خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً
٤٨
-الكهف

روح المعاني

{ وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبّكَ } أحضروا محل حكمه وقضائه عز وجل فيهم { صَفَّاً } مصطفين أو مصفوفين. فقد أخرج ابن منده في «التوحيد» عن معاذ بن جبل أن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى ينادي يوم القيامة يا عبادي أنا الله لا إلٰه إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين أحضروا حجتكم ويسروا جواباً فإنكم مسؤولين محاسبون يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفاً على أطراف أنامل أقدامهم للحساب" وفي الحديث الصحيح "يجمع الله تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفاً يسمعهم الداعي وينفذهم البصر" الحديث بطوله، وقيل تقام كل أمة وزمرة صفاً. وفي بعض الأخبار «أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون». وقيل لا عرض بالمعنى المعروف ولا اصطفاف والكلام خارج مخرج الاستعارة التمثيلية شبهت حالهم في حشرهم بحال جند عرضوا على السلطان ليأمر فيهم بما يأمر، وقيل إن فيه استعارة تبعية بتشبيه حشرهم بعرض هؤلاء. ومعنى { صَفَّاً } سواء كان داخلاً في الاستعارة التمثيلية أو كان ترشيحاً غير متفرقين ولا مختلطين فلا تعرض فيه لوحدة الصف وتعدده. ولا حاجة إلى أن يقال: إنه مفرد أريد به الجمع لكونه مصدراً أي صفوفاً أو يقال: إن الأصل صفاً صفاً، على أن هذا مع بعده يرد عليه أن ما يدل على التعدد بالتكرار كباباً باباً وصفاً صفاً لا يجوز حذفه. هذا والحق أن إنكار الاصطفاف مما لا وجه له بعد إمكانه وصحة الأخبار فيه، ولعل ما فسرنا به الآية مما لا غبار عليه. وفي الالتفات إلى الغيبة وبناء الفعل للمفعول مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تربية المهابة والجري على سنن الكبرياء وإظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى. وقيل في قوله تعالى: { عَلَىٰ رَبِّكَ } إشارة إلى غضب الله تعالى عليهم وطردهم عن ديوان القبول بعدم جريهم على معرفتهم لربوبيته عز وجل.

{ لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } خطاب للكفار المنكرين للبعث على إضمار القول، ويكون حالاً مما تقدم فيقدر قائلين أو نقول إن كان حالاً من فاعل (حشرنا) أو قائلاً أو يقول إن كان من { رَبَّكَ } أو مقولاً لهم أو يقال لهم إن كان من ضمير { عرضوا }. / وقد يقدر فعلاً كقلنا أو نقول لا محل لجملته. وجوز تعلق« { يَوْمَ } »[الكهف:47] السابق به على هذا التقدير دون تقدير الحالية. قال الخفاجي: لأنه يصير كغلام زيد ضارباً على أن ضارباً حال من زيد ناصباً لغلام ومثله تعقيد غير جائز لا لأن ذلك قبل الحشر وهذا بعده ولا لأن معمول الحال لا يتقدم عليها كما يتوهم، ثم قال: وأما ما أورد على تعلقه بالفعل في التقدير الثاني من أنه يلزم منه أن هذا القول هو المقصود أصالة فتخيل أغنى عن الرد أنه لا محذور فيه اهـ. والحق أن تعلقه بالقول المقدر حالاً أو غيره مما لا يرتضيه الطبع السليم والذهن المستقيم، ولا يكاد يجوز مثل هذا التركيب على تقدير الحالية وإن قلنا بجواز تقدم معمول الحال عليها فتدبر. والمراد من مجيئهم إليه تعالى مجيئهم إلى حيث لا حكم لأحد غيره سبحانه من المعبودات الباطلة التي تزعم فيها عبدتها النفع والضر وغير ذلك نظير ما قالوا في قوله تعالى: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } [الفاتحة: 4] { كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ } نعت لمصدر محذوف أي مجيئاً كائناً كمجيئكم عند خلقنا لكم { أَوَّلَ مَرَّةٍ } أو حال من الضمير المرفوع في { جِئْتُمُونَا } أي كائنين كما خلقناكم أول مرة حفاة عراة غرلاً أو ما معكم شيء مما تفتخرون به من الأموال والأنصار لقوله تعالى: { َلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـٰكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ } [الأنعام: 94].

وجوز أن يكون المراد أحياء كخلقتكم الأولى، والكلام عليه إعراباً كما تقدم لكن يخالفه في وجه التشبيه وذاك كما قيل أوفق بما قبل وهذا بقوله تعالى: { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا } وهو إضراب وانتقال من كلام إلى كلام كلاهما للتوبيخ والتقريع. والموعد اسم زمان. وأن مخففة من المثقلة فصل بينها وبين خبرها بحرف النفي لكونه جملة فعلية فعلها متصرف غير دعاء وفي ذلك يجب الفصل بأحد الفواصل المعلومة إلا فيما شذ. والجعل إما بمعنى التصيير فالجار والمجرور مفعوله الثاني و { مَّوْعِدًا } مفعوله الأول، وإما بمعنى الخلق والإيجاد فالجار والمجرور في موضع الحال من مفعوله وهو { مَّوْعِدًا } أي زعمتم في الدنيا أنه لن نجعل لكم وقتاً ينجز فيه ما وعدنا من البعث وما يتبعه.