خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً
٢٥
-مريم

روح المعاني

{ وَهُزِّى إِلَيْك } أي إلى جهتك. والهز تحريك يميناً وشمالاً سواء كان بعنف أو لا أو تحريك بجذب ودفع وهو مضمن معنى الميل فلذا عدي بالىٰ أو أنه مجاز عنه أو اعتبر في تعديته ذلك لأنه جزء معناه كذا قيل. ومنع أبو حيان تعلقه بهزي وعلل ذلك بأنه قد تقرر في النحو أن الفعل لا يعدى إلى الضمير المتصل وقد رفع الضمير المتصل وليس من باب ظن ولا فقد ولا عدم وهما لمدلول واحد فلا يقال: ضربتك وزيد ضربه على معنى ضربت نفسك وضرب نفسه. والضمير المجرور عندهم كالضمير المنصوب فلا يقال: نظرت إليه وزيد نظر على معنى نظرت إلى نفسك ونظر إلى نفسه. ومن هنا جعلوا على في قوله:

هون عليك فإن الأمور بكف الإلٰه مقاديرها

اسماً كما في قوله:

غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها

وجعل الجار والمجرور هنا متعلقاً بمحذوف أي أعني إليك كما قالوا في سقيا لك ونحوه مما جيء به للتبيين. وأنت تعلم أنهم قالوا بمجيء إلى للتبيين لكن قال ابن مالك وكذا صاحب «القاموس»: إنها المبينة لفاعلية مجرورها بعدما يفيد حباً أو يغضاً من فعل تعجب أو اسم تفضيل وما هنا ليس كذلك. وقال في «الإتقان»: حكى ابن عصفور في «شرح أبيات الإيضاح» عن ابن الأنباري أن إلى / تستعمل اسماً فيقال: انصرفت من إليك كما يقال غدوت من عليه وخرج عليه من القرآن { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ } وبه يندفع إشكال أبـي حيان فيه انتهى. وكان عليه أن يبين ما معناها على القول بالإسمية، ولعلها حينئذ بمعنى عند فقد صرح بمجيئها بهذا المعنى في «القاموس» وأنشد:

أم لا سبيل إلى الشباب وذكره أشهى إليَّ من الرحيق السلسل

لكن لا يحلو هذا المعنى في الآية، ومثله ما قيل إنها في ذلك اسم فعل، ثم إن حكاية استعمالها اسماً إذا صحت تقدح في قول أبـي حيان: لا يمكن أن يدعى أن إلى تكون اسماً لإجماع النحاة على حرفيتها. ولعله أراد إجماع من يعتد به منهم في نظره. والذي أميل إليه في دفع الإشكال أن الفعل مضمن معنى الميل والجار والمجرور متعلق به لا بالفعل الرافع للضمير وهو مغزى بعيد لا ينبغي أن يسارع إليه بالاعتراض على أن في القلب من عدم صحة نحو هذا التركيب للقاعدة المذكورة شيئاً لكثرة مجيء ذلك في كلامهم. ومنه قوله تعالى: { { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [الأحزاب: 37] والبيت المار آنفاً. وقول الشاعر:

دع عنك نهبا صيح في حجراته ولكن حديثاً ما حديث الرواعل

وقولهم: اذهب إليك وسر عنك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع. وتأويل جميع ما جاء لا يخلو عن تكلف فتأمل وأنصف، ثم الفعل هنا منزل منزلة اللازم كما في قول ذي الرمة:

فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي

فلذا عدي بالباء أي افعلي الهز.

{ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } فالباء للآلة كما في كتبت بالقلم. وقيل هو متعد والمفعول محذوف والكلام على تقدير مضاف أي هزي الثمرة بهز جذع النخلة ولا يخفى ما فيه من التكلف وأن هز الثمرة لايخلو من ركاكة، وعن المبرد أن مفعوله { رطباً } الآتي والكلام من باب التنازع. وتعقب بأن الهز على الرطب لا يقع إلا تبعاً فجعله أصلاً وجعل الأصل تبعاً حيث أدخل عليه الباء للاستعانة غير ملائم مع ما فيه من الفصل بجواب الأمر بينه وبين مفعوله ويكون فيه إعمال الأول وهو ضعيف لا سيما في هذا المقام. وما ذكر من التعكيس وارد على ما فيه التكلف وهو ظاهر، وما قيل من أن الهز وإن وقع بالأصالة على الجذع لكن المقصود منه الثمرة فلهذه النكتة المناسبة جعلت أصلاً لأن هز الثمرة ثمرة الهز لا يدفع الركاكة التي ذكرناها مع أن المفيد لذلك ما يذكر في جواب الأمر. وجعل بعضهم { بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } في موضع الحال على تقدير جعل المفعول { رطباً } أو الثمرة أي كائنة أو كائناً بجذع النخلة وفيه ثمرة ما لا تسمن ولا تغني، وقيل الباء مزيدة للتأكيد مثلها في قوله تعالى: { { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } [البقرة: 195] وقول الشاعر:

هن الحرائر لا ربات أخمرة سود المحاجر لا يقرأن بالسور

والوجه الصحيح الملائم لما عليه التنزيل من غرابة النظم كما في «الكشف» هو الأول، وقول الفراء: إنه يقال هزه وهز به إن أراد أنهما بمعنى كما هو الظاهر لا يلتفت إليه كما نص عليه بعض من يعول عليه.

{ تُسَـٰقِطْ } من ساقطت بمعنى أسقطت، والضمير المؤنث للنخلة ورجوع الضمير للمضاف إليه شائع، ومن أنكره فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً. وجوز أبو حيان أن يكون الضمير للجذع لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه كما في قوله تعالى: { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ } [يوسف: 10] في قراءة من قرأ بالتاء الفوقية، وقول الشاعر:

كما شرقت صدر القناة من الدم

وتعب بأنه خلاف الظاهر وإن صح. وقرأ مسروق وأبو حيوة في رواية { تسقط } بالتاء من فوق مضمومة وكسر القاف. وفي رواية أخرى عن أبـي حيوة أنه قرأ كذلك إلا أنه بالياء من تحت. وقوله تعالى: { عَلَيْكِ رُطَباً } في جميع ذلك نصب على المفعولية وهو نضيج البسر واحدته بهاء وجمع شاذاً على أرطاب كربع وأرباع، وعن أبـي حيوة أيضاً أنه قرأ { تسقط } بالتاء من فوق مفتوحة وضم القاف، وعنه أيضاً كذلك إلا أنه بالياء من تحت فنصب { رطباً } على التمييز، وروي عنه أنه رفعه في القراءة الأخيرة على الفاعلية. وقرأ أبو السمال { تتساقط } بتاءين. وقرأ البراء بن عازب { يساقط } بالياء من تحت مضارع أساقط. وقرأ الجمهور { تُسَـٰقِطْ } بفتح التاء من فوق وشد السين بعدها ألف وفتح القاف، والنصب على هذه الثلاثة على التمييز أيضاً. وجوز في بعض القراآت أن يكون على الحالية الموطئة وإذا أضمر ضمير مذكر على إحدى القراآت فهو للجذع، وإذا أضمر ضمير مؤنث فهو للنخلة أو له على ما سمعت.

{ جَنِيّاً } أي مجنياً ففعيل بمعنى مفعول أي صالحاً للاجتناء. وفي «القاموس» ثم جني جني من ساعته. وعليه قيل المعنى رطباً يقول من يراه هو جني وهو صفة مدح فإن ما يجنى أحسن مما يسقط بالهز وما قرب عهده أحسن مما بعد عهده، وقيل فعيل بمعنى فاعل أي رطباً طرياً، وكان المراد على ما قيل إنه تم نضجه. وقرأ طلحة بن سليمان { جَنِيّاً } بكسر الجيم للاتباع. ووجه التذكير ظاهر. وعن ابن السيد أنه قال في «شرح أدب الكاتب»: كان يجب أن يقال جنية إلا أنه أخرج بعض الكلام على التذكير وبعضه على التأنيث، وفيه نظر. روي عن ابن عباس أنه لم يكن للنخلة إلا الجذع ولم يكن لها رأس فلما هزته إذ السعف قد طلع ثم نظرت إلى الطلع يخرج من بين السعف ثم اخضر فصار بلحاً ثم أحمر فصار زهواً ثم رطباً كل ذلك في طرفة عين فجعل الرطب يقع بين يديها وكان برنياً، وقيل عجوة وهو المروي عن أبـي عبد الله رضي الله تعالى عنه. والظاهر أنها لم تحمل سوى الرطب، وقيل كان معه موز، وروي ذلك عن أبـي روق. وإنما اقتصر عليه لغاية نفعه للنفساء، فعن الباقر رضي الله تعالى عنه لم تستشف النفساء بمثل الرطب إن الله أطعمه مريم في نفاسها وقالوا: ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل، وقيل: المرأة إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب، وذكر أن التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذا التحنيك وفي أمرها بالهز إشارة إلى أن السعي في تحصيل الرزق في الجملة مطلوب وهو لا ينافي التوكل وما أحسن ما قيل:

ألم تر أن الله أوحى لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أحنى الجذع من غير هزه إليها ولكن كل شيء له سبب