خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً
٥٧
-الإسراء

روح المعاني

{ أُولَٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ } أي أولئك الآلهة الذين يدعونهم ويسمونهم آلهة أو يدعونهم وينادونهم لكشف الضر عنهم { يَبْتَغُونَ } يطلبون باجتهاد لأنفسهم { إِلَىٰ رَبّهِمُ } ومالك أمرهم { ٱلْوَسِيلَةَ } القربة بالطاعة والعبادة فضمير { يَدْعُونَ } للمشركين وضمير { يَبْتَغُونَ } للمشار إليهم، وقال ابن فورك: الضميران للمشار إليهم والمراد بهم الأنبياء الذين عبدوا من دون الله تعالى، ومفعول { يَدْعُونَ } محذوف أي يدعون الناس إلى الحق أو يدعون الله سبحانه ويتضرعون إليه جل وعلا، وعلى هذا لا يتعين كون المراد بهم الأنبياء عليهم السلام كما لا يخفى وهو كما ترى. وقرأ ابن مسعود وقتادة { تَدْعُونَ } بالتاء ثالثة الحروف؛ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما { يدعون } بالياء آخر الحروف مبنياً للمفعول، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه { إِلَىٰ ربك } بكاف الخطاب. واسم / الإشارة مبتدأ والموصول نعت أو بيان والخبر جملة { يَبْتَغُونَ } أو الموصول هو الخبر و{ يَبْتَغُونَ } حال أو بدل من الصلة.

وقوله تعالى: { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } فيه وجوه من الإعراب فالزمخشري ذكر وجهين، الأول كون أي موصولة بدلاً من ضمير { يَبْتَغُونَ } بدل بعض من كل؛ وهي إما معربة أو مبنية على اختلاف الرأيين أي أولئك المعبودون يطلب من هو أقرب منهم الوسيلة إلى الله تعالى بطاعته فكيف بالأبعد وليس فيه إلا حذف صدر الصلة والتقدير أيهم هو أقرب وهو مما لا بأس. ولا ينافي ذلك جمع { يَرْجُونَ } و{ يَخَافُونَ } فيما بعد لعدم اختصاص ما ذكر بالأقرب أو لكون الأقرب متعدداً. والثاني كون أي استفهامية وهي مبتدأ و { أَقْرَبُ } خبرها والجملة في محل نصب بيبتغون وضمن معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله تعالى وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح، قيل واعتبر التضمين ليصح التعليق فإنه مختص بأفعال القلوب خلافاً ليونس.

وقال الطيبـي: لا بد من تقدير حرف الجر لأن حرص تتعدى بعلى كقوله تعالى: { إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ } [النحل: 37] ولا بد من تأويل الإنشاء بأن يقال يحرصون على ما يقال فيه أيهم أقرب إلى الله تعالى بسببه من الطاعة، ويتعلق حينئذٍ قوله تعالى: { إِلَىٰ رَبّهِمُ } بأقرب وهو كما ترى.

وقال صاحب «الكشف» في تحقيق هذا الوجه: إن المطالب إذا كانت مشتركة اقتضت التسارع إليها في العادة وهو نفس الحرص أو ما لا ينفك عنه فناسب أن يضمن الابتغاء معنى الحرص لا سيما وبعده استفهام لا يحسن موقعه دون تضمينه لأن قولك أيهم أقرب إلى فلان بكذا سؤال عن مميز أحدهم عن الباقين بما يتقرب به زيادة فضيلة مع الاستواء في أصل التقرب فإذا ورد استئنافاً بعد فعل صالح لأن يكون معلوله وجب تقديره ذلك لأنك إذا قلت هؤلاء يحرصون على الهدى كان كلاماً جارياً على الظاهر وإذا قلت هؤلاء يحرصون أيهم يكون أهدى أفاد أن حرصهم ذلك على الهدى مع مغالبة بعضهم بعضاً فيه فيكون أتم في وصفهم بالحرص عليه. ووجه الإفادة أنه تعقيبه على وجه التعليل وكأن كل واحد يسأل نفسه أهو أهدى أم غيره أي هو أشد حرصاً عليه أم غيره إذ لا معنى لهذا السؤال عن النفس إلا الحث وتعرف أن ثمت تقصيراً في ذلك أو لا، وعلى هذا لو قلت يحرصون على الهدى أيكم يكون أهدى عد مستهجناً لأن الاستئناف سد مسد صلته كما في أمرته فقام { { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لأمَنَ } [يونس: 99] وود لو أنه أحسن وكم وكم، فعلى هذا الطلبُ واقع على الوسيلة وهي الطاعة والحرص على الأقربية بها والازدياد منها ولا يمكن أن يستغني عن يحرصون بإجراء { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } مجرى التعليل ليبتغون على ما أشير إليه لأن { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } لا يصلح جواباً فارقاً بين الطالبين وغيرهم إنما هو فارق بين الطالبين أعني المتقربين بعضهم مع بعض وهو يناسب الحرص والشعف ولأن صلة الطلب أعني الوسيلة مذكورة وقد عرفت أن الاستئناف مغن عن ذلك والجمع مستهجن اهـ.

ولعمري لم يبق في القوس منزعاً في تحقيقه لكن الوجه مع هذا متكلف. وجوز الحوفي والزجاج أن يكون { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } مبتدأ وخبر والجملة في محل نصب بينظرون أي يفكرون، والمعنى ينظرون أيهم أقرب فيتوسلون به وكأن المراد يتوسلون بدعائه وإلا ففي التوسل بالذوات ما فيه. وتعقب ذلك في «البحر» بأن في إضمار الفعل المعلق نظراً ومع ذا هو وجه غير ظاهر. وجوز أبو البقاء كون { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } جملة استفهامية في موضع نصب بيدعون وكون أي موصولة بدلاً من ضمير { يَدْعُونَ } وتعقب الأول بأن فيه تعليق ما ليس بفعل قلبـي والجمهور / على منعه، وأما الثاني فقال أبو حيان: «فيه الفصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية لكنه لا يضر لأنها معمولة للصلة»، وأنت إذا نظرت في المعنى على هذا لم ترض أن تحمل الآية عليه.

وقوله تعالى: { وَيَرْجُونَ } عطف على { يَبْتَغُونَ } أي يبتغون القربة بالعبادة ويتوقعون { رَحْمَتَهُ } تعالى { وَيَخَـٰفُونَ عَذَابَهُ } كدأب سائر العباد فأين هم من ملك كشف الضر فضلاً عن كونهم آلهة { إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا } حقيقاً بأن يحذره ويحترز عنه كل أحد من الملائكة والرسل عليهم السلام وغيرهم. والجملة تعليل لقوله سبحانه: { وَيَخَـٰفُونَ عَذَابَهُ } وفي تخصيصه بالتعليل زيادة تحذير للكفرة من العذاب، وتقديم الرجاء على الخوف لما أن متعلقه أسبق من متعلقه ففي الحديث القدسي "سبقت رحمتي غضبـي" وفي اتحاد أسلوبـي الجملتين إيماء إلى تساوي رجاء أولئك الطالبين للوسيلة إليه تعالى بالطاعة والعبادة وخوفهم، وقد ذكر العلماء أنه ينبغي للمؤمن ذلك ما لم يحضره الموت فإذا حضره الموت ينبغي أن يغلب رجاءه على خوفه. وفي الآية دليل على أن رجاء الرحمة وخوف العذاب مما لا يخل بكمال العابد، وشاع عن بعض العابدين أنه قال: لست أعبد الله تعالى رجاء جنته ولا خوفاً من ناره والناس بين قادح لمن يقول ذلك ومادح، والحق التفصيل وهو أن من قاله إظهاراً للاستغناء عن فضل الله تعالى ورحمته فهو مخطىء كافر، ومن قاله لاعتقاد أن الله عز وجل أهل للعبادة لذاته حتى لو لم يكن هناك جنة ولا نار لكان أهلاً لأن يعبد فهو محقق عارف كما لا يخفى.