خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً
٣
-مريم

روح المعاني

وقوله تعالى شأنه: { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ } ظرف لرحمة ربك وقيل لذكر على أنه مضاف لفاعله لا على الوجه الأول لفساد المعنى وقيل: هو بدل اشتمال من { { زَكَرِيَّا } [مريم: 2] كما قوله تعالى: { وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } [مريم: 16]. وقرأ الحسن وابن يعمر كما حكاه أبو الفتح { { ذِكْرُ } [مريم: 2] فعلاً ماضياً مشدداً و { رحمة } بالنصب على أنه كما في «البحر» مفعول ثان لذكر والمفعول الأول محذوف و { عَبْدَهُ } مفعول لرحمة وفاعل { ذِكْرُ } ضمير القرآن المعلوم من السياق أي ذكر القرآن الناس أن رحم سبحانه عبده، ويجوز أن يكون فاعل { ذِكْرُ } ضمير { كۤهيعۤصۤ } بناء على أن المراد منه القرآن ويكون مبتدأ والجملة خبره، وأن يكون الفاعل ضميره عز وجل أي ذكر الله تعالى الناس ذلك، وجوز أن يكون { رَحْمَةِ رَبّكَ } مفعولاً ثانياً والمفعول الأول هو { عَبْدَهُ } والفاعل ضميره سبحانه أي ذكر الله تعالى عبده رحمته أي جعل العبد يذكر رحمته. وإعراب { زَكَرِيَّا } كما مر، وجوز أن / يكون مفعولاً لرحمة والمراد بعبده الجنس كأنه قيل ذكر عباده رحمته زكريا وهو كما ترى، ويجوز على هذا أن يكون الفاعل ضمير القرآن، وقيل يجوز أن يكون الفاعل ضميره تعالى والرحمة مفعولاً أولاً و { عَبْدَهُ } مفعولاً ثانياً ويرتكب المجاز أي جعل الله تعالى الرحمة ذاكرة عبده، وقيل: { رَحْمَةً } نصب بنزع الخافض أي ذكر برحمة، وذكر الداني عن أبـي يعمر أنه قرأ { ذكر } على الأمر والتشديد و { رحمة } بالنصب أي ذكر الناس رحمة أو برحمة ربك عبده زكريا. وقرأ الكلبـي { ذِكْرُ } فعلاً ماضياً خفيفاً و { رَحْمَةِ رَبّكَ } بالنصب على المفعولية لذكر و { عبده } بالرفع على الفاعلية له.

وزكريا عليه السلام من ولد سليمان بن داود عليهما السلام، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه آخر أنبياء بني إسرائيل وهو ابن آزر بن مسلم من ذرية يعقوب، وأخرج إسحٰق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس أنه ابن دان وكان من أبناء الأنبياء الذين يكتبون الوحي في بيت المقدس، وأخرج أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبـي هريرة مرفوعاً أنه عليه السلام كان نجاراً. وجاء في اسمه خمس لغات. أولها: المد. وثانيها: القصر وقرىء بهما في السبع. وثالثها: زكري بتشديد الياء. ورابعها: زكرى بتخفيفها. وخامسها: زكر كقلم وهو اسم أعجمي، والنداء في الأصل رفع الصوت وظهوره وقد يقال لمجرد الصوت بل لكل ما يدل على شيء وإن لم يكن صوتاً على ما حققه الراغب، والمراد هنا إذ دعا ربه { نِدَاءً } أي دعاء { خَفِيّاً } مستوراً عن الناس لم يسمعه أحد منهم حيث لم يكونوا حاضرين. وكان ذلك على ما قيل في جوف الليل، وإنما أخفى دعاءه عليه السلام لأنه أدخل في الإخلاص وأبعد عن الرياء وأقرب إلى الخلاص عن لائمة الناس على طلب الولد لتوقفه على مبادي لا يليق به تعاطيها في أوان الكبر والشيخوخة وعن غائلة مواليه، وعلى ما ذكرنا لا منافاة بين النداء وكونه خفياً بل لا منافاة بينهما أيضاً إذا فسر النداء برفع الصوت لأن الخفاء غير الخفوت ومن رفع صوته في مكان ليس بمرأى ولا مسمع من الناس فقد أخفاه، وقيل: هو مجاز عن عدم الرياء أي الإخلاص ولم ينافه النداء بمعنى رفع الصوت لهذا.

وفي «الكشف» أن الأشبه أنه كناية مع إرادة الحقيقة لأن الخفاء في نفسه مطلوب أيضاً لكن المقصود بالذات الإخلاص، وقيل مستوراً عن الناس بالمخافتة، ولا منافاة بناء على ارتكاب المجاز أو بناء على أن النداء لا يلزمه رفع الصوت ولذا قيل:

يا من ينادى بالضمير فيسمع

وكان نداؤه عليه السلام كذلك لما مر آنفاً أو لضعف صوته بسبب كبره كما قيل الشيخ صوته خفات وسمعه تارات، قيل: كان سنه حينئذ ستين سنة، وقيل خمساً وستين، وقيل سبعين، وقيل خمساً وسبعين، وقيل ثمانين، وقيل خمساً وثمانين، وقيل اثنتين وتسعين، وقيل تسعاً وتسعين، وقيل مائة وعشرين وهو أوفق بالتعليل المذكور. وزعم بعضهم أنه أشير إلى كون النداء خفياً ليس فيه رفع بحذف حرفه في قوله تعالى: { قَالَ رَبّ إِنّى وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنّى... }.