خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً
٦٤
-الإسراء

روح المعاني

{ وَٱسْتَفْزِزْ } أي واستخف يقال استفزه إذا استخفه فخدعه وأوقعه فيما أراده منه، وأصل معنى الفز القطع ومنه تفزز الثوب إذا انقطع ويقال للخفيف فز ولذا سمي به ولد البقرة الوحشية كما في قول زهير:

إذا استغاث بشيء فز غيطلة خاف العيون فلم تنظر به الحشك

والواو على ما في «البحر» للعطف على { { ٱذْهَبْ } [الإسراء: 63]. والمراد من الأمر التهديد وكذا من الأوامر الآتية، ويمنع من إرادة الحقيقة أن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء { مَنِ ٱسْتَطَعْتَ } أي الذي استطعت أن تستفزه { مِنْهُمْ } فمن موصول مفعول { استفزز } ومفعول { ٱسْتَطَعْتَ } محذوف هو ما أشرنا إليه. واختار أبو البقاء كون (من) استفهامية في موضع نصب باستطعت وهو خلاف الظاهر جداً ولا داعي إلى ارتكابه { بِصَوْتِكَ } أي بدعائك إلى معصية الله تعالى ووسوستك، وعبر عن الدعاء بالصوت تحقيراً له حتى كأنه لا معنى له كصوت الحمار. وأخرج ابن المنذر وابن جرير وغيرهما عن مجاهد تفسيره بالغناء والمزامير واللهو والباطل. وذكر الغزنوي أنه آدم عليه السلام أسكن ولد هابيل أعلى جبل وولد قابيل أسفله وفيهم بنات حسان فزمر الشيطان فلم يتمالكوا أن انحدروا واقترنوا.

{ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم } أي صح عليهم من الجلبة وهي الصياح قاله الفراء وأبو عبيدة، وذكر أن جلب وأجلب بمعنى. وقال الزجاج: أجلب على العدو جمع عليه الخيل. وقال ابن السكيت: جلب عليه أعان عليه، وقال ابن الأعرابـي: أجلب على الرجل إذا توعده الشر وجمع عليه الجمع، وفسر بعضهم { أجلب } هنا بأجمع فالباء في قوله تعالى: { بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } مزيدة كما في لا يقرأن بالسور. وقرأ الحسن { واجلب } بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثياً. والخيل يطلق على الأفراس حقيقة ولا واحد له من لفظه، وقيل إن واحده خائل لاختياله في مشيه وعلى الفرسان مجازاً وهو المراد هنا، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته لأصحابه رضي الله عنهم "يا خيل الله اركبي" والرجل بكسر الجيم فعل بمعنى فاعل فهو صفة كحذر بمعنى حاذر يقال: فلان يمشي رجلاً أي غير راكب. وقال صاحب «اللوامح»: هو بمعنى الرجل يعني أنه مفرد أريد به الجمع لأنه المناسب للمقام وما عطف عليه، وبهذا قرأ حفص وأبو عمرو في رواية والحسن. وظاهر الآية يقتضي أن للعين خيلاً ورجلاً وبه قال جمع فقيل هم من الجن، وقيل منهم ومن الإنس وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وقتادة قالوا: إن له خيلاً ورجلاً من الجن والإنس فما كان من راكب يقاتل في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وما كان من راجل يقاتل في معصية الله تعالى فهو من رجل إبليس. وقال آخرون: ليس للشيطان خيل ولا رجالة / وإنما هما كناية عن الأعوان والأتباع من غير ملاحظة لكون بعضهم راكباً وبعضهم ماشياً. وجوز بعضهم أن يكون استفزازه بصوته وإجلابه بخيله ورجله تمثيلاً لتسلطه على من يغويه فكأنه مغواراً أوقع على قوم فصوت بهم صوتاً يزعجهم من أماكنهم وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم، ومراده أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية ولا يضر فيها اعتبار مجاز أو كناية في المفردات فلا تغفل.

وقرأ الجمهور { رجلك } بفتح الراء وسكون الجيم وهو اسم جمع راجل كركب وراكب لا جمع لغلبة هذا الوزن في المفردات، وقرىء { رجل } بفتح الراء وضم الجيم وهو مفرد كما في قراءة حفص وقد جاءت ألفاظ من الصفة المشبهة على فعل وفعل كسراً وضماً كحدث وندس وغيرهما. وقرأ عكرمة وقتادة { رجالك } كنبالك، وقرىء { رجالك } ككفارك وكلاهما جمع رجلان وراجل كما في «الكشف»، وفي بعض نسخ «الكشاف» أنه قرىء { رجالك } بفتح الراء وتشديد الجيم على أن أصله رجالة فحذف تاؤه تخفيفاً وهي نسخة ضعيفة.

{ وَشَارِكْهُمْ فِى ٱلأَمْوٰلِ } بحملهم على كسبها مما لا ينبغي وصرفها فيما لا ينبغي. وقيل بحملهم على صرفها في الزنا، وعن الضحاك بحملهم على الذبح للآلهة، وعن قتادة بحملهم على تسييب السوائب وبحر البحائر والتعميم أولى { وَٱلأَوْلْـٰدِ } بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة وارتكاب ما لا يرضي الله تعالى فيهم. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المشاركة في الأولاد حملهم على تسميتهم بعبد الحرث وعبد شمس، وفي رواية حملهم على أن يرغبوهم في الأديان الباطلة ويصبغوهم بغير صبغة الإسلام. وفي أخرى حملهم على تحصيلهم بالزنا، وأخرى تزيين قتلهم إياهم خشية الإملاق أو العار، وقيل حملهم على أن يرغبوهم في القتال وحفظ الشعر المشتمل على الفحش والحرف الخسيسة الخبيثة، وعن مجاهد أن الرجل إذا لم يسم عند الجماع فالجان ينطوي على احليله فيجامع معه وذلك هي المشاركة في الأولاد، والأولى ما ذكرنا. { وَعِدْهُمْ } المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة ونفع الأنساب الشريفة من لم يطع الله تعالى أصلاً وعدم خلود أحد في النار لمنافاة في ذلك عظم الرحمة وطول أمل البقاء في الدنيا ومن الوعد الكاذب وعده إياهم أنهم إذا ماتوا لا يبعثون وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، ثم هذا من قبيل المشاركة في النفس كما في «البحر».

{ وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُوراً } اعترض بين ما خوطب به الشيطان لبيان حال مواعيده والالتفات إلى الغيبة لتقوية معنى الاعتراض مع ما فيه من صرف الكلام عن خطابه وبيان حاله للناس ومن الإشعار بعلية شيطنته للغرور وهو تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب؛ ويقال: غر فلاناً إذا أصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد، وأصل ذلك على ما قال الراغب من الغر وهو الأثر الظاهر من الشيء، ونصبه على أنه وصف مصدر محذوف أي وعداً غروراً على الأوجه التي في رجل عدل. وجوز أن يكون مفعولاً من أجله أي وما يعدهم ويمنيهم ما لا يتم ولا يقع إلا لأن يغرهم والأول أظهر. وذكر الإمام في سبب كون وعد الشيطان غروراً لا غير أنه إنما يدعو إلى أحد ثلاثة أمور: قضاء الشهوة وإمضاء الغضب وطلب الرياسة والرفعة ولا يدعو البتة إلى معرفة الله تعالى وخدمته وتلك الأشياء الثلاثة / ليست لذائذ في الحقيقة بل دفع آلام وإن سلم أنها لذائذ لكنها خسيسة يشترك فيه الناقص والكامل بل الإنسان والكلب ومع ذلك هي وشيكة الزوال ولا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة ويتبعها الموت والهرم واشتغال الباب بالخوف من زوالها والحرص على بقائها، ولذات البطن والفرج منها لا تتم إلا بمزاولة رطوبات متعفنة مستقذرة فتزيين ذلك لا يكاد يكون إلا بما هو أكذب من دعوى اجتماع النقيضين وهو الغرور.