خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً
٢٩
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً
٣٠
-الإسراء

روح المعاني

{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر زجراً لهما عنهما وحملاً على ما بينهما من الاقتصاد والتوسط بين الإفراط والتفريط وذلك هو الجود الممدوح فخير الأمور أوساطها وأخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عال من اقتصد" وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة" وفي رواية عن أنس مرفوعاً "التدبير نصف المعيشة والتودد نصف العقل والهم نصف الهرم وقلة العيال أحد اليسارين" وكان يقال حسن التدبير مع العفاف خير من الغنى مع الإسراف { فَتَقْعُدَ مَلُومًا } أي فتصير ملوماً عند الله تعالى وعند الناس { مَّحْسُوراً } نادماً مغموماً أو منقطعاً بك لا شيء عندك من حسره السفر أعياه وأوقفه حتى انقطع عن رفقته، قال الراغب: «يقال للمعيي حاسر ومحسور أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره» وهذا بيان قبح الإسراف المفهوم من النهي الأخير، وبين في أثره لأن غائلة الإسراف في آخره وحيث كان قبح الشح المفهوم من النهي الأول مقارناً له معلوماً من أول الأمر روعي ذلك في التصوير بأقبح الصور ولم يسلك فيه مسلك ما بعده كذا قيل. وفي أثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجه عنه ابن جرير وابن أبـي حاتم ما يقتضيه. وقال بعض المحققين: الأولى أن يكون ذلك بياناً لقبح الأمرين ويعتبر التوزيع { فَتَقْعُدَ } منصوب في جواب النهيين والملوم راجع إلى قوله تعالى: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } كما قيل:

إن البخيل ملوم حيثما كانا

والمحسور راجع إلى قوله سبحانه: { وَلاَ تَبْسُطْهَا } وليس ببعيد. وفي «الكشاف» عن جابر "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ أتاه صبـي فقال: إن أمي تستكسيك درعاً فقال: من ساعة إلى ساعة يظهر فعد إلينا فذهب إلى أمه فقالت: قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل صلى الله عليه وسلم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عرياناً وأذن بلال وانتظر فلم يخرج عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة فنزلت" وأنت تعلم أنه يأبى هذا كون السورة مكية والآية ليست من المستثنيات ولعل الخبر لم يثبت فعن ولي الدين العراقي أنه لم يجده في شيء من كتب الحديث أي بهذا اللفظ وإلا فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: "جاء غلام إلى النبـي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي تسألك كذا وكذا فقال: ما عندنا اليوم شيء قال: فتقول لك اكسني قميصك فخلع عليه الصلاة والسلام قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت حاسراً" فنزلت، وأخرج ابن أبـي حاتم عن المنهال بن عمرو ونحوه وليس في شيء منهما حديث أذان بلال وما بعده. وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن الفزاري فجاء عباس بن مرداس فأنشأ يقول:

أتجعل نهبـي ونهب العبيـ ـد بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرء منهما ومن يخفض اليوم لم يرفع

/ فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر اقطع لسانه عني أعطه مائة من الإبل وكانوا جميعاً من المؤلفة قلوبهم فنزلت، وفيه الإِباء السابق كما لا يخفى. وكذا ما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن سيار أبـي الحكم قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بز من العراق وكان معطاء كريماً فقسمه بين الناس فبلغ ذلك قوماً من العرب فقالوا: نأتي النبـي صلى الله عليه وسلم نسأله فوجدوه قد فرغ منه فأنزل الله تعالى الآية.

{ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } تعليل لقوله سبحانه { { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ } [الإسراء: 28] الخ كأنه قيل: إن أعرضت عنهم لفقد الرزق فقل لهم قولاً ميسوراً ولا تهتم لذلك فإن ذلك ليس لهوان منك عليه تعالى بل لأن بيده جل وعلا مقاليد الرزق وهو سبحانه يوسعه على بعض ويضيقه على بعض حسبما تتعلق به مشيئته التابعة للحكمة فما يعرض لك في بعض الأحيان من ضيق الحال الذي يحوجك إلى الإعراض ليس إلا لمصلحتك فيكون قوله تعالى: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ } [الإسراء: 29] الخ معترضاً تأكيداً لمعنى ما تقتضيه حكمته عز وجل من القبض والبسط. وقوله تعالى: { إِنَّهُ } سبحانه { كَانَ } لم يزل ولا يزال { بِعِبَادِهِ } جميعهم { خَبِيراً } عالماً بسرهم { بَصِيراً } عالماً بعلنهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم تعليل لسابقه، وجوز أن يكون ذلك تعليلاً للأمر بالاقتصاد المستفاد من النهيين إما على معنى أن البسط والقبض أمران مختصان بالله تعالى وأما أنت فاقتصد واترك ما هو مختص به جل وعلا أو على معنى أنكم إذا تحققتم شأنه تعالى شأنه وأنه سبحانه ييبسط ويقبض وأمعنتم النظر في ذلك وجدتموه تعالى مقتصداً فاقتصدوا أنتم واستنوا بسنته، وجعله بعضهم تعليلاً لجميع ما مر وفيه خفاء كما لا يخفى، وجوز كونه تعليلاً للنهي الأخير على معنى أنه تعالى يبسط ويقبض حسب مشيئته فلا تبسطوا على من قدر عليه رزقه وليس بشيء.