خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
١٢٤
-النحل

روح المعاني

وقوله تعالى: { إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ } بمعنى إنما فرض تعظيمه والتخلي للعبادة وترك الصيد فيه تحقيق لذلك النفي الكلي وتوضيح له بإبطال ما عسى يتوهم كونه قادحاً في الكلية فإن اليهود كانوا يزعمون أن السبت من شعائر الإسلام وأن إبراهيم عليه السلام كان محافظاً عليه أي ليس السبت من شرائع إبراهيم وشعائر ملته عليه السلام التي أمرت باتباعها حتى يكون بينه وبين بعض المشركين علاقة في الجملة، وإنما شرع ذلك لبني إسرائيل بعد مدة طويلة، وإيراد الفعل مبنياً للمفعول جرى على سنن الكبرياء وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة الإسناد إلى الغير. وقرأ أبو حيوة { جعل } بالبناء للفاعل، وعن ابن مسعود والأعمش أنهما قرءا (إنما أنزلنا السبت) وهو على ما قال أبو حيان تفسير معنى لا قراءة لمخالفة ذلك سواد المصحف، والمستفيض عنهما أنهما قرءا كالجماعة { إنما جعل السبت }.

{ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } على نبيهم حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت وهم اليهود. أخرج الشافعي في "الأم" والشيخان في "صحيحيهما" عن أبـي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يعني الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد" وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أمر موسى عليه السلام اليهود بالجمعة وقال: تفرغوا لله تعالى في كل سبعة أيام يوماً واحداً وهو يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئاً من أعمالكم فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا: لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله تعالى فيه من الخلق وهو يوم السبت فجعل عليهم وشدد فيه الأمر ثم جاء عيسى عليه/ السلام بالجمعة فقالت النصارى: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد وكأنهم إنما اختاروه لأنه مبتدأ الخلق، واختار هذا الإمام وحمل { فِى } على التعليل أي اختلفوا على نبيهم لأجل ذلك اليوم، وقال الخفاجي: معنى { ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } خالفوا جميعهم نبيهم فهو اختلاف بينهم وبين نبيهم، وظاهر الاخبار يقتضي أنه عين لهم أولاً يوم الجمعة، وقال القاضي عياض: ((الظاهر أنه فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة بغير تعيين ووكل إلى اجتهادهم [لإقامة شرائعهم فيه] (فاختلفت أحبارهم) في تعيينه ولم يهدهم الله تعالى له وفرض على هذه الأمة مبيناً [ولم يكل إلى أحد اجتهادهم] ففازوا بفضيلته ولو كان منصوصاً عليه لم يصح (أن يقال اختلفوا) بل يقال خالفوا، وقال الإمام النووي: يمكن أن يكونوا أمروا [به] صريحاً ونص عليه فاختلفوا فيه هل يلزم تعيينه أم لهم إبداله فأبدلوه وغلطوا في إبداله))، وقال الواحدي: قد أشكل أمر هذا الاختلاف على كثير من المفسرين حتى قال بعضهم: معنى اختلافهم في السبت أن بعضهم قال هو أعظم الأيام حرمة لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فيه، وقال الآخرون: أعظمها حرمة الأحد لأن الله سبحانه ابتدأ الخلق فيه؛ وهذا غلط لأن اليهود لم يكونوا فرقتين في السبت وإنما اختار الأحد النصارى بعدهم بزمان وقيل: المراد اختلفوا فيما بينهم في شأنه ففضلته فرقة منهم على الجمعة ولم ترض بها وفضلت أخرى الجمعة عليه ومالت إليها بناءً على ما روي من أن موسى عليه السلام جاءهم بالجمعة فأبـى أكثرهم إلا السبت ورضي شرذمة منهم بها فأذن الله تعالى لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه فأطاع أمر الله تعالى الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله تعالى قردة دون أولئك المطيعين، والتفسير الأول تفسير رئيس المفسرين وترجمان القرآن وحبر الأمة المروي من طرق صحيحة عن أفضل النبيين وأعلم الخلق بمراد رب العالمين صلى الله عليه وسلم.

{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أي المختلفين { يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي يقضي بينهم بالمجازاة على اختلافهم على نبيهم ومخالفتهم له في ذلك أو يفصل ما بين الفريقين منهم من الخصومة والاختلاف فيجازي كل فريق بما يستحقه من الثواب والعقاب، وفيه على هذا إيماء إلى أن ما وقع في الدنيا من مسخ أحد الفريقين وإنجاء الآخر بالنسبة إلى ما سيقع في الآخرة شيء لا يعتد به، وعبر عن الفرض بالجعل موصولاً بكلمة { عَلَىٰ } للإيذان بتضمنه للتشديد والابتلاء المؤدي إلى العذاب، وعن اليهود بالاسم الموصول بالاختلاف إشارة إلى علة ذلك، وقيل: المعنى إنما جعل وبال ترك تعظيم السبت وهو المسخ كائناً أو واقعاً على الذين اختلفوا فيه أي أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه أخرى وكان حتماً عليهم أن يتفقوا على تحريمه حسبما أمر الله تعالى به وروي ذلك عن قتادة، وفسر الحكم بينهم بالمجازاة باختلاف أفعالهم بالإحلال تارة والتحريم أخرى. ووجه إيراد ذلك هٰهنا بأنه أريد منه إنذار المشركين وتهديدهم بما في مخالفة الأنبياء عليهم السلام من الوبال كما ذكرت القرية التي كفرت بأنعم الله تعالى تمثيلاً لذلك. واعترض بأن توسيط ذلك لما ذكر بين حكاية أمر النبـي صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام وبين أمره صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليها كالفصل بين الشجر ولحائه. وأجيب بأن فيه حثاً على إجابة الدعوة التي تضمنها الكلام السابق وأمر بها في الكلام اللاحق فللمتوسط نسبة إلى الطرفين تخرجه من أن يكون الفصل به كالفصل بين الشجر ولحائه وهو كما ترى. واعترض أيضاً بأن كلمة { بَيْنَهُمْ } تحكم بأن المراد بالحكم هو فصل ما بين الفريقين من الاختلاف دون المجازاة باختلاف أفعالهم بالإحلال تارة والتحريم أخرى. ويرد هذا أيضاً على تفسيره بالقضاء بالمجازاة/ على اختلافهم جميعهم على نبيهم ومخالفتهم له فيما جاءهم به، وقد فسر بذلك على التفسير المأثور عن ترجمان القرآن، ومنهم من فسره عليه بما فسر به على التفسير المروي عن قتادة فيرد عليه أيضاً ما ذكر مع ما في ضمنه من القول باختلاف الاختلافين بمعنى، والظاهر اتحادهما. وأجاب بعضهم عن الاعتراض بمنع حكم كلمة { بَيْنَهُمْ } بما تقدم فتأمل، وتفسير السبت باليوم المخصوص هو الظاهر الذي ذهب إليه الكثير، وجوز كونه مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها، قيل: ويجوز على هذا أن يكون في الآية استخدام.