خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً
٣
-الإسراء

روح المعاني

{ ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } نصب على الاختصاص أو على النداء؛ والمراد الحمل على التوحيد بذكر إنعامه تعالى عليهم في تضمن إنجاء آبائهم من الغرق في سفينة نوح عليه السلام حين ليس لهم وكيل يتوكلون عليه سواه تعالى، وخص مكي النداء بقراءة الخطاب قال: من قرأ { يَتَّخِذُواْ } [الإسراء: 2] بياء الغيبة يبعد معه النداء لأن الياء للغيبة والنداء للخطاب فلا يجتمعان إلا على بعد ونعم ما قال، وقول بعضهم: ليس كما زعم إذ يجوز أن ينادي الإنسان شخصاً ويخبر عن أحد فيقول: يا زيد ينطلق بكر وفعلت كذا يا زيد ليفعل عمرو كيت وكيت إن كما زعم لا يدفع البعد الذي ادعاه مكي. وجوز أن يكون أحد مفعولي { تَتَّخِذُواْ } [الإسراء: 2] و { { وَكِيلاً } [الإسراء: 2] الآخر وهو لكونه فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه الواحد المذكر وغيره فلا يرد أنه كيف يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً والمفعول الثاني خبر معنى وهو غير مطابق هنا و { { مِنْ دُونِى } [الإسراء: 2] حال منه و { مِنْ } يجوز أن تكون ابتدائية. وجوز أيضاً أن يكون بدلاً من { { وَكِيلاً } [الإسراء: 2] لأن المبدل منه ليس في حكم الطرح من كل الوجوه أي لا تتخذوا من دوني ذرية من حملنا والمراد نهيهم عن اتخاذ عزير وعيسى عليهما السلام ونحوهما أرباباً. وفي التعبير بما ذكر إيماء إلى علة النهي من أوجه، أحدها: تذكير النعمة في إنجاء آبائهم كما ذكر، والثاني: تذكير ضعفهم، وحالهم المحوج إلى الحمل، والثالث: أنهم أضعف منهم لأنهم متولدون منهم. وفي إيثار لفظ الذرية الواقعة على الأطفال والنساء في العرف الغالب مناسبة تامة لما ذكر. وجوز أبو البقاء كونه بدلاً من { مُوسَىٰ } [الإسراء: 2] وهو بعيد جداً.

وقرأت فرقة { ذُرّيَّةَ } بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ذرية ولا بعد فيه كما توهم أو على البدل من ضمير { يَتَّخِذُواْ } [الإسراء: 2] قال أبو البقاء: على القراءة بياء الغيبة، وقال ابن عطية: ولا يجوز هذا على القراءة بتاء الخطاب لأن ضمير المخاطب لا يبدل منه الاسم الظاهر، وتعقبه أبو حيان في «البحر» «بأن المسألة تحتاج إلى تفصيل وذلك أنه إن كان في بدل بعض من كل وبدل اشتمال جاز بلا خلاف وإن كان في بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة إن كان يفيد التوكيد جاز بلا خلاف أيضاً نحو مررت بكم صغيركم وكبيركم وإن لم يفد التوكيد فمذهب جمهور البصريين المنع ومذهب الأخفش والكوفيين الجواز وهو الصحيح لوجود ذلك في لسان العرب، وقد استدل على صحته في «شرح التسهيل»» وقرأ زيد بن ثابت وأبان بن عثمان وزيد بن علي ومجاهد في رواية بكسر ذال { ذُرّيَّةَ } وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه قرأ بفتحها، وعن زيد بن ثابت أيضاً أنه قرأ { ذُرّيَّةَ } بفتح الذال وتخفيف الراء وتشديد الياء على وزن فعيلة كمطية.

{ إِنَّهُ } أي نوحاً عليه السلام { كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } كثير الشكر في مجامع حالاته. وأخرج ابن جرير. وابن المنذر والبيهقي في «الشعب» والحاكم وصححه عن سلمان الفارسي قال: كان نوح عليه السلام إذا لبس ثوباً أو طعم طعاماً حمد الله تعالى فسمي عبداً شكوراً، وأخرج عبد الله بن أحمد في / «زوائد الزهد» عن إبراهيم قال: شكره عليه السلام أن يسمي إذا أكل ويحمد الله تعالى إذا فرغ. وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن أنس الجهني عن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما سمى الله تعالى نوحاً عبداً شكوراً لأنه كان إذا أمسى وأصبح قال: { سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } [الروم: 17، 18]" وأخرج البيهقي وغيره عن عائشة عن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: "إن نوحاً لم يقم عن خلاء قط إلا قال: الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيَّ منفعته وأذهب عني أذاه" وهذا من جملة شكره عليه السلام.

وفي هذه الجملة إيماء بأن إنجاء من معه عليه السلام كان ببركة شكره، وحث للذرية على الاقتداء به وزجر لهم عن الشرك الذي هو أعظم مراتب الكفر، وهذا وجه ملائمتها لما تقدم، وقال الزمخشري: «يجوز أن يقال ذلك عند ذكره على سبيل الاستطراد» وحينئذٍ فلا يطلب ملاءمته مع ما سيق له الكلام إلا من حيث أنه كان من شأن من ذكر أعني نوحاً عليه السلام. وقيل ضمير { إنَّهُ } عائد على موسى عليه السلام والجملة مسوقة على وجه التعليل إما لإيتاء الكتاب أو لجعله عليه السلام هدى بناءً على أن ضمير { جعلناه } [الإسراء: 2] له أو للنهي عن الاتخاذ وفيه بعد فتدبر.