فلا يتعلق ما بعده بما قبله فلا بد من تقدير متعلق، ووجه الاندفاع ظاهر، وقيل: اللام لام الأمر والفعل مجزوم بها، والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة وسأل من الله تعالى أن يوفقهم لها ولا يخفى بعده، وأبعد منه ما قاله أبو الفرج بن الجوزي: إن اللام متعلقة بقوله: { { وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } [إبراهيم: 35] وفي قوله: { لِيُقِيمُواْ } بضمير الجمع على ما في «البحر» دلالة على أن الله تعالى أعلمه بأن ولده إسماعيل عليه السلام سيعقب هنالك ويكون له نسل.

{ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ٱلنَّاسِ } أي أفئدة من أفئدتهم { تَهْوِى إِلَيْهِمْ } أي تسرع إليهم شوقاً ووداداً ـ فمن ـ للتبعيض، ولذا قيل: لو قال عليه السلام: أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم، وهو مبني على الظاهر من إجابة دعائه عليه السلام وكون الجمع المضاف يفيد الاستغراق. وروى عن ابن جبير أنه قال: لو قال عليهم السلام: أفئدة الناس لحجت البيت اليهود والنصارى. وتعقب بأنه غير مناسب للمقام إذ المسؤول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم لا توجيهها إلى البيت للحج وإلا لقيل تهوى إليه فإنه عين الدعاء بالبلدية قد حكي بعبارة أخرى اهـ. وأنت تعلم أنه لا منافاة بين الشرطية في المروي وكون المسؤول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم، وقد جاء نحو تلك الشرطية عن ابن عباس، ومجاهد كما في «الدر المنثور» وغيره، على أن بعضهم جعل هذا دعاء بتوجيه القلوب إلى البيت. فقد أخرج ابن أبـي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبـي حاتم عن الحكم قال: سألت عكرمة وطاوساً وعطاء بن أبـي رباح عن هذه الآية { فَٱجْعَلْ } إلى آخره فقالوا: البيت تهوي إليه قلوبهم يأتونه، وفي لفظ قالوا: هواهم إلى مكة أن يحجوا؛ نعم هو خلاف الظاهر، وجوز أن تكون { مِنْ } للابتداء كما في قولك: القلب منه سقيم تريد قلبه فكأنه قيل: أفئدة ناس، واعترضه أبو حيان بأنه لا يظهر كونها للابتداء لأنه لا فعل هنا يبتدأ فيه لغاية ينتهي إليها إذ لا يصح ابتداء جعل أفئدة من الناس. وتعقبه بعض الأجلة بقوله: وفيه بحث فإن فعل الهوي للأفئدة يبتدأ به لغاية ينتهي إليها، ألا يرى إلى قوله: { إِلَيْهِمُ } وفيه تأمل اهـ وكأن فيه إشارة إلى ما قيل: من أن الابتداء في { مِنْ } الإبتدائية إنما هو من متعلقها لا مطلقاً، وإن جعلناها متعلقة ـ بتهوي ـ لا يظهر لتأخيره ولتوسيط الجار فائدة، وذكر مولانا الشهاب في توجيه الابتداء وترجيحه على التبعيض كلاماً لا يخلو/ عن بحث فقال: اعلم أنه قال في "الإيضاح" أنه قد يكون القصد إلى الابتداء دون أن يقصد انتهاء مخصوص إذ كان المعنى لا يقتضي إلا بالمبتدأ منه كأعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم، وزيد أفضل من عمرو. وقد قيل: إن جميع معاني { مِنْ } دائرة على الابتداء، والتبعيض هنا لا يظهر فيه فائدة كما في قوله: { { وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنّى } [مريم: 4] فإن كون قلب الشخص وعظمه بعضاً منه معنى مكشوف غير مقصود بالإفادة فلذا جعلت للابتداء والظرف مستقر للتفخيم كأن ميل القلب نشأ من جملته مع أن ميل جملة كل شخص من جهة قلبه كما أن سقم قلب العاشق نشأ منه مع أنه إذا صلح صلح البدن كله، وإلى هذا نحا المحققون من شراح «الكشاف» لكنه معنى غامض فتدبر.

والأفئدة مفعول أول ـ لاجعل ـ وهو جمع فؤاد وفسروه على ما في «البحر» وغيره بالقلب لكن يقال له فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفؤد أي التوقد، يقال: فأدت اللحم أي شويته ولحم فئيد أي مشوي، وقيل: الأفئة هنا القطع من الناس بلغة قريش وإليه ذهب ابن بحر، والمفعول الثاني جملة { تهوي } وأصل الهوي الهبوط بسرعة وفي كلام بعضهم السرعة، وكان حقه أن يعدى باللام كما في قوله:

حتى إذا ما هوت كف الوليد لها طارت وفي كفه من ريشها تبك

وإنما عدي بإلى لتضمينه معنى الميل كما في قوله:

تهوي إلى مكة تبغي الهدى ما مؤمن الجن كأنجاسها

ولما كان ما تقدم كالمبادي لإجابة دعائه عليه السلام وإعطاء مسؤوله جاء بالفاء في قوله: { فَٱجْعَلْ } إلى آخره وقرأ هشام { أفئيدة } بياء بعد الهمزة نص عليه الحلواني عنه، وخرج ذلك على الإشباع كما في قوله:

أعوذ بالله من العقراب الشائلات عقد الأذناب

ولما كان ذلك لا يكون إلا في ضرورة الشعر عند بعضهم قالوا: إن هشاماً قرأ بتسهيل الهمزة كالياء فعبر عنها الراوي بالياء فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة، والمراد بياء عوضاً من الهمزة. وتعقب ذلك الحافظ أبو عمرو الداني بأن النقلة عن هشام كانوا من أعلم الناس بالقراءة ووجوهها فهم أجل من أن يعتقد فيهم مثل ذلك. وقرىء { آفدة } على وزن ضاربة وفيه احتمالان. أحدهما: أن يكون قدمت فيه الهمزة على الفاء فاجتمع همزتان ثانيتهما: ساكنة فقلبت ألفاً فوزنه أعفلة كما قيل في أدور جمع دار قلبت فيه الواو المضمومة همزة ثم قدمت وقلبت ألفاً فصار آدر. وثانيهما: أنه اسم فاعل من أفد يأفد بمعنى قرب ودنا ويكون بمعنى عجل، وهو صفة لمحذوف أي جماعة أو جماعات آفدة. وقرىء { أفدة } بفتح الهمزة من غير مد وكسر الفاء بعدها دال، وهو إما صفة من أفد بوزن خشنة فيكون بمعنى آفدة في القراءة الأخرى أو أصله أفئدة فنقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها ثم طرحت وهو وجه مشهور عند الصرفيين والقراء. قال الأولون: إذا تحركت الهمزة بعد ساكن صحيح تبقى أو تنقل حركتها إلى ما قبلها وتحذف، ولا يجوز جعلها بين بين لما فيه من شبه التقاء الساكنين، وقال صاحب "النشر" من الآخرين: الهمزة المتحركة بعد حرف صحيح ساكن كمسؤلا وأفئدة وقرآن وظمآن فيها وجه واحد وهو النقل وحكي فيه وجه ثان وهو بين بين وهو ضعيف جداً وكذا قال غيره منهم، فما قيل: إن الوجه إخراجها بين بين ليس بالوجه. وقرأت أم الهيثم { أفودة } بالواو المكسورة بدل الهمزة، قال صاحب «اللوامح»: وهو جمع وفد، والقراءة حسنة لكني لا أعرف/ هذه المرأة بل ذكرها أبو حاتم اهـ. وقال أبو حيان: يحتمل أنه أبدل الهمزة في فؤاد ثم جمع وأقرت الواو في الجمع إقرارها في المفرد أو هو جمع وفد كما قال صاحب "اللوامح" وقلب إذ الأصل أوفدة، وجمع فعل على أفعلة شاذ نجد وأنجدة ووهى وأوهية، وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من لغات العرب. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما { إفادة } على وزن إمارة ويظهر أن الهمزة بدل من الواو المكسورة كما قالوا: إشاح في وشاح فالوزن فعالة أي فاجعل ذوي وفادة، ويجوز أن يكون مصدر أفاد إفادة أي ذوي إفادة وهم الناس الذين يفيدون وينتفع بهم. وقرأ مسلمة بن عبد الله { تهوي } بضم التاء مبنياً للمفعول من أهوى المنقول بهمزة التعدية من هوى اللازم كأنه قيل: يسرع بها إليهم. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وجماعة من أهله ومجاهد { تهوي } مضارع هوي بمعنى أحب، وعدي بإلى لما تقدم.

{ وَٱرْزُقْهُمْ } أي ذريتي الذين أسكنتهم هناك. وجوز أن يريدهم والذين ينحازون إليهم من الناس، وإنما لم يخص عليه السلام الدعاء بالمؤمنين منهم كما في قوله: { { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [البقرة: 126] اكتفاء ـ على ما قيل ـ بذكر إقامة الصلاة. { مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ } من أنواعها بأن تجعل بقربهم قرى يحصل فيها ذلك أو تجبى إليهم من الأقطار الشاسعة وقد حصل كلا الأمرين حتى أنه يجتمع في مكة المكرمة البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد. أخرج ابن جرير وابن أبـي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي أن الطائف كانت من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيم عليه السلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى ووضعها حيث وضعها رزقاً للحرم. وفي رواية أن جبريل عليه السلام اقتلعها فجاء وطاف بها حول البيت سبعاً ولذا سميت الطائف ثم وضعها قريب مكة. وروي نحو ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأخرج ابن أبـي حاتم عن الزهري أن الله تعالى نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم عليه السلام. والظاهر أن إبراهيم عليه السلام لم يكن مقصوده من هذا الدعاء نقل أرض منبتة من فلسطين أو قرية من قرى الشام وإنما مقصوده عليه السلام أن يرزقهم سبحانه من الثمرات وهو لا يتوقف على النقل، فلينظر ما وجه الحكمة فيه، وأنا لست على يقين من صحته ولا أنكر والعياذ بالله تعالى أن الله جل وعلا على كل شيء قدير وأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

{ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء سائر مراسم العبودية واستدل به على أن تحصيل منافع الدنيا إنما هي ليستعان بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات، ولا يخفى ما في دعائه عليه السلام من مراعاة حسن الأدب والمحافظة على قوانين الضراعة وعرض الحاجة واستنزال الرحمة واستجلاب الرأفة، ولذا من عليه بحسن القبول وإعطاء المسؤول، ولا بدع في ذلك من خليل الرحمن عليه السلام.