خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً
١٨
-الكهف

روح المعاني

{ وَتَحْسَبُهُمْ } بفتح السين. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بكسرها، أي تظنهم. والخطاب فيه كما فيما سبق. والظاهر أن هذا إخبار مستأنف وليس على تقدير شيء، وقيل في الكلام حذف والتقدير ولو رأيتهم تحسبهم { أَيْقَاظًا } جمع يقظ بكسر القاف كأنكاد ونكد كما في «الكشاف» وبضمها كأعضاد وعضد كما في «الدر المصون». وفي «القاموس» رجل يقظ كندس وكتف فحكى اللغتين ضم العين وكسرها وهو اليقظان ومدار الحسبان انفتاح عيونهم على هيئة الناظر كما قال غير واحد. وقال ابن عطية: يحتمل أن يحسب الرائي ذلك لشدة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغير وذلك لأن الغالب على النيام استرخاء وهيآت يقتضيها النوم فإذا لم تكن لنائم يحسبه الرائي يقظان وإن كان مسدود العينين ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في هذا الحسبان. وقال الزجاج: مداره كثرة تقلبهم، واستدل عليه بذكر ذلك بعد، وفيه أنه لا يلائمه. { وَهُمْ رُقُودٌ } جمع راقد أي نائم، وما قيل إنه مصدر أطلق على الفاعل واستوى فيه القليل والكثير كركوع وقعود لأن فاعلاً لا يجمع على فعول مردود لأنه نص على جمعه كذلك النحاة كما صرح به في «المفصل» و«التسهيل»، وهذا تقرير لما لم يذكر فيما سلف اعتماداً على ذكره السابق من الضرب على آذانهم.

{ وَنُقَلّبُهُمْ } في رقدتهم كثيراً { ذَاتَ ٱلْيَمِينِ } أي جهة تلي أيمانهم { وَذَاتَ ٱلشّمَالِ } أي جهة تلي شمائلهم كيلا تأكل الأرض ما يليها من أبدانهم كما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن جبير. واستبعد ذلك وقال الإمام: إنه عجيب فإن الله تعالى الذي قدر على أن يبقيهم أحياء تلك المدة الطويلة هو عز وجل قادر على حفظ أبدانهم أيضاً من غير تقليب. وأجيب بأنه اقتضت حكمته تعالى أن يكون حفظ أبدانهم بما جرت به العادة وإن لم نعلم وجه تلك الحكمة، ويجري نحو هذا فيما قيل في التزاور وأخيه. وقيل يمكن أن يكون تقليبهم حفظاً لما هو عادتهم في نومهم من التقلب يميناً وشمالاً اعتناء بشأنهم. وقيل يحتمل أن يكون ذلك إظهاراً لعظيم قدرته تعالى في شأنهم حيث جمع تعالى شأنه فيهم الإنامة الثقيلة المدلول عليها بقوله تعالى: { فَضَرَبْنَا عَلَىٰ ءاذَانِهِمْ } [الكهف: 11] والتقليب الكثير، ومما جرت به العادة أن النوم الثقيل لا يكون فيه تقلب كثير، ولا يخفى بعده.

واختلف في أوقات تقليبهم فأخرج ابن أبـي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا يقلبون في كل ستة أشهر مرة، وأخرج غير واحد عن / أبـي عياض نحوه، وقيل يقلبون في كل سنة مرة، وذلك يوم عاشوراء، وأخرج ابن المنذر وابن أبـي حاتم عن مجاهد أن التقليب في التسع سنين الضميمة ليس فيما سواها، وأخرج ابن أبـي حاتم عن قتادة أن هذا التقليب في رقدتهم الأولى يعني الثلثمائة سنة، وكانوا يقلبون في كل عام مرة ولم يكن في مدة الرقدة الثانية يعني التسع. وتعقب الإمام ذلك بأن هذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ولفظ القرآن لا يدل عليها وما جاء فيها خبر صحيح انتهى. فظاهر الآية يدل على الكثرة لمكان المضارع الدال على الاستمرار التجددي مع ما فيه من التثقيل. والظاهر أن { وَنُقَلّبُهُمْ } إخبار مستأنف. وجوز الطيبـي بناءً على ما سمعت عن الزجاج كون الجملة في موضع الحال وهو كما ترى. وقرىء { ويقلبهم } بالياء آخر الحروف مع التشديد والضمير لله تعالى، وقيل للملك.

وقرأ الحسن فيما حكى الأهوازي في «الإقناع» }{ ويقلبهم } بياء مفتوحة وقاف ساكنة ولام مخففة، وقرأ فيما حكى ابن جني { وتقلبهم } على المصدر منصوباً، ووجهه أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه { وَتَحْسَبُهُمْ } أي وترى أو تشاهد تقلبهم، وروي عنه أيضاً أنه قرأ كذلك إلا أنه رفع، وهو على الابتداء كما قال أبو حاتم والخبر ما بعد أو محذوف أي آية عظيمة أو من آيات الله تعالى، وحكى ابن خالويه هذه القراءة عن اليماني وذكر أن عكرمة قرأ { وتقلبهم } بالتاء ثالثة الحروف مضارع قلب مخففاً، ووجه بأنه على تقدير وأنت تقلبهم وجعل الجملة حالاً من فاعل { تَحْسَبُهُمْ } وفيه إشارة إلى قوة اشتباههم بالإيقاظ بحيث أنهم يحسبون إيقاظاً في حال سبر أحوالهم وقلبهم ذات اليمين وذات الشمال.

{ وَكَلْبُهُمْ } الظاهر أنه الحيوان المعروف النباح، وله أسماء كثيرة أفرد لها الجلال السيوطي «رسالة». قال كعب الأحبار: هو كلب مروا به فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مراراً فقال لهم: ما تريدون مني لا تخشوا جانبـي أنا أحب أحباء الله تعالى فناموا وأنا أحرسكم. وروي عن ابن عباس أنه كلب راع مروا به فتبع دينهم وذهب معهم وتبعهم الكلب، وقال عبيد بن عمير: هو كلب صيد أحدهم، وقيل: كلب غنمه. ولا بأس في شريعتنا باقتناء الكلب لذلك وأما فيما عداه وما عدا ما ألحق به فمنهي عنه، ففي «البخاري» عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما "من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد أو ماشية نقص كل يوم من عمله قيراطان" ، وفي رواية قيراط. واختلف في لونه فأخرج ابن أبـي حاتم من طريق سفيان قال: قال لي رجل بالكوفة يقال له عبيد وكان لا يتهم بكذب رأيت كلب أصحاب الكهف أحمر كأنه كساء أنبجاني، وأخرج عن كثير النواء قال: كان الكلب أصفر، وقيل كان أنمر وروي ذلك عن ابن عباس، وقيل غير ذلك. وفي اسمه فأخرج ابن أبـي حاتم عن الحسن أنه قطمير، وأخرج عن مجاهد أنه قطمورا، وقيل ريان، وقيل ثور، وقيل غير ذلك. وهو في الكبر على ما روي عن ابن عباس فوق القلطي ودون الكردي. وأخرج ابن أبـي حاتم عن عبيد أنه قال رأيته صغيراً زينياً. قال الجلال السيوطي: يعني صينياً، وفي «التفسير الخازني» تفسير القلطي بذلك.

وزعم بعضهم أن المراد بالكلب هنا الأسد وهو على ما في «القاموس» أحد معانيه. وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم دعا على كافر بقوله: «اللهم سلط عليه كلباً من كلابك» فافترسه أسد وهو خلاف الظاهر، وأخرج / ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: قلت لرجل من أهل العلم زعموا أن كلبهم كان أسداً فقال: لعمر الله ما كان أسداً ولكنه كان كلباً أحمر خرجوا به من بيوتهم يقال له قطمورا وأبعد من هذا زعم من ذهب إلى أنه رجل طباخ لهم تبعهم أو أحدهم قعد عند الباب طليعة لهم. نعم حكى أبو عمر الزاهد غلام ثعلب أنه قرىء { وكالئهم } بهمزة مضمومة بدل الباء وألف بعد الكاف من كلأ إذا حفظ. ولا يبعد فيه أن يراد الرجل الربيئة لكن ظاهر القراءة المتواترة يقتضي إرادة الكلب المعروف منه أيضاً وإطلاق ذلك عليه لحفظه ما استحفظ عليه وحراسته إياه. وقيل في هذه القراءة إنها تفسير أو تحريف. وقرأ جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه { وكالبهم } بباء موحدة وزنة اسم الفاعل والمراد صاحب كلبهم كما تقول لابن وتامر أي صاحب لبن وتمر.

وجاء في شأن كلبهم أنه يدخل الجنة يوم القيامة. فعن خالد بن معدان ليس في الجنة من الدواب إلا كلب أصحاب الكهف وحمار بلعم. ورأيت في بعض الكتب أن ناقة صالح وكبش إسماعيل أيضاً في الجنة ورأيت أيضاً أن سائر الحيوانات المستحسنة في الدنيا كالظباء والطواويس وما ينتفع به المؤمن كالغنم تدخل الجنة على كيفية تليق بذلك المكان وتلك النشأة وليس فيما ذكر خبر يعول عليه فيما أعلم نعم في الجنة حيوانات مخلوقة فيها. وفي خبر يفهم من كلام الترمذي صحته التصريح بالخيل منها والله تعالى أعلم. وقد اشتهر القول بدخول هذا الكلب الجنة حتى أن بعض الشيعة يسمون أبناءهم بكلب علي ويؤمل من سمي بذلك النجاة بالقياس الأولوي على ما ذكر وينشد:

فتية الكهف نجا كلبهم كيف لا ينجو غداً كلب علي

ولعمري إن قبله علي كرم الله تعالى وجهه كلباً له نجا ولكن لا أظن يقبله لأنه عقور { بَـٰسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } مادهما، والذراع من المرفق إلى رأس الأصبع الوسطى ونصب { ذِرَاعَيْهِ } على أنه مفعول { بَـٰسِطٌ } وعمل مع أنه بمعنى الماضي واسم الفاعل لا يعمل إذا كان كذلك لأن المراد حكاية الحال الماضية. وذهب الكسائي وهشام وأبو جعفر بن مضاء إلى جواز عمل اسم الفاعل كيفما كان فلا سؤال ولا جواب. { بِٱلوَصِيدِ } بموضع الباب ومحل العبور من الكهف وأنشدوا:

بأرض فضاء لا يسد وصيدها عليّ ومعروفي بها غير منكر

وهو المراد بالفناء في التفسير المروي عن ابن عباس ومجاهد وعطية. وقيل بالعتبة والمراد بها ما يحاذي ذلك من الأرض لا المتعارف، فلا يقال إن الكهف لا باب له ولا عتبة على أنه لا مانع من ذلك. وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أن الوصيد الصعيد وليس بذاك وذكروا في حكمة كونه بالوصيد غير ثاوٍ معهم أن الملائكة عليهم السلام لا تدخل بيتاً فيه كلب وقد يقال: إن ذلك لكونه حارساً كما يشير إليه ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قال: باسط ذراعيه بالوصيد يمسك عليهم باب الكهف وكان فيما قيل يكسر أذنه اليمنى وينام عليها إذا قلبوا ذات اليمين، ويكسر أذنه اليسرى وينام عليها إذا قلبوا ذات الشمال، والظاهر أنه نام كما ناموا لكن أخرج ابن أبـي حاتم عن عبد الله بن حميد المكي أنه جعل رزقه في لحس ذراعيه فإنه كالظاهر أنه لم يستغرق نومه كما استغرق نومهم.

{ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ } لو عاينتهم وشاهدتهم وأصل الاطلاع الوقوف على الشيء بالمعاينة والمشاهدة. وقرأ ابن وثاب والأعمش { لَوِ ٱطَّلَعْتَ } بضم الواو تشبيهاً لها بواو / الضمير فإنها قد تضم إذا لقيها ساكن نحو رموا السهام؛ وروي أن ذلك عن شيبة وأبـي جعفر. { لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا } أي لأعرضت بوجهك عنهم وأوليتهم كشحك. ونصب { فِرَاراً } إما على المصدر لوليت إذ التولية والفرار من واد واحد فهو كجلست قعوداً أو لفررت محذوفاً، وإما على الحالية بتأويله باسم الفاعل أو بجعله من باب فإنما هي إقبال وإدبار، وإما على أنه مفعول لأجله أي لرجعت لأجل الفرار { وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } أي خوفاً يملأ الصدر، ونصب على أنه مفعول ثان، ويجوز أن يكون تمييزاً وهو محول عن الفاعل، وكون الخوف يملأ مجاز في عظمه مشهور كما يقال في الحسن إنه يملأ العيون.

وفي «البحر» ((أبعد من ذهب إلى أنه تمييز محول عن المفعول كما في قوله تعالى شأنه: { { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً } [القمر: 12] لأن الفعل لو سلط عليه ما تعدى إليه تعدي المفعول به بخلاف ما في الآية. وسبب ما ذكر أن الله عز وجل ألقى عليهم من الهيبة والجلال ما ألقى، وقيل سببه طول شعورهم وأظفارهم وصفرة وجوههم وتغير أطمارهم وقيل: إظلام المكان وإيحاشه)) وتعقب ذلك أبو حيان بأن القولين ليسا بشيء لأنهم لو كانوا بتلك الصفة أنكروا أحوالهم ولم يقولوا { لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [الكهف: 19] ولأن الذي بعث إلى المدينة لم ينكر إلا المعالم والبناء لا حال نفسه ولأنهم بحالة حسنة بحيث لا يفرق الرائي بينهم وبين الأَيقاظ وهم في فجوة موصوفة بما مر فكيف يكون مكانهم موحشاً اهـ. وأجيب بأنهم لا يبعد عدم تيقظهم لحالهم فإن القائم من النوم قد يذهل عن كثير من أموره ويدعي استمرار الغفلة في الرسول وإنكاره للمعالم لا ينافي إنكار الناس لحاله وكونه على حالة منكرة لم يتنبه لها، وأيضاً يجوز أنهم لم يطلعوا على حالهم ابتداءً فقالوا: { { لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [الكهف: 19] ثم تنبهوا له فقالوا: { { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } [الكهف: 19]، وأيضاً يجوز أن يكون هذا الخطاب للنبـي صلى الله عليه وسلم وذلك الحال إنما حدث بعد انتباههم الذي بعثوا فيه رسولهم إلى المدينة. وعلى هذا لا يضر عدم إنكار الرسول حال نفسه لأنه لم يحدث له ما ينكر بعد، وإيحاش المكان يجوز أن يكون حدث بعد على هذا أيضاً، وذلك بتغيره بمرور الزمان اهـ. ولا يخفى على منصف ما في هذه الأجوبة فالذي ينبغي أن يعول عليه أن السبب في ذلك ما ألقى الله تعالى عليهم من الهيبة وهم في كهفهم وأن شعورهم وأظفارهم إن كانت قد طالت فهي لم تطل إلى حد ينكره من يراه، واختار بعض المفسرين أن الله تعالى لم يغير حالهم وهيئتهم أصلاً ليكون ذلك آية بينة.

والخطاب هنا كالخطاب فيما سبق، وعلى احتمال أن يكون له صلى الله عليه وسلم يلزم أن يكونوا باقين على تلك الحالة التي توجب فرار المطلع عليهم ومزيد رعبه إلى ما بعد نزول الآية فمن لا يقول به لا يقول به. وأخرج ابن أبـي شيبة وابن المنذر وابن أبـي حاتم عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف الذين ذكر الله تعالى في القرآن فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس: ليس ذلك لك قد منع الله تعالى ذلك من هو خير منك فقال: { لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالاً وقال: اذهبوا فادخلوا الكهف وانظروا فذهبوا فلما دخلوه بعث الله تعالى عليهم ريحاً فأخرجتهم. قيل وكأن معاوية إنما لم يجر على مقتضى كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ظناً منه تغير حالهم عما كانوا عليه أو طلباً / لعلمهم مهما أمكن. وأخرج ابن أبـي حاتم عن شهر بن حوشب قال: كان لي صاحب ماض شديد النفس فمر بجانب الكهف فقال: لا أنتهي حتى أنظر إليهم فقيل له: لا تفعل أما تقرأ { لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ } الخ فأبـى إلا أن ينظر فأشرف عليهم فابيضت عيناه وتغير شعره وكان يخبر الناس بأن عدتهم سبعة.

وربما يستأنس بمثل هذه الأخبار لوجودهم اليوم بل لبقائهم على تلك الحالة التي لا يستطاع معها الوقوف على أحوالهم وفي ذلك خلاف. فحكى السهيلي عن قوم القول به، وعن ابن عباس إنكاره فقد أخرج عبد الرزاق وابن أبـي حاتم عن عكرمة أن ابن عباس غزا مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام فقال رجل هذه عظام أهل الكهف فقال ابن عباس: لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلثمائة سنة، ولا يخفى ما بين هذا الخبر والخبر السابق عنه بل والآخر أيضاً من المخالفة. والذي يميل القلب إليه عدم وجودهم اليوم وإنهم إن كانوا موجودين فليسوا على تلك الحالة التي أشار الله تعالى إليها وأن الخطاب الذي في الآية لغير معين وأن المراد منها الإخبار عن أنهم بتلك الحالة في ذلك الوقت، وما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أصحاب الكهف أعوان المهدي" على تقدير صحته لا يدل على وجودهم اليوم على تلك الحالة وأنه عليه الصلاة والسلام على القول بعموم الخطاب ليس من الأفراد المعينة به لأنه صلى الله عليه وسلم اطلع على ما هو أعظم منهم من ملكوت السمٰوات والأرض، ومن جعله صلى الله عليه وسلم معيناً قال: المراد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً بحكم جري العادة والطبيعة البشرية وعدم ترتب الجزاء على إطلاعه صلى الله عليه وسلم على ما هو أعظم منهم أمر خارق للعادة ومنوط بقوة ملكية بل بما هو فوقها أو المراد لو اطلعت عليهم بنفسك من غير أن نطلعك عليهم لوليت منهم فراراً الخ وإطلاعه عليه الصلاة والسلام على ما اطلع عليه كان باطلاع الله عز وجل إياه وفرق بين الإطلاعين. يحكى أن موسى عليه السلام وجعه بطنه فشكى إلى ربه سبحانه فقال له: اذهب إلى نبات كذا في موضع كذا فكل منه فذهب وأكل فذهب ما كان يجد ثم عاوده ذلك بعد سنوات فذهب إلى ذلك النبات فأكل منه فلم ينتفع به فقال يا رب أنت أعلم وجعني بطني في سنة كذا فأمرتني أن أذهب إلى نبات كذا فذهبت فأكلت فانتفعت ثم عاودني ما كنت أجد فذهبت إلى ذلك وأكلت فلم أنتفع فقال سبحانه: أتدري يا موسى ما سبب ذلك؟ قال: لا يا رب قال: السبب أنك في المرة الأولى ذهبت منا إلى النبات وفي المرة الثانية ذهبت من نفسك إليه.

ومما يستهجن من القول ما يحكى عن بعض المتصوفة أنه سمع قارئاً يقرأ هذه الآية فقال: لو اطلعت أنا ما وليت منهم فراراً وما ملئت منهم رعباً. وما نقل عن بعضهم من الجواب بأن مراد قائله إثبات مرتبة الطفولية لنفسه فإن الطفل لا يهاب الحية مثلاً إذا رآها ولا يفرق بينها وبين الحبل على تقدير تسليم أن مراده ذلك لا يدفع الاستهجان، وذلك نظير قول من قال سبحانه وتعالى لا يعلم الغيب على معنى أنه لا غيب بالنسبة إليه عز وجل ليتعلق به علمه، ولنعم ما قال عمر رضي الله تعالى عنه كلموا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

هذا وقرأ ابن عباس والحرميان وأبو حيوة وابن أبـي عبلة { ولملئت } بتشديد اللام والهمزة. وقرأ أبو جعفر وشيبة بتشديد اللام وقلب الهمزة ياء. وقرأ الزهري بالتخفيف والقلب. وقرأ أبو جعفر وعيسى { رعباً } / بضم العين.